نهاية إسرائيل: جدلية الخطاب وحتمية الأسباب(عدنان أبو عامر)_4_
انعكاسات ودلالات:
إن ترديد مثل هذه المفردات والخطابات على ألسنة صنَّاع القرار الإسرائيلي وبصورة متواترة، يزيد القلق الإسرائيلي من تحقق هذا المصير الذي يجري التحذير منه، وسيدفع الحكومات لتخصيص الحيز الأكبر من سياساتها للقضايا الداخلية، بغية ترميم الأعطاب التي لحقت بالدولة على حساب الاهتمام بالمخاطر الخارجية.
وسيزداد هذا التركيز بصورة مطردة بالتزامن مع استمرار الأزمة السياسية والدستورية في إسرائيل، التي وصلت مآلاتها لاستقالة رئيس الحكومة، نفتالي بينيت، وتولي نائبه، يائير لبيد، مقاليد الحكم، والإعلان عن تنظيم انتخابات خامسة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وهذا لن يعني بالضرورة طي صفحة هذه الأزمة، لأن غالبية استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي أُجريت في الأيام الأخيرة، لا تمنح أيًّا من الأحزاب الفائزة في الانتخابات المقبلة القدرة على توفير 61 عضو كنيست ليكوِّنوا شبكة أمان برلمانية تحتاجها أية حكومة. هذا يعني استمرار حالة الانسداد السياسي الداخلي وعدم تشكيل حكومة مستقرة تحوز أغلبية برلمانية قوية، لتضع على أجندتها مواجهة التهديدات الخارجية وليس إرضاء حزب هنا أو عضو كنيست هناك؛ ما يعني استمرار عدم الاستقرار كما هو الأمر في السنوات الأخيرة.
وعند الحديث عن انعكاسات هذا الخطاب تجاه المخاوف الخارجية، فإن حالة عدم اليقين تجاه إمكانية اندلاع واحدة من المواجهات المحتملة في أيٍّ من الجبهات المحيطة بإسرائيل، تجعلهم أكثر توترًا وقلقًا، وأقل شعورًا بالاطمئنان تجاه قدرة الدولة على مواجهة هذه المخاطر، سواء بسبب عدم تفرغها للخارج وتركيزها على الداخل، أو بسبب حالة التباين بين مكونات صنع القرار، السياسي والأمني والعسكري، تجاه التعامل مع كل تهديد خارجي على حدة.
وفي الوقت ذاته، من الصعوبة بمكان اعتبار هذه التصريحات والتحذيرات المتواترة شأنًا داخليًّا، لأن الأطراف الخارجية، الأعداء والأصدقاء منهم، يتابعون هذا الخطاب المستجد على إسرائيل. فالأعداء يعتبرونه تعزيزًا لتقديراتهم أو ربما “تنبؤاتهم” ذات الأبعاد الدينية الغيبية التي يعتنقونها، وسيدفعهم لزيادة مواجهتهم لإسرائيل والضغط عليها أكثر للتعجيل بهذا المصير، وفي سبيل ذلك ستعمد هذه القوى لزيادة قدراتها العسكرية وإمكانياتها التسلحية، والمبادرة لخوض مواجهات قتالية تعمل على استنزاف إسرائيل.
أما أصدقاء إسرائيل فسيرون في الخطاب مصدر قلق رغم أنهم يعتبرونها قوة إقليمية أساسية في المنطقة، وبالتالي فإن صدور هذه المخاوف ومن داخل إسرائيل على مصيرها ومستقبلها، يضع علامات استفهام حول مدى وجاهة الاعتماد عليها. مع ملاحظة أن خطاب الخوف الإسرائيلي على المصير يتزامن مع زيادة معدلات التطبيع العربي-الإسرائيلي، من حيث تواصل الزيارات المتبادلة وتوقيع الاتفاقيات في مختلف المجالات، إضافة إلى الحديث المتواتر عن قرب إنشاء ما يقرب من حلف أمني إقليمي يضم إسرائيل وعددًا من الدول العربية في المنطقة.
ومن هذا المنظور، ليس من المستبعد أن الحراك الذي تبذله إسرائيل إقليميًّا لمحاولة دمج نفسها في منظومات المنطقة، قد يأتي في محاولة الحد من الخسائر الناجمة عن مخاوفها هذه التي عبَّر عنها قادتها، ولترميم الصورة المتصدعة التي نتجت عن تنامي وتوالي الإنذارات والتحذيرات مما قد ينتظرها في المستقبل.
خاتمة:
لا يُتوقع أن تتوقف هذه التحذيرات الإسرائيلية طالما أن الظروف التي دفعت لخروجها إلى السطح ما زالت قائمة، داخليًّا وخارجيًّا، بل قد تزيد مع مرور الوقت، لاسيما إن بقي الانقسام الإسرائيلي رأسيًّا وعموديًّا، من جهة، وتزايدت تهديدات القوى المعادية لإسرائيل، من جهة أخرى.
من الصعوبة بمكان الاستنتاج أن إسرائيل تذهب لهذا الخطاب بصورة طوعية، أي إنها تتحدث عن مخاوفها انطلاقًا من ترف فكري أو نقاش ثقافي بحت، بل إن الدافع لإثارة مثل هذه التساؤلات الوجودية نابع من مخاوف ذاتية حقيقية، تستشعر أن هناك خطرًا داهمًا على الدولة، قد يتسبب بانهيارها. هذا يعني أن إسرائيل ربما دخلت طورًا من التطلع لحماية بقائها على أفضل تقدير، والعمل على ترحيل ما ترى أنها أسباب فنائها، ما قد يعمل على تأخير تطلعها إلى مزيد من التوسع والتمدد الإقليمي والدولي.
لا شك أنَّ تعزز هذه المخاوف يدفع إسرائيل لأن تبقى في حالة استنفار عسكري دائم، سواء استعدادًا للمعركة المقبلة، أو خوض هذه المعركة، ومنح كل مواجهة منها صفة “المعركة الوجودية”، رغبة من الدولة في تحشيد جميع المكونات الإسرائيلية خلف الجيش، من جهة، وتأجيل الخلافات الداخلية التي قد تربك الساحة الإسرائيلية، وتشتت انتباهها عن المعركة الخارجية، من جهة أخرى.
والملاحظة الأخيرة هنا، أن التحذيرات والمخاوف من انهيار الدولة، صادرة عن نخب قيادية من صفها الأول -وتتجاوز لعبة الاستقطاب السياسي والمزايدة الحزبية- ما يؤكد جديتها وجدية أصحابها، وتضفي مصداقية على المخاوف من احتمال وقوع الدولة في فخ الاحتراب الداخلي.