هل تقتصر وظيفة الرواية على الهدم؟(عبد القادر الدحمني)
يطالعنا العديد من الروائيين والمشتغلين بالنقد، بمجموعة من المقولات التي تحاول أن تؤسس لفهم واحد وتوجه وحيد، على افتراض أن الرواية يجب أن تستمسك به ولا تحيد عنه، بوصفه براديغما لا تنفكّ عنه بحكم طبيعة نشأتها والشروط التي التبست بتلك النشأة وحكمت تبعا لذلك توجهها.. مثل أن الرواية لا يهمها تقديم الأجوبة بقدر ما تسعى إلى طرح الأسئلة، وهي معنية بالهدم لا بالبناء، وهي منشغلة أساسا بالمهمش والفضائحي وغير المُكرّس، ولا اهتمام لديها خارج نفسها الثوري وحرصها على زعزعة الأنساق والتشكيك في المطلقات، والتمرّد على القيم السائدة والأعراف القائمة.. وهلم جرا من العبارات التي تحمل نبرة ادعائية عريضة، وتخفي وراءها مغالطات عديدة، وتحاول تنميط الإبداع وجلها حلقات ثورية مستدامة بشكل عبثي لاهث لا تعقله قيمة ولا يشدُّه مبدأ ولا ينضبط لهدف ولا يعترف بمرجعية..
ولا ننكر أن الرواية تسهم بشكل كبير في تحرير الفكر من أحاديته، وتبتكر مساحات أوسع لتأمل المسار الإنساني على الأرض، وتمتلك مقومات عدة تمكنّها من الإحاطة ببعض الظواهر وتعميق النظر في “مأزق” الوجود االإنساني وتعقّده الكبير..
لا أحد ينكر أيضا أن الرواية تتيح هامشا أكبر لطرح الأسئلة وزرع بذور التشكيك في بعض “الحقائق”، وإعادة النظر في العديد من “المسلّمات”، وتمكّن من معالجة قضايا عديدة لا يُلتَفتُ إليها، ولا تصلها الأضواء، ولا تتمكن المقاربات غير الأدبية، من الإحاطة بتفاصيلها وسبر أغوارها.
لكن أن تُأْخَذَ بعض العبارات، بمثابة قوانين ثابتة في الإبداع الروائي، يتلقّفُها بعض مبدعينا ونقادنا بوصفها حقائق لا يرقى إليها الشك ولا تطالها النسبية ولا يعتريها الضعف والتناقض والتهافت، فهو أمر يفرض توضيحَه ومناقشتَه لتبيان نسبيته وادِّعائيته، بل ومناقضته لجوهر الإبداع ذاته أحيانا.
لننطلق أولا من أن الرواية، جنس أدبي يتطوّر بشكل كبير، وأنه نجح في تصدّر المجال الأدبي، إبداعا ونقدا وتلقيا واحتفاءً، وهو أمر ليس بعيدا عن دوائر التكريس وصناديقه التي توجه الأذواق والميول، وتنتصر لتوجهات دون اخرى، وتشجع تيارات ومدارس أدبية على حساب أخرى، كما أن ليس بعيدا أيضا عن منطق “المركز” الذي يعطي شهادة “حسن الإبداع” ويزكّي النجباء ويفتح لهم مجالات الشهرة والأضواء والمواقع، وبناء على ذلك، قد يشكل الأدب في دول العالم النامي، وعلى رأسه الرواية، حاملا من حوامل الاستتباع الثقافي، وخدمة “توجّهات الهدم” العامة، بالقدر نفسه الذي يمكن أن يكون عامل بناء لقيم بديلة ومؤسس لعقلية ونفسية تؤهل الشعوب لتبني توجهات جديدة.
إن الادعاء بأن الرواية، بطبيعتها، لا يهمها سوى الفضيحة وإعمال النقد والنقض والهدم، والقول بأنها لا تشغل بالها أبدا بالبناء، وأن ما يهمها أساسا هو ممارسة التعرية والإشارة إلى مكامن العوار، وكشف التناقض، ادعاء لا يستقيم عند أدنى نظر عقلي، ولا يثبت عند التمحيص و”الافتحاص”، إذ كل هدمٍ يضمر بالضرورة موقفا إزاء البناء وتصوّرا له، أقله عدم رضى عن طبيعة البناء القائم وسخطا إزاءه لدواع وأسباب وانتقادات، فالهدم إذا، يمتلك، ولو في الحد الأدنى، تطلعا إلى بناء جديد مخالف للبناء القائم، وكل هدم يحمل بالضرورة نبرة تبشيرية عائمة، تَعِدُ ببناء جديد أجمل وأمتن وأنسب..، ثم، ألا يشكل الهدم نفسه مرحلة من مراحل البناء؟
إن الأدب من شكل من أشكال تفاعل الإنسان مع العالم ومع “مأزق” وجوده فيه، ومحاولات تفسير هذا الوجود، والتعبير عن قلقه وتوجسه، والتعبير عن خوفه وشعوره ورغباته، وترجمة لواعجه وتطلعاته وشكوكه، إضافة إلى أن الوعي بتأثير الأدب، أضاف وظائف أخرى للأدب، تشمل الرغبة في التواصل والتأثير والإشراك وإثارة الإعجاب، والاستمالة، والسيطرة، والإيهام، والتعويض والادعاء…، وغيرها من الأهداف النفسية الوجدانية والاجتماعية السياسية. والأدب بهذا لا يتخصص في معرفة “الشر” وحده، ولا يكتفي بوصف “الخير” والاحتفاء به.
