هل يجوز تبرير الحرب باسم المصلحة الوطنية؟ (عز العرب الحكيم بناني)
يشعر كثير من المثقفين ورجال السياسة في هذا الوقت بالذّات بحرج شديد. قلوبهم مع معاوية وعقولهم مع ضحايا الحرب واللاجئين. لم يعد لدينا اليوم مبرِّرٌ إيديولوجيٌّ لتقبُّل العدوان. كنّا لا زلنا نقبل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم السّياسيّة والعدوان باسم العقل والأنوار ومواجهة الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة.كان جول فيري Jules Ferry مؤسّس التعليم العمومي والإجباري بعد ميلاد الجمهورية الفرنسية سنة 1871 قد دافع عن الاستعمار من أجل نشر التنوير والحداثة خارج الغرب. كانت جرائم الاستعمار مقبولة بدافع نشر قيم العقل. كما قام الاتحاد السوفياتي بالتوسع شرقا وغربا من أجل نشر قيم الاشتراكية والدفاع عن العمال ومواجهة الإمبريالية. وقد كان المناضلون من أجل هذه القيم النبيلة – في حد ذاتها- يجدون حججا إيديولوجية كافيةً لتبرير الستالينيّة والماويّة. وعندما انهار جدار برلين انهارت الإيديولجية السوفياتية؛ وحاول بعض كبار المُنظّرين خلال تلك المرحلة أن يغادروا المركب قبل غرقه. فقد اعتنق روجي جارودي الإسلام وواصل البحث في علم الجمال من زاوية الفنون الإسلامية (فنون المعمار في المساجد والمدارس)، كما تخلى الألماني زاندكولر H-G. Sandkühler عن فلسفة العلوم الماركسية واعتنق المنظور الكوني لحقوق الإنسان. وقد سار أغلب المثقفين على نهجه بعدما انتقلنا من الأمميّة الشيوعيّة إلى الأمميّة الحقوقيّة. لا يعني ذلك أنَّ الماركسيّة قد ماتت، إذ لا تزال حاضرة على صعيد البحث العلمي في الجامعات وفي بعض المذاهب السياسيّة التي ظلت تواجه المذاهب الليبراليّة التقليديّة والرأسمالية المتوحشة. لكن هذه المذاهب لا تستطيع أبدا أن تجد مُسَوّغا معقولا لاجتياح دولة أخرى تريد الحفاظ على سيادتها، وعلى حرية القرار، ولو أنّ المُبرِّرَ المعقول الوحيد هو التالي، وهو مبرّرٌ متداول في أوساط خبراء السياسة:كان الوضع الجديد الذي أعقب سقوط جدار برلين نتيجةَ اتفاق بين المعسكر السوفياتي والمعسكر الغربي، وهو أن يتمَّ اقتسامُ أوروبا على نحوٍ لا يُجيزُ لحلف الناتو أن يتوسَّعَ في القسم الذي كان يدخل في منطقة نفوذ الاتحاد السوفياتي البائد. وعندما تراجعت دول حلف الناتو عن هذا الوعد أصبح من حقِّ روسيا أن تتدخل في سيادة جورجيا (2008) من أجل تشجيع الحركات الانفصالية هنالك وفي سيادة القرم، ثم في سيادة دولة أوكرانيا بكاملها. هل يوجد مبرّرٌ منطقي ومعقول لذلك؟لقد بدا في البداية أنَّ الانتقال من تبنّي الإيديولجية السوفياتي إلى تبنّي الشّرعة الدولية لحقوق الإنسان قد فتح الباب أمام نظام حقوقي عالمي جديد ستصادق عليه دول المعمور، من أجل استتباب السلم الدولي. المفارقة هي أنه قد تحقَّقَ اندماج دولي في مجال الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، أصبح مجلس حقوق الإنسان قادرا على إرسال المقرر الأممي إلى الدول التي صادقت على اتفاقياته؛ لكن، تزايدت حركات الانفصال السياسي قوة وتعاظمت الرغبة في الهيمنة الاقتصادية على العالم وفي اقتسام الموارد بين الدول العظمى. المفارقة هي أنه بقدر ما أصبحت المبادئ المعيارية قادرة على لمِّ شمل دول العالم، بقدر ما أصبح التوتر السياسي عبر العالم قادرًا على هدم المرجعية الحقوقية الدولية. تعني المفارقة أن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان إيديولوجية جديدة ، في رأي من يناهضونها، تخدُمُ مصالح الدول الليبرالية، لأنها تخدُمُ القطب الليبرالي الوحيد الذي يريد الهيمنة على العالم. نحن فعلا أمام مشكلة، بما أنّنا كنّا نعتقد إلى عهد قريب أنَّ الالتفاف الدّولي حول حقوق الإنسان كاف لحلِّ النزاعات الدّولية. وقد تبيَّن أنَّ الالتزامات الأخلاقية غير كافية لمواجهة الصراعات السياسية. غير أنَّ الدول غير الليبرالية تعتقد أنَّ سمو القانون الدولي فوق القانون الداخلي يدعم الهيمنة الليبرالية باسم حقوق الإنسان ويضعف حضورها على الصعيد الدّولي.هل نستطيع في هذا الوضع أن نبرِّرَ اجتياح أوكرانيا لاعتبارات تتعلق بتقسيم مراكز النّفوذ بين الدّول العظمى؟ هذه هي الحجّة الروسية التي تعتبر أن قانون القوة هو الذي يحكم. من يملك القوة يملك الحقَّ. هذا صحيح وغير صحيح؛ يمكن لأيِّ شخص أقوى مني أن يعتدي علي ويسلبني أموالي؛ لكن إملاء القوة لا يفرض علي أن أتنازل عن حقوقي. قد يفرض توازن القوى تقسيم العالم العالم إلى الدول العظمى، وقد ينصاع الإنسان المظلومُ للعدوان، لكنه يظل عدوانا غير مقبول من جانب الحقِّ في الأمن والسلامة الجسديّة والحرية. تتغلب القوة على الحق وفقًا لموازين القوى على المدى القريب، لكن الحق هو الأقوى على المدى البعيد. لا يزال قانون القوة مهيمنا على المدى القريب، لكنَّ فكرة الحقِّ Idee des Rechts، بالمعنى الذي ذهب إليه هيغل هي التي تنتصر عبر التاريخ. يقول هيغل في أسس فلسفة الحق: “كلُّ ما لا يدخل ضمن فكرة الحق يملك وجودا عابرا، يخضع للمصادفات الخارجيّة وللرأي وللظاهر بدون جوهر.” (هيغل نشرة Meiner 2013ـ، ص. 21). فكرة الحقّ مثل قطرة الماء التي تحدث ثقوبا في الحصون الإسمنتية المنيعة على المدى البعيد، بما أنّها تمثل قوة القانون.