القضية الفلسطينية واستراتيجية التحرر (مبارك الموسوي)
1. فلسطين ذلك الجرح الغائر …
شكلت القضية الفلسطينية طيلة القرن العشرين وما مر من الواحد والعشر جرحا غائرا في جسم الأمة خلف مأساة بالغة؛ سواء من جهة ما فعلته الآلة الصهيونية الصليبية الاستعمارية التوسعية بالإنسان والأرض، أو من جهة خذلان الحكام العرب للشعب الفلسطيني ومقاومته منذ تأسيس خلايا المقاومة المسلحة والشعبية خلال ثلاثينات القرن العشرين، وفشلهم الذريع في مواجهة المخططات الصهيونية والتفريط في الجغرافيا.
آلام لايمكن أن تنساها الذاكرة الفردية فضلا عن الجماعية. وقد كان توافق الحروب الأخيرة في لبنان وغزة مع الواقع الإعلامي والتواصلي فرصة مناسبة لصناعة وعي صامت لدى الأمة لما أصبح العالم يتفرج على “مناظر” البطش والقتل في جل البلاد الإسلامية والعربية من خلال الآلة العسكرية الغربية، خاصة الأمريكية والروسية، حتى صارت نفس الصورة النمطية الآتية من فلسطين هي نفسها المنقولة من العراق وأفغانستان وغيرها من مناطق التماس والمواجهة.
بطش وفساد داخلي وفشل خارجي دفع بفئة الشباب إلى تجاوز القيادات العاجزة للقيام ضد أنظمة فاسدة وإسقاط بعضها ووضع أخرى تحت بؤرة ضوء الانتفاضة القادمة لا محالة.
هنا سيحصل انقلاب في كثير من نظم التفكير حيث في ظرف زمني قياسي ستدفع الانتفاضة العربية القائمة اليوم وضع القضية الفلسطينية ليتحرك وفق تموقع جديد للتأثير في نظام العلاقات الدولية، وقبلها الداخلية. ذلك أن عدم تحديد وتدقيق الموقع الطبيعي للقضية الفلسطينية في بناء العلاقات الداخلية المحلية بالنسبة للأقطار العربية والإسلامية جعلها عرضة للاختراقات الخارجية الصهيونية.
إن عجز القيادات التقليدية عن تعبئة الأمة لتخوض معارك الحسم مع الكيان الصهيوني ومشروعه المفتت للمنطقة جعل كل الأمة أمام خيار اتخاذ زمام المبادرة وهي تعلم أن الأنظمة القائمة الفاسدة أكبر مانع من التخندق الطبيعي في مواجهة الغطرسة الصهيونية ودعم عناصر المقاومة القائمة على أرض فلسطين والأراضي العربية المحتلة.
قد يذهب التحليل السطحي إلى أن الوقائع الاجتماعية في الأقطار العربية أسباب مباشرة في انتفاضات شعوبها، لكن الحقيقة أن العامل الفاعل (والعامل أقوى من السبب) هو تراكم الصورة والآثار المؤلمة التي تفعلها الآلة الصهيونية الصليبية الاستعمارية التوسعية في نفس وفكر ووعي الإنسان المسلم والعربي، خاصة شباب اليوم؛ شباب التواصل الاجتماعي المتنوع، مع النتائج الباهرة التي حققتها المقاومة في حروب غزة وجنوب لبنان الأخيرة في تزامن مع ظهور الصورة الحقيقية لحكام عملاء أو متخاذلين ومفسدين لم تكن البلاد العربية إلا مزارع وحقول نفط لهم ولعائلاتهم وأقربائهم والمتحالفين معهم.
فما يريد هذا المقال إثباته أن القضية الفلسطينية لم تعد، بل لم تكن، في الحقيقية جوهر الصراع العربي الصهيوني فقط، وإنما أساسا أصبحت جوهر الصراع العربي الداخلي، إذ كلما اقترب الحسم مع الكيان الصهيوني كلما هوت أنظمة سياسية لها علاقة بمستوى الصراع مع هذا الكيان، والرائد في هذا شعوب منتفضة.
