وداعًا غورباتشوف: حينما وقع المصلح ضحية الإصلاح(عز العرب الحكيم بناني)
أتذكر دومًا مفارقة أداء أجر المعلم لدى السوفسطائي. طلب المعلم من المتعلم أداء واجب التعلم، كما كان متفقا عليه، فأوقع السوفسطائي المعلم في إحراج منطقي بعد أن انتهى من تعليمه وإخراجه من جهله: سنقوم معًا بمباراة اختبار ما تعلمته منك: إذا ما غلبتك لا أدفع لك أتعابا لأنك لم تسهر على تعليمي بشكل جيد وإذا ما غلبتني لا أدفع لك أتعابا بما أنك لم تقم بتعليمي بما يكفي. خلاصة القول أنَّ المعلم يعلم جيدا أنه سيخسر التحديات التي يرفعها الجاهل أمامه إذا ما أحسن المعلم تعليمه؛ كأن لسان حاله يستشهد بالمثال العربي: علمته الرماية فلما اشتد عوده رماني.ومع ذلك، لا يزال المعلمون يعلمون، لأنَّ الناس الذين يتعاملون بكامل الجدية مع المفارقة المذكورة ويأخذونها على ظاهرها لا يخافون من فقدان سلطتهم نتيجة ارتقاء مستوى المعرفة ومحاربة الجهل وتزايد الوعي. في مقابل ذلك، يدفع الخوف من فقدان السلطة لدى الشخص النرجسي إلى التعامل مع المعرفة والحس النقدي وتنمية الفكر بالقدر الذي لا يؤثر على مكانة الشيخ لدى المريدين.يصدق على المصلح ما يصدق على المعلم. يعلم المُصلح جيّدًا أنّه قد يسقُطُ ضحيّة الإصلاح الذي سيقوم به. من يقدم على إصلاحات حقيقية وبنية صادقة، يصبح سقوطه ضريبة الإصلاح، ومن يضع قواعد شفافة للديمقراطية، يصبح أول ضحاياها. مثلا، من ينشئ جمعية وينظم انتخاباتها بشكل شفاف، يعلم جيدًا أنَّه قد يصبح أول ضحايا الانتخابات، ما لم يقم قبليًّا بضمان موازين القوى في الكواليس، بصورة شبه شفافة.لذلك، أقول وداعا لغورباتشوف لأنه كان ضحيّة إصلاحاته، وضحيّة مصطلحين أبدعهما وهما البيريستويكا وتعني إعادة الهيكلة الاقتصادية والكلاسنوست وتعني الشفافية بوجه عامّ. لا أدري هل كان ساذجًا إلى درجة أنّه لم يكن يعلم أنّ إصلاحاته قد تؤدّي إلى انهياره وانهيار آخر إمبراطورية روسية كبرى. كان بإمكانه أن يُدخل إصلاحات على الإمبراطورية السوفياتية دون أن يفقد أجزاء كبيرة من أوروبا الشرقية، ودون أن يفقد ألمانيا الشرقيّة. كان بإمكانه أن يُرسل الجيش إلى حائط برلين يوم 9 نونبر 1989 ليحافظ على نفوذ بلده. لم يفعل ذلك، لأنه كان يعلم أن الظلم هو أن يظل قسم كبير من الألمان محتَجَزًا طيلة أربعين سنة، وكان يعلم أن مئات القتلى سقطوا في محاولة العبور إلى الأرض الأمّ، وكان يعلم أن تلك الدولة الألمانية الديمقراطية كانت قائمة على أساس سياسي وهميّ. كان يعلم أنَّ رجوع المحتجَزين إلى الوطن الأمّ يعني نهاية حياته السياسية.كان يعلم أن الإصلاحات التي أقدم عليها جذرية وستغيّر مجرى العالم؛ وهي تعني في ذات الوقت نهايته، مع سقوط الإمبراطورية يوم 25 دجتبر 1991.خرج المصلح خائبًا، في المنفى والعزلة ونكران الجميل والتخوين.يعتقد الكثيرون أن سقوط حائط برلين ليلة التاسع من نونبر كان نتيجة زلة لسان للوزير شابوفسكي حين أجاب عن سؤال صحفي إيطالي، متى يمكن السفر من برلين الشرقية إلى برلين الغربية، فإجاب بعفوية: في الحال unverzüglich. والحال أنّه لولا امتناع غورباتشوف عن إرسال الدّبابات إلى الحدود لما تمَّ فتح الحدود. كان مصير المحتَجَزين الألمان في يد روسيا التي رفعت يدها عنهم وسمحت لهم بالعودة إلى الوطن الأم. كلُّ المواطنين الذين عاشوا محتَجَزين في ألمانيا الشرقية يعترفون بفضل غورباتشوف عليهم. وقد لمست ذلك عن قرب في برلين الشرقية خلال صيف 1986لقد قضى الإصلاح على المصلح، بطبيعة الحال، لكنّه سمح باجتماع عائلات ظلت مشتّتة ومنقطعة الأوصال مدّة أربعين سنة. وهذا ما يصدُقُ على المحتجَزين في تندوف وفي كلّ البلدان التي ترفض الإصلاح خوفًا من عواقب الإصلاح.