نهاية الأسرة (ادريس أوهلال)
الأسرة كمشروع انتهت من زمان.. منذ اللحظة التي اخترعت فيها الدولة المدرسة لإلغاء مشروع الأسر مع أبنائها ورقابة الأسر على أبنائها واستبدالها بمشروع الدولة ورقابة الدولة.. يجب ألا ينسينا تطور أشكال المدرسة وتنوع مناهجها وظيفتها الأصلية: المدرسة هي مدرسة الدولة حيث تصنع الدولة من الأطفال عبيداً لها.. نجحت الخطة وتخلت الأسر عن أطفالها وسلمتهم لمدرسة الدولة.
أما الأسرة كمؤسسة لإعادة الانتاج البيولوجي مكونة من أب وأم وأبناء فهي في طريقها إلى الانقراض؛ فبعد الأسرة الممتدة والأسرة النووية ها هو ذا العالم يتحول تدريجيا إلى الأسر أحادية الوالدية Monoparentale.. فرصة للرأسمالية المتوحشة المفترسة لمضاعفة مداخيلها بمضاعفة عدد الأسر المستهلكة! (خلال ربع قرن تضاعف عدد الأسر أحادية الوالدية، وفي بعض الدول 1 من كل 5 أسر هي عائلات أحادية الوالدية، وهذه النسبة سترتفع أكثر خلال السنوات المقبلة بالنظر لمعدلات الطلاق المرتفعة عالميا).
إن الوظيفة الأولى للمدرسة كانت ولا تزال هي إلغاء دور الأسرة ورقابتها على أبنائها واستبدالها برقابة الدولة. صحيح أن المدرسة لم تتجاهل دور الأسرة، ولكنها حولته إلى دور هامشي عندما اعتبرتها مجرد شريك لمشروع المدرسة إلى جانب الشركاء الآخرين. هكذا أصبح الطفل موضوعا لمشروع المدرسة (أي مشروع الدولة) لا لمشروع الأسرة، هذا إن كان للأسرة مشروع.
النتيجة كانت كارثية، وقد عبّر عنها طوماس بيرنهارد في مقطع من رواية (السادة الأوائل)، يقول: “عندما دخلت إلى المدرسة، فأنا في حقيقة الأمر دخلت إلى الدولة. وبما أن الدولة تُدَمِّر كل الكائنات، فمعنى هذا أنني دخلت إلى المؤسسة المتخصصة في تدمير الكائنات. لقد أجبرتني الدولة على الدخول إليها، مثلما أجبرت كل الآخرين، وحَوَّلتني، مثلما حَوَّلت كل الآخرين، إلى كائن خاضع لها. لقد صنعت مني، ومن كل الآخرين، إنساناً منضبطاً ومُرَوَّضاً ومُشَوَّهاً ومُكْتئباً وحاملاً لشهادة”. وهكذا لم نعد نرى من حولنا إلا عبيداً للدولة، يقضون حياتهم بالكامل في خدمة الدولة، أي في خدمة كل ما هو مضاد للفطرة والطبيعة. ويحتاج هؤلاء العبيد للتحرر من عبوديتهم إلى فهم معنى “التعليم الأساسي”، ولماذا هو إجباري؟ هو “أساسي” لأن المسار الكامل لحياة العبودية ينبني عليه، وهو “إجباري” لضمان الحد الأدنى من السنوات الضرورية لترويض الجسد على هذه العبودية الجديدة.
كم كان أفلاطون ذكيا عندما اقترح في جمهوريته الفاضلة أن تقوم الدولة بنزع الأطفال من أسرهم وتتكفل بتربيتهم وفق توزيع مسبق للأدوار الاجتماعية، وكم كانت الدولة أكثر ذكاء ومكرا عندما عززت حظوظ نجاح هذا التنظير الأفلاطوني المثالي لإعادة الانتاج الاجتماعي باختراع واقعي اسمه المدرسة وإيديولوجية ماكرة اسمها “حقوق الطفل”، وكم كانت “الأسر الطيبة” غبية وجبانة عندما سلمت أبناءها للدولة لتقوم بإعدادهم في مدارسها ليكونوا خداماً أوفياء عند الدولة مستقبلا، وكم كانت “الأسر الحازمة” ذكية وحازمة عندما استثمرت في مدرسة الدولة بذكاء دون أن تتخلى عن رقابتها لأبنائها لصالح رقابة الدولة وعن مشروعها مع أبنائها لصالح مشروع الدولة. إن ما تمنحه المدرسة على علاته مهم لمن يتقن استثماره بذكاء، لكنه خطير على من لا يفهم اللعبة.