ولذلك أصبح مفروضا على الخطاب تجاه القضية الفلسطينية أن يخرج عن النمط السائد إلى نمط تجديدي قادر على استيعاب موقع القضية الفلسطينية الجديد وكل فعالياتها ضمن سياقات ما سمي بالربيع العربي، وذلك في اتجاهين:
الأول: بناء استراتيجيات شعبية تقوض أنظمة سياسية تقليدية سائدة اليوم كمدخل لتقويض الامتداد الصهيوني في المنطقة العربية والأقطار الإسلامية، ولاشك أن هذا الحسم عملية مضنية وتحتاج إلى وقت وتؤدة لتحقيق أهداف دقيقة متنوعة.
الثاني: بناء استراتيجيات محاصرة الكيان الصهيوني من خلال الدعم المباشر والمتنوع لكل فعاليات المقاومة في الداخل الفلسطيني ودول المحيط (دول الطوق) مع خطة إعلامية متكاملة، وهو ما يفرض استراتيجيات متناسقة تربط بوعي دقيق بين قضية تحرير فلسطين وقضية تحرير الشعوب العربية والإسلامية من أنظمة استبدادية أوعميلة، وعلاقة ذلك بالضغط الشديد لإنجاز تحول جوهري في بنية النظام الدولي ومؤسساته، خاصة في ظروف تعقد علاقات هذا النظام محليا وإقليميا ودوليا.
2.القضية الفلسطينية واحتضان المقاومة.
إن التعامل والتفاعل مع القضية الفلسطينية لايقبل البتة أي تعامل هامشي أو جزئي لا يتكئ على عمق استراتيجي مصيري متكامل يعتمد مشروع المواجهة الشاملة بديلا عن المعارضات الجزئية والانتقائية والعنيفة فيما يخص قضية النهوض المجتمعي العربي لأجل التحرر من القبضة الصهيونية الصليبية الاستعمارية التوسعية، التي يشكل الكيان الصهيوني رمحها وعمقها سياسيا وجغرافيا وعسكريا وأخلاقيا، والمتحالف، بالضمن، مع قبضة أنظمة استبدادية تسلطية على الشعوب العربية حيث تمنعها من كل إمكانات الحرية والاستقلال والقوة والذهاب نحو أفق جديد للحرية الحقيقية.
ومن هنا، فإن احتضان المقاومة الفلسطينية لا يرتبط بالعمق الشعبي المجرد الذي ينتقل في مرحلة إلى دعم اجتماعي تضامني صرف، ولكنه مرتبط بحقيقة التحرر وجوهره، لذلك لايمكن بناء واقع الحرية الحقيقية في البلاد العربية والإسلامية ما لم يتم الحسم مع كل أنواع الامتدادات الصهيونية الصليبية الاستعمارية التوسعية في البلاد العربية والأقطار الإسلامية سياسيا وماليا واقتصاديا وثقافيا، وهذا ليس فعلا ثوريا ولا فعلا سياسيا بل عمل تاريخي شامل مستغرق لمراحل في البناء والتغيير والإصلاح.
وهنا تبرز المعادلة التالية: هل نهاية الكيان الصهيوني مرتبطة تماما بانهيار الأنظمة العربية الاستبدادية القائمة، أم هل زوال الكيان الصهيوني مرتبط حتما بنهاية الأنظمة العربية الاستبدادية القائمة إما زوالا أو تحولا إلى أنظمة ديموقراطية راعية لحرية الشعب وخادمة لحقوقه؟
ولاشك أن أي غموض على هذا المستوى سيجعل فعاليات التفاعل مع القضية الفلسطينية غير ذات جدوى وأهمية، ومن ثمة فحجم التضامن لايقاس من حيث أشكاله بقدر ما يقاس بمستوى البناء الذي تضيفه الفعاليات إلى مستوى تصاعد الوعي الحقيقي بالمصير لدى كل فئات الشعوب ومنها أساس فئة الشباب وإلى عملية التحرر الشاملة التي يشكل ذروتها تحرير القدس، إذ لا يمكن بناء جسد الأمة الكامل مع بقاء احتلال أولى القبلتين وثالث الحرمين.
ومن هنا نقف على ثلاثة مواقف في التعامل الاستراتيجي مع القضية الفلسطينية، لنخلص إلى أن المرحلة الجديدة تقتضي تصورا جديدا في بناء التفاعل الجماهيري مع هذه القضية المصيرية.