إن الأدب بشكل عام، وبعيدا حتى عن الخير والشر المرتبطين بمرجعيات الوحي الديني، هو تعبير عن مأزق الحياة وإشكالية وجود الإنسان وعبوره الذي ينتهي بالموت والأسئلة الكبرى التي تؤرق الإنسان عمّا بعده، وعن جدوى الحياة أصلا ما دامت تنتهي بالموت والفناء. وهو بذلك، أي الأدب، لا يمكن بتاتا أن يتغاضى عن الحياة في شموليتها، ولا أن يعالج ما يعتقده “شرّا” دون أن يطرحه ضمن سياق يتضمّن “الخير” المضاد له، فلا وجود لمفهوم دون الآخر، بل إننا لا نعرف الشر إلا بالخير، ولا نقدّر الخير إلا بمعرفتنا الشرّ وإدراكنا لسوئه.
ولئن كانت بعض الروايات تركّز على بعض مظاهر السوء، فإنها لا يمكن أن تبرع في وصف السوء إلا بعرضها على مظهر مناقض، عبر مرآة عاكسة، تجلّي الفهم، وتنير الدلالة، ولو كانت هذه القيم المضادة مجرد رموز ووعود ضمنية يسلّم المتلقّي بأنها أفضل من السوء المرصود، و”الشر” الموصوف. وبنفس المنطق، لا يمكن لأدب ما أن يدّعي حرصه على الانتصار “للخير”، دون أن يعالج “الشر” ويعرفه، ويفككه.
إن العملية لا تكون دوما قصدية مباشرة، إنها غَزْلٌ تقودُه الرؤية الناظمة، والحرفة السردية، وينتصر فيه الرهان على الجمال والإقناع الجمالي، بالتركيب، والحبكة، والعمق، ودرجة الوصول إلى مكامن الالتحام مع المتلقي، ودرجة القدرة على صياغة عالم سردي مقنع ومبهر، لغة وبناء، فكرا وجمالا.
إن الرواية، لايس مطلوبا منها أن تهدم أو تبني، وليس مطلوبا منها أن تتصنّع توجّها أو تُعلنَه، وليس المنتظر منها أن تمارس معارضة ولا أن تبشّر بثورة أو تعبئ لها، إن المطلوب من الرواية كما أعتقد، أن تكتب الإنسان في كل حالاته، أن تلامس أوجاعه ولواعجه، وتسعى إلى الإمساك ب”حقيقته” أينما حلّت، اختفت أو برزت، وأن تحفر جذور ما يؤرقه ويخيفه، وأن تكشف مكامن قوته وضعفه، ومثيراته ومثبطاته، إن الرواية مصاحبة للإنسان في اشتباك علاقاته وتعقّد حياته، وتفكيك لتأثيره وتأثره، وصيغ تعاطيع مع محيطه البيئي والاجتماعي وكبسولته الزمنية الخاصة/ عمره وجيله.
إن تبنّي بعض المقولات العامة التي أصبحت بمثابة كليشيهات يرددها المثقفون، من أن الرواية وظيفتها الهدم والفضيحة وتتبع عورات المجتمع، هو اختزال يناقض وظيفة الأدب بشكل عام، وهو تقزيم لأدوار الرواية التي طالما كانت مشتبكة مع المعرفة وحاملة لها، وبانية للقيم. وإن أشد ما يهدّد سلامة تمثلاتنا هي هذه الاختزالية المدرسية التي نتلقّى بهلا المفاهيم دون تمحيص، ونرددها دون إمعان نظر، وتنعكس على ممارستنا لإبداعنا الروائي كما يُرادُ لنا أن نكون ذيليين، نخدم أجندة منمّطة، لا تتوقّف لتجذّر أسئلتها الذاتية من داخل بيناتها الفكرية والاجتماعية، ولا تجرؤ على مساءلة “المبتكر” الأصلي للجنس الأدبي، والدخول معه في سجال سواء حول الشكل أو المعنى، وهو سجال تفرضه كل عملية مثاقفة واعية، بعيدا عن منطق الاستتباع الثقافي كما أشرنا.