في إدارة الاختلاف قراءة تقديمية لكتاب “الجدل والمناظرة أصول وضوابط”(رشيد وهابي)
بين يدي القراءة
يعد الاختلاف بين البشر آية قدرية، وجِبلة بشرية، وسُنَّة إلهية جارية، قال تعالى:”ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” [هود:118]. وإذا كان الاختلاف في الدين، والاختلاف الفكري بين الأمم، وداخل الأمة الواحدة، يستوجب التعارف المفضي إلى الاعتراف المتبادل، فإن التناظر العلمي سبيل تحقيقه وتدبيره، بوصفه مرآة انكشاف الحقيقة، وحصول التفهم والتفاهم والتعايش والتعاون.
وقد حظي التناظر العلمي باهتمام كبير على مستويي التأليف والممارسة التناظرية، باعتباره منهجا قرآنيا، وسلوكا نبويا، وضرورة بشرية وفكرية وسياسية، فلا يمكن في الواقع المعاصر الذي يعرف القراع الفكري، والنزاع الميداني، إدارة الاختلاف دون التأسيس العلمي لأصوله وضوابطه العلمية والأخلاقية. وفي هذا الإطار يأتي الإسهام العلمي للدكتور محمد رفيع من خلال كتابه “الجدل والمناظرة أصول وضوابط”، ضمن مشروع علمي يروم به الكاتب الصياغة النظرية والكيف التنزيلي لفقه إدارة الاختلاف وتدبيره. وهذا المقال يعرض قراءة تقديمية للكتاب، منتظمة في أربعة محاور.
1. سياق التأليف والباعث عليه
كتاب “الجدل والمناظرة، أصول وضوابط” كتاب متوسط الحجم يقع في 120 صفحة، وصدر عن دار ابن حزم ببيروت سنة 2009م. وقد أعلن الكاتب السياق الفكري والزمني الباعث على تأليفه، متمثلا في:
– كثرة الخلاف، واحتداد النزاع، وتعدد أسبابه في زماننا.
– عدم إفضاء اللقاءات الحوارية، ومنتديات الجدال وإدارة الخلاف وفض النزاع إلى نتائج محمودة، لكونها “جرت على غير أساس منفلتة من القواعد والضوابط”[1].
2. في غرض الكاتب ومقصد الكتاب
بناء على التوصيف لواقع إدارة الاختلاف في عصرنا، ورغبة في التطبيب المُؤَصَّلِ والمقَعَّدِ له، ثنى الكاتب ببيان غرضه ومقصده من كتابه المتلخص “في دعم ثقافة الحوار وإقامة الجدل على أصوله العلمية وربط التناظر بضوابطه الرصينة، حتى يعود الجدل منهجا علميا لتدبير الاختلاف، وإثبات الحقائق، وبناء صحيح المعرفة، كما أسسه القرآن، وفصلته السنة، وقعده الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون، بدل أن يظل وسيلة للعناد والمراء أعاذنا الله وسائر المسلمين منهما”[2]. وشفع الكاتب مقصدية التأسيس العلمي للجدل والمناظرة، بمقاصد أخرى يقف عليها القارئ في ثنايا الكتاب:
– تحقيق وظيفة التواصل والتفاهم والتبليغ والدعوة[3]، عبر الحوار العلمي الهادف الذي يعترف بالآخر ولا ينفيه[4]
– التدبير الأمثل للاختلاف الثقافي والفكري في اتجاه بناء أجواء التفاهم والتعايش السلمي وفض النزاعات مع الآخر المخالف[5]، ليكون ذلك “عامل إثراء وبناء، لا عنصر فرقة وبلاء”[6].
3. بناء الكتاب ومنهجيته
ليحقق الكاتب أغراضه من الكتاب، سلك منهجا واضحا في هيكلته وتصميم بنائه، فإلى جانب المقدمة والخاتمة، ضم ثلاثة فصول، متداخلة معرفيا، ومتسقة منهجيا، صلبها الفصل الثاني الذي قَعَّد فيه لأصول الجدل وضوابطه. أما الفصل الأول فقد مهد فيه لموضوع الكتاب، ووسمه ب”الجدل وقضاياه الأولية”، تعريفا له، وبيانا لمشروعيته، ونشأته وتطوره، وقيمته وأهميته في تدبير الاختلاف. ولينحو الكتاب منحى تطبيقيا يجمع بين النظر والعمل، ساق كاتبه في الفصل الثالث من عيون المناظرات المشرقية والمغربية في السياسة والكلام والأصول والفقه،ما يبرز المسلك والمنهج العلمي الذي سلكه المتناظرون المسلمون في مناظراتهم في القرون المتقدمة، المنبني على أصول، والمسيج بضوابط. ومن شأن القراءة الوصفية لفصول الكتاب الثلاثة أن تجلي مضامينه المعرفية، وتدل على مسالكه المنهجية الحاكمة لبنائه، والمصممة لهيكله.