وقبل عرض هذه المواقف لابد من التمييز بين الموقف الرسمي سواء المعلن أو الذي يجري تحت الطاولة، وبين الموقف الشعبي، ذلك أن هذا التمييز سيمهد إلى بيان أنه لن يحصل تقدم يفيد المقاومة في فلسطين ما لم تتم فعاليات التضامن ضمن استراتيجية التحرير والتحرر الشعبية التي تنتج التحام الموقف الرسمي مع الشعبي كما تحاول الانتفاضات العربية القائمة اليوم إنجازه، حيث الهوة بين الموقف الرسمي والشعبي مع الأنظمة الاستبدادية والشعبية شكل بابا للاختراقات الصهيونية، وهو ما يفرض حتما الانتفاضة القادمة القاضية بوحدة الموقع والموقف الحركيين تجاه قضية الأمة؛ قضية فلسطين.
التصور الأول: إنتاج الموقف القومي .
لاشك أن هناك نخوة وصدقية في مواقف التيار القومي العربي تجاه القضية الفلسطينية، وهو عامل مشترك بين باقي القوى الصادقة في الباب، لكن السؤال الكبير هو: لماذا عجز هذا التيار عن التقدم ولو خطوة واحدة بارزة تحقق نوعا من الكبح وصناعة توازن الرعب تجاه الكيان الصهيوني- مع استثناء ما ماقامت به المقاومة الفلسطينية في الستينات وما بعد- حيث يلاحظ المراقب العادي مدى تقدم هذا الكيان في التنكيل بالإنسان واغتصاب الأرض وتهويد القدس والاعتداء على المقدسات وتسويق أوهام السلام في فترة تزعم هذا التيار قيادة الحراك الشعبي نحو القضية ووصل إلى الحكم في كثير من البلاد العربية غالبا عبر انقلابات عسكرية؟
الجواب باختصار شديد أنه خاض المعركة من موقع غير طبيعي وموقف غير أصلي، وهو ما جعله يسجل جل معاركه في ساحات غير حقيقية وفي ميادين وهمية، خاصة لما وصلت بعض تياراته إلى السلطة؛ كمصر عبد الناصر، وعراق صدام، وسوريا الأسد، ويمن صالح …. ولا حديث عن الأنظمة المهادنة الأميرية والملكية لكونها تعلم أن جلها كان عميلا للكيان الصهيوني، أو أنها تعلم أن أي مستوى أو نوع مواجهة لهذا الكيان سيعصف بها هي لامحالة، ولعل ما فعلته جل هذه التيارات والأنظمة تجاه المقاومة الفلسطينية أبرز دليل على جوهر موقعها وموقفها منها.
هنا لابد أن نقف شيئا مع موقف النظام السوري، الذي استطاع من خلال إنجاز علاقة مصيرية مع الثورة الإيرانية أن يحدد وسائل حمايته من الخلف والأمام.
لقد برز النظام السوري كأكبر داعم للمقاومة مع حافظ الأسد، ولا شك أن المراقب العادي يدرك أن حماية هذا النظام من الانهيار تكمن في توفره على أداة حماية خارجية ذات عمق استراتيجي، ولن تكون إلا المقاومة التي ستشغل الكيان الصهيوني، وهو ما يفرض دعمها بلا هوادة.
وبغض النظر عن الخلفية المرجعية والطائفية لعائلة الأسد التي يستغرب الجميع لطريقة صناعتها وراثة حكم شعب عامر بالكفاءات و درجة الوعي فيه مرتفعة وحادة مضافة إلى عمق تاريخي حافل، بغض النظر هن كل هذا، فإن التحالف المصيري بين النظام السوري والقيادة الإيرانية سيفضي حتما إلى ضرورة الدعم الكلي للمقاومة في شخص حزب الله كوليد طبيعي للثورة الإيرانية في لبنان من حيث هو موقع قطبي في الوطن العربي وعلى حالة تماس مع الكيان الصهيوني الذي غامر باجتياح لبنان في 1979، والتي يعتبرها النظام السوري جزء منه إلى حد قريب !.
فلبنان والمقاومة عمق استراتيجي بالنسبة لوجود النظام السوري، ومن ثمة كان دعمها واحتضانها لا يرتبط بالحس القومي فقط، بقدر ما يرتبط أساسا ببقاء هذا النظام والحفاظ على نفسه. ولاشك أن هذا الموقف سيجعل كل المفكرين والمثقفين القوميين أمام وضعية حرج شديدة: إذ ماهو الموقف من النظام السوري في وضعية مواجهته لانتفاضة شعبه مستمرة داخليا؟
هنا ستكون القضية الفلسطينية معيارا كاشفا، حيث سيكون لزاما على مقاومة شعبية أن تقف الموقف الطبيعي: وهو مساندة الانتفاضة الشعبية بالقدر المناسب لموقع هذه المقاومة ولو كان ذلك مؤثرا على قيادة المقاومة أو حتى عليها نفسها، وهو ما فعلته حماس باعتبارها رمح المقاومة الفلسطينية.
