وحدانية التسلط.. ابن رشد متحدثًا عن أحوالنا! (د. معتز الخطيب)
كيف يمكن لفيلسوفٍ كابن رشد (595هـ) أن ينظر إلى الحالة السياسية اليوم؟ ماذا كان ليقول في الاستبداد السياسي الذي نعاني منه والمآل الذي آلت إليه ثورات الربيع العربي؟ الإجابة على هذا السؤال يمكن أن نجدها في كتابين من كتب ابن رشد، الأول كتاب “الضروري في السياسة” الذي بناه على كتاب “السياسة” لأفلاطون مع إضافات وتعديلات، والثاني: كتاب “تلخيص الخطابة” الذي لخص فيه كتاب أرسطو.
انشغلت الفلسفة اليونانية (بالمدينة) التي تعبر عن فكرة الدولة، و(بالنفس) الإنسانية، وهذا مبني على تَصَور العلوم وتقسيمها – كما أوضحه أرسطو – والذي يدور على قسمين: العلوم النظرية والعلوم العملية، فالعلوم العملية هي تلك التي يُعمل بها، وهي في التصور اليوناني (علوم مدنية) ترتبط بالمدينة سواءٌ تعلقت بالفرد أم بالجماعة، وتشتمل على ثلاثة علوم: تدبير النفس (الأخلاق)، وتدبير المنزل (الاقتصاد)، وتدبير المدينة (السياسة). فالأخلاق هو علم سياسة نفس الأفراد، والسياسة هي سياسة نفس المدينة، وبناء على هذا أقام فلاسفة اليونان توازيًا بين (النفس) وبين (المدينة)، فالنفس تتكون من ثلاث قوى: القوة الغضبية (مركزها الصدر) والقوة الشهوية (مركزها البطن)، والقوة العاقلة (مركزها الرأس).
وكذلك المدينة تتكون من ثلاث طبقات: الرؤساء والجنود والعمال والفلاحين. وهذه الطبقات الثلاث لنفس الفرد والمدينة تدور على ثلاث فضائل: فالنفس الغضبية تدور على فضيلة الشجاعة، والنفس الشهوية تدور على فضيلة العفة، والنفس العاقلة تدور على فضيلة الحكمة، ونتيجة التوازن (تَحَكم النفس العاقلة بالنفسين: الشهوية والغضبية) تتولد فضيلة رابعةٌ هي العدالة، فالرؤساء يجب أن يتمتعوا بالحكمة (الفلاسفة)، والجنود يجب أن يتحلوا بالشجاعة لحماية المدينة، والعمال يجب أن يتحلوا بالعفة؛ حتى لا تغلبهم الشهوات. ولكن ما صلة هذا كله بأوضاع الاستبداد في الدولة القائمة اليوم؟
يتحدث ابن رشد عن أربعة أنواع من المدن: المدينة الفاضلة، ومدن التغلب، ومدن الشهوة، ومدن الضرورة.
1- فالمدينة الفاضلة (الاجتماع الفاضل) يُقصد به أن يُجعل لكل واحد من أهل المدينة الفاضلة نصيبٌ من السعادة على قدر ما في طبعه من ذلك، ولذلك فإن الغرض من السياسة الملوكية الفاضلة هو نَفْع المدنيين كما هو الحال في عامة الصنائع التي يُقصد بها النفع العام.
2- أما مدن التغلب فهي على النقيض مما سبق، وهي المدن التي يُقصد من اجتماع أهلها وسعيهم إلى الكمال قصدٌ واحدٌ وهو قصد الشخص المتغلب في الوصول إلى ما يضعه هو غايةً لنفسه، كقصد شهوة التسلط وحدها، أو شهوة الكرامة، أو شهوة اليسار، أو شهوة التمتع باللذات، أو هذه الشهوات جميعها. وقد بيّن ابن رشد أن الناس في هذا الاجتماع لا يطلبون غايةً يقصدونها سوى خدمة المتسلط والاستجابة إلى إرادته، فهم أشبه بالعبيد (إن لم يكونوا عبيدًا فعلاً)!
3- أما مدن الشهوة: فهي تلك التي يكون قصد أصحابها في اجتماعهم هو الوصول إلى اللذات الحسية من مأكل ومشرب ومنكح وغير ذلك.
4- ومدن الضرورة هي التي يكون قصد أصحابها في اجتماعهم الحصول على ما هو ضروري (حفظ الحياة مثلاً) وما يحصل به ما هو ضروري كالفلاحة والقنص (الصيد).
وإذا كان ثمة تَوَازٍ بين المدينة والنفس، وترابطٌ بين علمي الأخلاق (سياسة نفس الفرد) والسياسة (سياسة نفس الجماعة) فإن هذه المدن الأربع هي نتاج سياسات متباينة ومتعددة الأنواع؛ لتباين أخلاق النفس، ومن هنا يمكن أن نميز بين نوعين من السياسات يتحدث عنهما ابن رشد نفسه، الأولى: سياسة الخسة، والثانية: سياسة التسلط.
