”الائتمانية” نظريةً لحل المعضلات الأخلاقية العلمية:(محمد أوريا)
مقدمة
حاولت الحداثة الغربية تأسيس أخلاق عقلانية لا دينية، فقَطَع العقل مع الماورائي وفُصلت الأخلاق عن الدين، ولكن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن حاول تأسيس فلسفة أخلاقية إسلامية حديثة تعارض نظيرتها الغربية المرتكزة على الفصل بين الديني والأخلاقي. وقد تمّ له هذا عبر نقده لمسألة علمنة الأخلاق والتصور المادي للحداثة الغربية. وفي هذا الإطار، صاغ طه عبد الرحمن مفهوم ”الائتمانية“ على الشكل الآتي: ”إن تمتُّع الإنسان بحرية الاختيار—منذ وجوده في العالم الغيبي—يجعله يُرجع العمل التعبّدي والعمل التدبيري في العالم المرئي إلى أصل واحد هو الائتمان الإلهي“ (عبد الرحمن 2012أ، 449). بهذا المبدأ يحاول طه الخروج من الفصل بين الديني (عالم التعبد) والسياسي (عالم التدبير)، أو بين العلمانية والدين. فالائتمانية تتخذ طريقا آخر يصبح فيه للتعبد والتدبير أصل واحد هو الأمانة. والفلسفة الائتمانية عند عبد الرحمن مؤسسة على ”العقل المؤيد“ أو العقل الصوفي في مقابل أي فلسفة علمانية مؤسسة على ”العقل المجرد“ أو العقل العلمي الحديث. وهذا التأسيس من شأنه أن يُمكِّن هذه الفلسفة من تَجنُّب شطط العقل المجرّد ومن حواجز العقل ”المسدد“ (عبد الرحمن 2014، 14)1 أو العقل الديني السلفي. ويمكن تحديد الفلسفة الائتمانية بثلاثة مبادئ: مبدأ الشهادة الذي يحدِّد بدوره هوية مؤيدة للإنسان ومرتكزة على مبدأ الغيرية، ومبدأ الأمانة الذي يحرر الإنسان من روح التملك، ومبدأ التزكية الذي بموجبه يحاول الإنسان تحقيق القيم الأخلاقية ابتغاء مرضاة خالقه (عبد الرحمن 2014، 15–16).
وفي إطار اعتراضه على الحداثة الغربية، يوجّه طه سهام نقده على الخصوص إلى النظام العلمي-التقني، الذي قطع مع التصور الديني والأخلاقي للعالم. ولكن إذا كانت معارضة الحضارة الغربية عند المنطقي المغربي تأخذ حيزاً رئيساً في نقده الائتماني، حيث تبدو ”حضارة ناقصة عقلاً وظالمة قولاً ومتأزمة معرفةً ومتسلِّطة تقنيةً“ (عبد الرحمن 2006ب، 145)، فإن نقده للنظام العلمي-التقني يظل مرتبطًا بالنقد الغربي، رافضًا له حيناً ومُكمِّلاً لنقصه حيناً آخر. وقد دأبت الدراسات المهتمة بالفكر الأخلاقي الغربي على تقسيم نظرياته إلى ثلاث فئات كبرى: أخلاق الفضيلة، وأخلاق الواجب، وأخلاق المنفعة. وإذا كانت الفئة الأولى موجهة نحو فكرة الخير، والفئتان الأخريان تأخذان بعين الاعتبار فكرة العدل في الحكم على أخلاقية فعل معين، فهل من مكان لنسق الائتمانية بين هذه النظريات فيما يخص المجال العلمي الحديث ومعضلاته الأخلاقية؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذا الفصل.
إنّ نسق الائتمانية مفادُه أن هوية الإنسان هوية دينية بالأساس، فطه يؤكد أنه ”لا إنسان بغير دين“ (عبد الرحمن 2006ب، 149)؛ ممّا يعطي الإنسان بعداً أنثروبولوجياً مُوجَّهاً إلى الحياة الدينية؛ لأن وجوده في ذاته يتوقف على الدين. فلا فرق عند طه بين العقل من جهة، والشرع والقلب والحس من جهة ثانية. بل هو يرفع هذه الفروق إلى مرتبة موانع معرفية تحول دون قيام فلسفة أخلاقية إسلامية. وإذا كان الفصل بين العقل والشرع نتيجة لفصل الفكر اليوناني بين اللوغوس والميثوس، فإن طه يقدم طرحاً آخر مفاده: ”أن يكون العقل شرعاً يتلقاه الإنسان من الداخل وأن يكون الشرع عقلاً يتلقاه الإنسان من الخارج“ (عبد الرحمن 2006ب، 151). فالفصل بين العقل والقلب هو المسؤول، بنظر طه، عن تشييء العقل وتفقيه ممارسة الشعائر الدينية في الإسلام.2 أما الفصل بين العقل والحس فقد كان سبباً في تقديس العقل إلى حد التأليه، أو ما يسمّيه طه ”الوثنية العقلانية“ (عبد الرحمن 2006ب، 155). يستعين طه في طرحه هذا بالمرجعية الدينية مرتكزًا على عدة آيات لتأكيد الصلة بين العقل والحس (عبد الرحمن 2006، 154)، ويستقي أسس نظريته الأخلاقية في نسق الائتمانية من حوادث تؤثث المخيال الإسلامي، يجمع من خلالها بين العقل من جهة والشرع والحس من جهة أخرى،3 ليقترح أخلاقاً إسلامية على المستويين المعرفي والثقافي، تُطهر وتؤهِّل من يأخذ بها، وتكون قادرة على تقديم حلول للمعضلة الأخلاقية في ميدان العلم الحديث.
يعالج هذا الفصل إذن نسق الائتمانية عند طه ومكانته بين النظريات الرائجة لحلِّ المعضلات الأخلاقية التي يطرحها العلم الحديث في تطبيقاته الحالية من خلال ثلاثة محاور: ينظر الأول في النقد الائتماني ومدى تناغمه أو اختلافه مع النظريات الأخلاقية الرائجة في المجال العلمي-التقني. ويحاول المحوران الثاني والثالث تطبيق نسق الائتمانية على مجالين: البيئة وضرورة الحفاظ عليها للأجيال الحالية والمقبلة، وأخلاقيات علم الأحياء، وتحديدًا ما سمي الموت الرحيم. والهدف المتوخى هو إبراز منطق الائتمانية الأخلاقي في الحكم على أفعال تضاربت فيها الآراء وفق النظريات الأخلاقية السائدة.