أما بالنسبة لحزب الله، فقد حقق انتصارات هائلة لها عمقها الاستراتيجي والمصيري، ولاشك أن مقاومته شعبية، إلا أن معضلتها الكبيرة، والتي تضع حزب الله وقيادته في حرج شديد، أن عمقها الاستراتيجي والمصيري ارتبط بعمق طائفي خاصة لما عقد تحالفا مصيريا مع نظام الأسد بما هو نظام استبدادي قمعي ويعلم كل منخرط في منطق المقاومات الشعبية أن هذه الأنظمة لا مستقبل لها طال الزمن أم قصر.
إن الفكر السياسي عند الشيعة قوي، لكن نظام التفكير عندهم هش إلى أبعد الحدود، وهو ما يجعل التجربة الثورية الإيرانية محدودة الأفق ما لم تتخلص من قبضة الطائفية. وأكتفي بهذا في هذه النقطة إلى حين توفر الفرصة للعودة إلى كثير من التفاصيل، إن شاء الله تعالى، لنبين من جديد أن مستقبل الحرية للأمة كلها لن يحصل من دون وحدة، ولا وحدة مع التفكير الطائفي والفكر المنحبس.
التصور الثاني: التصور الإيراني.
شكلت القضية الفلسطينية في فكر الإمام الخميني موضوعا مركزيا انطلاقا من موقف عقدي إيماني، ولذلك لم يتأخر ولو قليلا عند انتصار ثورته على النظام الملكي في تسليم السفارة “الإسرائيلية” إلى المقاومة الفلسطينية يومئذ المتمثلة في شخص عرفات. وبعد اجتياح جنوب لبنان شرع مباشرة في تشكيل خلايا المقاومة المسلحة التي جسدها فيما بعد حزب الله عقديا وسياسيا وتنظيميا، وأشرف على دعمها بكل الوسائل، ولذلك يمكن القول إن التعامل الإيراني مع القضية الفلسطينية ومقاومتها مر من ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة العمل على تصدير الثورة.
منذ انتصار الثورة في إيران عملت القيادة الإيرانية ابتداء على تبني مفهوم “تصدير الثورة” بحيث يتم العمل على بناء تنظيمات موالية للثورة ثم دعمها حتى إسقاط أنظمة سياسية، خاصة ذات الوزن في الواقع الغربي وواقع الصراع مع الكيان الصهيوني، مثل مصر والسعودية والمغرب والأردن ….وقد تميزت هذه المرحلة فيما يخص التعامل مع القضية الفلسطينية بالاشتغال على خطين:
الأول: دعم المقاومة الفلسطينية إعلاميا، ثم بعد سياسيا، دون تقديم الدعم المادي الضروري، ولاشك أن ذلك راجع إلى الاختلاف المذهبي والعقدي.
الثاني: تأسيس تنظيم موال للثورة الإيرانية في لبنان والعمل على أن تكون مسألة ولاية الفقيه هي مرجعيته الأساسية وتقديم الدعم الكامل له إعلاميا وعسكريا وسياسيا وماليا، وغير ذلك، على اعتبار أنه ليس فقط عملا استراتيجيا بل مصيريا، وهو ما أدى إلى ذروة الانتصارات التي أرغمت الكيان الصهيوني على مغادرة لبنان وإحقاق هزيمته في حرب 2006 وما بعدها.
لقد كان عمل حزب الله ضربة قاصمة للمشروع الصهيوني في المنطقة، وهو ما شجع إيران وسوريا على ضرورة احتضان المقاومة الفلسطينية حتى يحصل التكامل بين الخطين، فيحصل تطويق الكيان الصهيوني، ولذلك لما أضيفت انتصارات المقاومة في غزة وأصبحت حماس هي رمحها، اضطرت إيران إلى الانتباه إلى أهمية استيعاب المقاومة الفلسطينية مع تخاذل الحكام العرب في دعمها، بل وخيانتهم لها في كثير من المناسبات، خاصة أن هذه المقاومة أصبحت في حاجة إلى نوع من الدعم المادي والمالي والعسكري والإعلامي واللوجيستيكي.