فالسياسة الأولى سياسة (أصحاب الخسة أو النذالة) – بتعبير ابن رشد – وهي التي يتسلط فيها المتسلطون على المدنيين بأداء الإتاوة والتغريم، ليس لأجل الإنفاق على الجنود الحُماة والحَفَظَة (الجيش)، ولا لأجل تطوير المدينة، وإنما يجمعون الثروة لأجل الرئيس الأعلى فقط. فإن جَعل الرئيس للناس حظًا من الثروة سُميت رئاسةَ الثروة، وإن لم يجعل لهم حظًّا من الثروة سميت رئاسةَ التغلب وكانوا بمنزلة العبيد للرئيس، ويكون دفاعه عنهم بمنزلة دفاع الإنسان عن عبيده.
أما السياسة الثانية وهي سياسة التسلط (يستعمل لها ابن رشد تعبيرًا مهمًّا هو “وحدانية التسلط”) فهي السياسة التي تتحول عن سياسة المدينة الجماعية (مدينة الجماعة/دولة الشعب)، وهي سياسة تبدأ بالتدريج حين يبدأ الرئيس فعل التسلط حتى يصير في نهاية الأمر متسلطًا بإطلاق. ويحصل ذلك التسلط حين يجد الرئيس المتسلط في أول أمره جماعةً تُطيعه بإلحاق الضرر بمن يرغب هو في إيذائه وزجره بالإكراه، والفتكِ بمن يريد هو الفتكَ به، ولا يزال الرئيس هكذا يُسلّط صنفًا من الناس على صنف آخر إلى أن يصبح عدوًّا لغالبية سكان أهل المدينة، وعندها إما أن يُجمعوا أمرهم على قَتله وإما أن يَبسط سلطانه عليهم ويتغلب على الجميع فيصير (وحدانيَّ التسلط).
وسياسة التسلط تتفاعل فيها سياسة الخارج مع سياسة الداخل، فإذا سالَمَ المتسلط الأعداءَ الخارجيين بالتصالح مع بعضهم وقهر بعضَهم الآخر عاد إلى داخل مدينته يُثير بين أهلها الحروبَ باستمرار ويستولي على أموال أهلها ويجعلها له؛ ظنًا منه أنه إذا ما سَلَبهم أموالهم فإنهم لن يستطيعوا خَلْعَه، فينشغلون بأنفسهم والبحث عن قُوْتهم اليومي. ولا ريب أن المتسلط كلما انهمك في هذه الأفعال عَظُم عداؤه لأهل مدينته واحتاج إلى أن يكون حراسُه القاهرون أكثرَ عددًا ليكون هو أكثرَ أمنًا وحمايةً، وإنما يتهيأ له هذا إذا اتخذ قومًا أشرارًا غرباء من غير أهل المدينة يأتي بهم من كل فَجٍّ؛ إذا ما وَفَّر لهم العطاء، ويكون هؤلاء هم خاصتَه وأهلَ ثقته، ويَفتك بأولئك الذي نصّبوه سيدًا على الجماعة/المدينة.
وحال وحدانيّ التسلط كما يصفه لنا الفيلسوف ابن رشد هو أنه استسلم للقوة الشهوية، أي أنه التفت إلى أخسّ جزءٍ من قوى نفسه الثلاث، ولم ينظر إلى أشرف الأجزاء فيه (وهو العقل) لا قليلاً ولا كثيرًا، وهي حالة يشبهها ابن رشد بحال المجنون والسكران، ويقول إن عقله مثلُ عقله، ولذلك “فحكمه وحاله من جميع الوجوه كحال المجانين والسكارى، وأمثال هؤلاء المختلين لا يريدون الرئاسة على الناس فقط بل على الملائكة لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً”.
وحدني التسلط هو بتعبير ابن رشد “رهين الرغبة والرهبة، في نفسه شَرهٌ جامحٌ، وليس له على نفسه سلطانٌ، ولذلك ليس له أن يتجه إلى أي مكان يرغب فيه ولا أن يُجيل الطرْف فيما يريد، إنما يعيش محتجبًا في البيت. فهو أبدًا في تَوتر دائم، ومَنْ هذه صفته فهو ضعيفُ النفس وحسودٌ ظالمٌ لا يُحب أحدًا من الناس، ولا ريب أن يكون اليومُ الذي يواجه فيه مآلَه ومصيره يومًا عسيرًا”. تُرى هل لا يزال ابن رشد حيًّا يعاين ما نعاين حتى يصف هذا الوصف الدقيق؟