هل تحولنا جميعا إلى خبراء في السياسة الدّوليّة؟(عز العرب الحكيم بناني)
هل تحولنا جميعا إلى خبراء في السياسة الدّوليّة؟توجد ظاهرة غريبة منتشرة في كلِّ الأوساط الاجتماعيّة والثقافيّة، وتظهر في صورة مفارقة تكاد تكون عجيبة بين مسألتين مختلفتين، وتستدعي منّا التأمّل عن قرب. من خلال الحروب التي اندلعت مؤخرا في عقر القارة الأوروبية، ونتيجة الحروب التي تعاني منها الدول العربية في اليمن والصومال وسوريا، كنت أتساءل مع نفسي، كيف يتعايش السكان مع عواقب تلك الحروب على حياتهم اليوميّة. شاءت الصُّدف الجميلة على امتداد حياتي المهنية أن أتعرف على طلبة وأستاذات وأساتذة ومواطنين ينتمون إلى هذه الدُّول، واحتفظت بعلاقات طيبة مع بعض من هؤلاء. وبين فترة وأخرى، كنت أفاجأ برسائل قصيرة تصلني من زميلات وزملاء تقول: “هذا شيء مرعب ! نحن نعيش الآن داخل الأنفاق ! ” لا يمكن أن نتخيل حجم انهيار أحوال العائلات والأسر وتفكك العلاقات الاجتماعية وانتقال الإنسان، سواءً كان عاملا أو تاجرا أو مواطنا بسيطا أو موظفا من الحياة الكريمة الآمنة إلى مجرد لاجئ ومهاجر وباحث عن النجاة من الموت. أكاد أشعُرُ شخصيا بعدم الأمان وبهشاشة الإنسان وأنا أرى كيف ينقلب مصير الإنسان في لحظة واحدة رأسا على عقب.ما يدعو إلى الاستغراب حقيقة، هو أنّني عندما أثير مسألة هشاشة الإنسان نتيجة الحروب الطاحنة، لا أجد إلا جوابًا واحدًا في صورة سؤال استنكاري: “من المسؤول عن ذلك؟” أنا أنطلق بطبيعة الحال من معرفة بعض ضحايا الحروب في اليمن وسوريا وأوكرانيا، وأعرف جيّدا ما هو المصير الذي يهدِّدُ البشريّة في المستقبل نتيجة توسع داءرة الحروب. غير أنّ بعضا منا يتجاهل مباشرة مناقشة هذه القضايا الإنسانية الملموسة إلى مناقشة السياسة الدّولية: “ألم يكن من الواجب على الدُّول أن تراعي موازين القوى؟ ألمْ يَحِنِ وقت الخروج من القطبية الواحدة؟ ألم يحصل المعسكر الشرقي البائد على ضمانات عدم التوسُّع؟ أليست كلُّ الحروب في سوريا واليمن حروبا بالوكالة؟” كان يكفي لي ان أثير نقاش موضوع الحروب الدّولية حتى يتحوَّلَ كلُّ واحدٍ منّا إلى خبيرٍ في السياسة الدّوليّة، أو يَعُود إلى الأسباب والعوامل التاريخية التي أطلقت شرارة الحرب. أتخيّل في لحظة كما لو أنَّ هناكَ عقلاً خفيّا يحكم العالم على ظهور البشر، ويبدو لي أنّني أتحدَّثُ في واد بينما يتحدَّثُ خبراء السياسة الدولية أمامي في وادٍ آخر. أنا أستحضر المواطن والطالب والأستاذ الذين تحولوا إلى لاجئين، من زاوية التعاطف الوجداني، وهذا شعور طبيعي في الإنسان، بينما نتحدَّث جميعا عن خيوط العنكبوت التي تُحرِّكُ السياسة الدولية، دون أيّة دراية بالواقع الملموس الذي يعيشه الإنسان.هذا الشعور الوجداني بالتعاطف مع مآسي الإنسان تحت المدافع أو تحت الأنقاض، يُعطي اليوم معنى معقولا لوجود المنظمات الأمميّة الخاصة بالهجرة واللجوء وبرامج التغذية العالمي والإسعاف الصحي. حينما ننتبه إلى أنَّ الحرب قد تحوّلُ حياة كلِّ واحدٍ منّا إلى جحيم، نعلم أنَّ السياسة الدّولية لا تحتاج إلينا كي يفهمَها غيرُنا، لأنّنا ببساطةٍ لسنا خبراء. المفارقة هي أننا نعبُرُ القارات بأذهاننا لتفكيك موازين القوى في السّياسة الدّولية، ولا ننتبه إلى المهاجرين واللاجئين وضحايا الحروب من حولنا. قد يشهد العالم نهاية العولمة والليبرالية والقطب الواحد وظهور ستار حديدي جديد بعد ثلاثين سنة من النعيم. وقد نشهد استفحال ظاهرة الهجرة واللجوء والتّيه عبر العالم بسبب الحُروب، وقد يصبح من المنطقي أن نواجه هذه الظواهر الجديدة بفضل دعم مهارات المجتمع المدني والتلاميذ في المدارس، من خلال دروس في الموضوع. ربما نحتاج الى تكوين صورةٍ واقعيّةٍ عن ضحايا الهجرة واللجوء في المدارس والجمعيات والمؤسسات الوطنية، حتّى تزول المفارقة بين النظرة السياسية المجرَّدة إلى المجتمع الدّولي والنظرة الواقعية المتعاطفة مع ضحايا الحروب الذين يعيشون بيننا.