لقد اقتنعت سوريا وإيران أن قوة المقاومة العسكرية في فلسطين ولبنان ستشكل أداة قهر الكيان الصهيوني، حيث بالنسبة لإيران ستمهد لامتدادها في المنطقة سياسيا وإعلاميا ومذهبيا، وبالنسبة لسوريا ستجنبها أية حرب مكلفة مع الصهاينة لا تعلم نتائجها على النظام السياسي في سوريا، ولذلك لم تكن مندفعة ألبتة إلى أي حرب مع الصهاينة أو مع جيرانها.
المرحلة الثانية: مرحلة انتصارات حزب الله.
بعد انتصارات حزب الله في لبنان ودخول أمريكا العراق، وانتصارات المقاومة، على رأسها حماس، في غزة، ستصل إيران إلى ذروة اقتناعها بالتخلي عن منطق تصدير الثورة التقليدي لإسقاط الأنظمة السياسية؛ حيث كانت تعتقد أن زوال بعض الأنظمة السياسية سيؤدي إلى نهاية الكيان الصهيوني، وتبنت الاستراتيجية التالية: دعم المقاومة من طرف الشعوب العربية، ومنها الحركات الشعبية، خاصة الإسلامية، التي عليها أن تؤجل صراعها مع الأنظمة القائمة دون أن تصبح جزء منها، ورمح هذه المقاومة حزب الله في درجة أولى ثم حماس في درجة ثانية، حيث دعم المقاومة لتصبح قوة قادرة على إسقاط الكيان الصهيوني ومن ثمة زواله، وإذا تم إسقاط هذا الكيان حتما ستنهار الأنظمة العربية لأن وجودها مرتبط بوجوده. ولذلك أصبحنا نسمع الخطاب الإيراني وخطاب حزب الله يؤكدان على حتمية زوال إسرائيل.
إن معادلة دعم المقاومة وتصعيدها ضد المشروع والكيان الصهيونيين في الشرق الأوسط بما يؤدي لإسقاطه ومن ثمة انهيار الأنظمة العربية المرتبطة به، ستصبح على غاية من الغموض بعد أن صارت يقينا لدى كثير من النخب خلال العقد الماضي الذي تميز بانتصارات هائلة من طرف المقاومة، ذلك أن ما سمي بالربيع العربي سيُدخل عنصرا نوعيا على هذه المعادلة لما قامت الشعوب وأسقطت أنظمة سياسية وفق ظروف لم تكن تسمح باستشراف هذه النتيجة بهذه السرعة، خاصة أن هذا الربيع استهدف مباشرة النظام السوري وهو حليف استراتيجي ومصيري لإيران وحزب الله في لبنان.
المرحلة الثالثة: مرحلة ما سمي بالربيع العربي.
لذلك سنجد هذه المعادلة الإيرانية التي ربطت بين زوال الكيان الصهيوني وبين انهيار الأنظمة السياسية على محك الاختبار مرة أخرى، ومن ثمة فنحن أمام مؤشرات جدية على تغير الموقف الإيراني تجاه موقع القضية الفلسطينية في الصراع بالمنطقة.
نعم، لا تفتأ القيادة الإيرانية وقيادة حزب الله وحلفائه من التأكيد على ضرورة بقاء العين مفتوحة مباشرة على فلسطين، وستحرك كل وسائلها الإعلامية والتنظيمية وعلاقاتها العربية والإسلامية لتبقى القضية الفلسطينية موضوع الصراع والحراك في المرحلة الحالية، لأنها تضمن لها التفوق بحكم توجهها وتفوقها العسكري والسياسي لحد الآن وتضمن لها قيام معادلة زوال إسرائيل وانهيار الأنظمة العربية، الأمر الذي سيحكم قطعا بالهيمنة الإيرانية وقيادة المنطقة أمام الوضع الجغرافي والسياسي لدولة تركيا ولو مع حكم حزب العدالة والتنمية، خاصة مع وجود حلفاء إيران في حكم العراق، وبهذا يتم تقويم الموقف من نهضة كل شعب في كل قطر عربي من طرف الإيرانيين، الأمر الذي جعلهم يؤيدون النظام السوري على الرغم من ديكتاتوريته وهمجيته في التنكيل بشعبه بمبرر مساندته للمقاومة، خاصة الشيعية في لبنان وحلفائها؛ فانتفاضة البحرين والحوثيين حق وانتفاضة سوريا فيها نظر يفرض بقاء الأسد في الحكم.