4. مضامين الكتاب المعرفية والمنهجية
4-1- في قضايا الجدل الأولية
يؤول الجذر اللغوي للجدل إلى معنى مادي يفيد القوة والصلابة، ومعنى معنوي يدل على اللدد في الخصومة والقدرة عليها. أما المقاربة الاصطلاحية للمفهوم بناء على التعاريف[7] التي ساقها الكاتب فتعكس ماهيته بكونه يدور بين اثنين متنازعين مختلفين في النظرة لقضية ما، ويقوم على منهج وقانون علمي ضابط هو “التدافع والتنافي” حسب الجويني، و”التصحيح والإبطال” بتعبير الباجي”، و”حفظ الرأي وهدمه” بعبارة ابن خلدون، ويكتمل بنيانه “بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال” معا لتلازمهما.
لئن كان الجدل يوناني النشأة فنا وصنعة، فإنه نبت في التربة الإسلامية بالحوارات النبوية الدعوية والـتعليمية، والمناظرات الراشدية في القضايا الفروعية والسياسية والفكرية، ونما بالجدال الفكري والخلاف الفقهي في زمن التابعين والأئمة المجتهدين وفق منهج “النظر الاجتهادي المستقل في النصوص الشرعية”[8]، الذي تحول زمن التقليد مع الخلاف المذهبي “إلى مجرد نصرة مذهب على آخر”[9]، ليسود بذلك التعصب الفكري والمصادرة للرأي. وقد نبه الكاتب إلى إحياء الجدل والمناظرة في الغرب الإسلامي لرمزيته مع العلمين ابن حزم الأندلسي وأبي الوليد الباجي، إخراجا للبيئة الأندلسية من حالة التقليد وهجر المناظرة. وبتتبع مراحل الجدل في المجتمع الإسلامي تألقا وانتكاسا، حاول الكاتب البحث عن أصول الجدل وضوابطه باعتباره “قضية علمية حيوية من شأن تقديمها في صيغة تقعيدية محبوكة أن تسهم في إعادة قطار الخلاف المعرفي إلى سكته ليواصل مشواره في زمن ينادي فيه الجميع – إن صدقا وإن كذبا- بالحوار أسلوبا مركزيا لإدارة الاختلاف”[10].
4-2- أصول الجدل وضوابطه
يتأسس الجدل في نظر الكاتب على ثلاثة أصول، أولها: اختلاف طرفين في النظر، وتكافؤهما في الأهلية العلمية، وثانيهما: توحيد موضوع الجدل ذي الأهمية والجدوى، ليكون أرضية مشتركة يستند إليها المتناظران، وثالث الأصول: الاتفاق[11] على وحدة قانون الاستدلال والاحتجاج، للتحاكم إليه باعتباره مرجعية كلية معيارية مشتركة حسب الكاتب[12].
أما ضوابط الجدل التي تعصم “البحث الجدلي من الزيغ والانزلاق نحو صور المراء المحظور، وتضمن له السير المتزن تجاه الهدف العلمي المنشود”[13]، فقد ارتأى الكاتب تقسيمها تقسيما مَثْنَويا: الضوابط الإجرائية، والضوابط الموضوعية؛ فيقصد بالضوابط الإجرائية للجدل الأجواء التربوية والعلمية المميزة لبيئة الجدل والمناظرة، وقد عد منها أربعة ضوابط، أولها: التزام الأمانة العلمية في البحث الجدلي، ويستلزم هذا الالتزام تربية إيمانية تمانع “دواعي الاعتداد بالرأي والتعصب له والمكابرة والعناد…”[14]، وثانيها: إنصاف المخالف[15] واحترامه، أما الضابط الثالث فهو التزام حسن الاستدلال، اختبارا لصحة الدليل، وعناية بغرضه قبل إعماله، ورابع الضوابط الإجرائية: أولوية تحديد لغة الحوار عناية بالقضية الاصطلاحية المفتقدة للتحديد الدقيق للمصطلحات المستعملة.
أما الضوابط الموضوعية للجدل فتعني الضوابط العلمية المنظِّمة لسير المناظرة في مختلف مراحلها، وقد صنفها الكاتب تصنيفا ثلاثيا:
– ضوابط الاستدلال الصائنة له من التناقض والاضطراب، ارتباطا للمستدل بمذهبه، ومراعاة لمذهب خصمه، ومنعا لقلب القلب[16]، وعدم خروج عن الموضوع التزاما بالأرضية المتفق عليها.