إننا هنا أمام حرص إيران وحلفائها على النظام السوري، لأن انهياره يعني انهيار كلي للمعادلة التي تبنتها في المنطقة بما هي المدخل للحفاظ على مصالحها واستراتيجياتها في الشرق الأوسط.
ولاشك أن القوميين وكثير من اليساريين في العالم العربي انخرطوا بوعي أو بغير وعي في هذه المعادلة، لذلك لما قامت الثورة في سوريا حصل لهم ارتباك شديد في الموقف، خاصة إذا استحضرنا المشروع الصهيوني الأمريكي وأهدافه، لذلك ستدخل القضية الفلسطينية في مرحلة جديدة ودقيقة، حيث ستتقدم خطوات كبيرة لتحتل حيزا هاما في واقع الصراع الداخلي والمحلي عربيا ضمن سياقات الانتفاضات العربية.
فقد كانت إيران وحلفاؤها يتمنون أن يضرب الربيع العربي في دول أخرى، خاصة في الخليج والأردن، لكنه فاجأ الجميع، كما فاجأ من قبل، لما ضرب في سوريا، حيث خرجت الآلاف في مدن كبرى تطالب بإسقاط النظام وإعدام الرئيس، وهو ما يعني الانهيار شبه الكلي للتفوق الإيراني الذي يحلم بالقبضة الكبرى على كل معاني التحرر في العالم العربي والإسلامي. ولذلك حرصت إيران وحزب الله على الحفاظ على كل عناصر إعطائهما التفوق العسكري والسياسي في المنطقة، بما في ذلك النظام السوري، والحفاظ على الريادة في دعم المقاومة كأداة حامية للدولتين من مواجهة مباشرة غير محسوبة النتائج مع الكيان الصهيوني.
لكن لما تنتقل القضية الفلسطينية إلى أحضان الشعوب العربية الإسلامية التي عليها أن تجعلها في قلب التأثير على العلاقات والمصالح من خلال تحرير هذه الشعوب من أنظمة عميلة وصامتة ومناورة ومطبعة مع الصهاينة وبناء أنظمة حكم حرة ومستقلة ومعبرة عن إرادة أمة لا إرادة عائلة أو فئة أو نخبة، ساعتها سننتقل إلى مرحلة جديدة لاصوت فيها ولا كلمة إلا كلمة الشعوب من خلال فعالياتها الشعبية المتوافقة مع مواقف أنظمتها الرسمية التي بنتها الانتفاضات، لذلك سُرت إيران كما سر النظام السوري لما تم عسكرة الثورة في سوريا وبروز التيار التكفيري في قيادتها وتنظيمها، الأمر الذي أخرج الثورة من سياقها الشعبي إلى سياق عسكري فتح الباب واسعا للتدخل الخارجي الأمريكي والروسي.
التصور الثالث: الاحتضان الشعبي ضمن مشروع تحرري.
كانت القضية الفلسطينية دوما قضية مركزية في الحراك المجتمعي والسياسي في العالم العربي، لكن كانت ضمن قيادات تقليدية سياسية ومجتمعية حتى ظهر حراك الربيع العربي الذي أفرز تصنيفا مجتمعيا وسياسيا كان ضروريا في بلورة وجهة التدافع والصراع المجتمعيين في جميع أبعادهما، وهو لا زال يقدم ثمنا مهما في اتجاه تحقيق أحسن صورة واقعية لهذا التصنيف والاصطفاف الهامين في بناء عمليات التدافع الداخلي والخارجي، لذلك لم تعد تحتفل كثيرا القضية الفلسطينية بما تنتجه العلاقات الدولية وقوانينها، حيث تبين أن الحراك الشعبي حينما يصبح ذا بعد دولي من خلال انتفاضته الشاملة يكون عاملا حاسما في تفعيل المقاومة وفتح أفقها الجديد في الصراع مع الكيان الصهيوني.
وهنا يجب الانتباه إلى أن القضية الفلسطينية قد غادرت المحافل الرسمية قطريا وإقليميا ودوليا لتصبح في قلب الحراك الشعبي في بعده المحلي والدولي، ولاشك أن ذلك مرتبط بمدى قدرة القوى الشعبية، خاصة الإسلامية، على تحريك القضية الفلسطينية خارج سياقات النمط التقليدي الذي ينجز فعاليات تضامنية تنتهي بانتهاء زمانها. فاللحظة التاريخية التي تمر منها الأمة تقتضي تفعيل واقع التضامن والدعم ضمن سياق حركة مشروع تحرري تحريري جامع يعيد الاعتبار للشعوب التي تقدم كل ما يمكن تقديمه من دعم مباشر للمقاومة وفق وعي دقيق مؤطر لحركتها بهدف تحررها من قبضة الأنظمة السياسية المستبدة مهما كان موقعها وموقفها، ذلك أن الحرية الكاملة تحصل عندما يتم تقويض أنظمة سياسية مستبدة أو عميلة وطرد الغاصب الصهيوني من أولى القبلتين وثالث الحرمين. وهو ما يعني أننا نعيش مرحلة تقتضي أن تكون القضية الفلسطينية جوهر الصراع السياسي والمجتمعي ضمن سياق تحرير الشعوب وإقامة واقع الحرية والكرامة والعدل، أي لافرق بين الحراك من أجل تحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبين الحراك من أجل نصرة القضية الفلسطينية، وهو ما يعني كشف حقيقة كل نظام سياسي تجاه القضية الفلسطينية بالقدر نفس الذي يوجب كشف جرائمه تجاه شعبه وخيراته، لأن لكل ذلك علاقة مباشرة بواقع الحرية ومضمونه وأفقه كما تتصوره وتريده الشعوب التواقة إلى الحرية والوحدة والقوة والعزة وخدمة الإنسانية وفق نظام عالمي عادل وحر ومستقل.
فقد كشف سقوط أنظمة سياسية عربية فظائع مروعة في حق شعوبها إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا وماليا.
هنا تكون المقاومة في لبنان جزءا من مشروع المقاومة الشعبية التي تقودها حركة التحرير الجامعة، لكنها مكبلة بالطائفية ثم بسقف نظرية ولاية الفقيه، مما سيجعل المقاومة الفلسطينية الرمح المباشر في الصراع مع الكيان الصهيوني وقطب المواجهة، مما يعني ضرورة دعمها واحتضانها بكل الوسائل وفي كل المجالات لتقويض الكيان الصهيوني إلى أبعد الحدود حتى انهياره الشامل وزواله الكامل، فتكون الشعوب قد أقامت أنظمتها السياسية ووفرت شروط وحدتها سنة وشيعة عربا وعجما رغم كل العقبات والموانع الداخلية والخارجية، وجعلت الفلسطينيين هم رمح المقاومة مما سيعطي للقضية توازنها الطبيعي ضمن المشروع التحرري العربي الإسلامي.
إننا أمام مرحلة تاريخية امتزج فيها الدم الفلسطيني لأجل تحرير القدس بالدم العربي والإسلامي لأجل التحرر من قبضة أنظمة سياسية استبدادية لا تورث إلا الويلات ولا تجني إلا الهزائم، ولاشك أن تحقيق حرية الشعوب وتحرير الأرض هو أساس الانطلاق على خط بناء الوحدة والقوة، وهنا ستتجه عملية التواصل بين مكونات الأمة إلى إنجاز حتمية إقصاء وإبعاد كل نمط تفكير يتأسس على الطائفية والعرقية والإثنية بالمعنى السلبي الذي يؤسس لواقع الانشطار المجتمعي عموديا وأفقيا بل يجره إلى حروب لا تنتهي؛ وهو مبتغى المشروع الصهيوني الذي يتعارض مع منطق وحدة القوة وقوة الوحدة، لذلك فنحن بحاجة إلى مدرسة جديدة في بناء الوعي والإرادة والقوة تبرز من خلالها كل عناصر الوحدة وتتلاشى كل عناصر الفرقة، ولاشك أن هذه حركة عميقة في التاريخ ستخرج من بين هذا الركام السلبي الإعلامي والتواصلي والمشتغل على بقايا التاريخ الطائفية والمذهبية والعرقية والعائلية الضيقة والمتشنجة المنفعلة سلبا مع الأحداث والوقائع التاريخية الجامعة.
إننا أما عملية فرز تاريخي تحتاج إلى قيادة تسهر على البناء المتصاعد وتمنع من الانهيار السياسي والمجتمعي وفق مشروع تحرري تحريري شامل.