– ضوابط السؤال والجواب، إثباتا لمذهب المجادَل مساءلة لموقفه مع المطالبة بالدليل، وبحثا عن ماهية مذهبه مساءلة عن الحكم ومناطه، وبحثا عن دليله ووجه دلالته إن غمضت من المجادِل ليتخذه مدخلا للاستدلال وبيان دليله.
– ضوابط القدح في الدليل بقوادح المطالبة والاعتراض والمعارضة[17]، ويرى المؤلف أن هذه المرحلة ذات أهمية كبرى باعتبارها مرحلة فكرية يتطور فيها النقاش الجدلي ويتفاعل تركيزا للبحث على “عملية التصحيح والتحرير” اختبارا للدليل قصد إنتاج المعرفة الصحيحة.
خاتمة
بعد هذه الجولة العلمية الماتعة والرائقة التي كانت فرشا لمضامين الكتاب وزبده ودرره وفوائده في مختلف فصوله ومباحثه، يمكن الخروج بالخلاصات والاستنتاجات الآتية:
– الجدل والمناظرة فن إسلامي أصيل كان له حضوره الوازن في عدد من العلوم الإسلامية، بعد أن أصله القرآن، وجسدته السنة.
– الجدل والمناظرة علم قائم الذات، يتكئ على أصول وضوابط علمية وخلقية.
– حاجة الأمة الإسلامية في زماننا وما بعده إلى هذا الإرث العلمي التقعيدي في مجال تدبير الاختلاف، أمر لا يختلف فيه اثنان، ولا يغفل جدواه أولي النهى والبرهان.
– التزام الحوار والتناظر العلمي بين المختلفين كفيل بتحقيق التواصل
البناء، والتفاهم والتعايش السلمي، والتعاون في المؤتلف، وتدبير الاختلاف في
المختلف.
1. محمد رفيع، الجدل والمناظرة أصول وضوابط، دار ابن حزم، ط 1، 1430هـ-2009م، ص 5.
[2]. محمد رفيع، الجدل والمناظرة أصول وضوابط، ص 5-6.
3. المرجع نفسه، ص 15.
[4]. المرجع نفسه، ص 26
[5]. المرجع نفسه، ص 23.
6. المرجع نفسه، ص 26 .
[7] . يعرف الإمام الجويني الجدل في كتابه “الكافية في الجدل” بكونه “إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة”، ويعرفه الإمام الباجي في كتابه “المنهاج في ترتيب الحجاج”: “والجدل تردد الكلام بين اثنين قصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه”، أما ابن خلدون في “المقدمة” فيعتبره “معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره”، تنظر التعاريف الثلاثة في المرجع نفسه، ص 12.
[8] . محمد رفيع، الجدل والمناظرة أصول وضوابط، ص 31.
[9] . المرجع نفسه، ص 33.
[10] . المرجع نفسه، ص 39.
[11] . مما ساقه الكاتب تدليلا على الأصل الثالث قول الشاطبي في موافقاته: “إن الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا، فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال”، الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 2003م، 4/247.
[12] . ينظر محمد رفيع، الجدل والمناظرة أصول وضوابط، ص 44-45.
[13] . المرجع نفسه، ص 47.
[14] . المرجع نفسه، ص 49.
[15] . أورد الكاتب لبيان أهمية الإنصاف وضرورته في البحث الجدلي قول الباجي في كتابه “المنهاج في ترتيب الحجاج”: “ولا يناظر من لا ينصف من نفسه”، المرجع نفسه، ص 51.
[16] . لأن “القلب نقض والنقض لا يصح أن ينقض” وفق تعريف الباجي، ومن شأن ذلك حسب رفيع عدم الإفضاء إلى نتيجة، وإعادة النقاش إلى بدايته، ولا يصح قلب القلب إلا إذا تحول الاعتراض إلى معارضة كالقلب ببعض أوصاف العلة. ينظر المرجع نفسه، ص 56-57.
[17] . المطالبة حسب تعريف الجويني “مؤاخذة الخصم بتبيين حُجته”، ويكون “الاعتراض في نفس الدليل بما يُبطله” حسب الباجي، أما المعارضة فيعرفها بكونها “مقابلة الخصم للمستدل بمثل دليله أو بما هو أقوى منه”، تنظر التعاريف الثلاثة معزوة إلى أصحابها بمظانها في المرجع نفسه، ص 63-68-74.