لماذا المساواةُ في الصلاة والظلمُ في الحياة!؟(محمد المختار الشنقيطي)
في رواية (مدينة الرياح) –وهي أعمقُ أثــَـرٍ أدبيٍّ سطَّره قلمٌ موريتانيٌّ حتى الآن- يصف الكاتب (موسى ولد أبْنُو) كيف كان أهل القوافل من سكان الصحراء الموريتانية يسرقون أطفال القرى الأفريقية من أهلهم، أو يشترونهم من تجار العبيد الأفارقة، فينتزعونهم انتزاعاً أليماً من بيئتهم الاجتماعية والثقافية، ويحملونهم معهم في فيافي الصحراء ليتخذوهم عبيداً، وكيف أن أحد هؤلاء الصبية المُستعبَدين كان يبحث بذهنه المتوقِّد عن معنىً لهذا الظلم الفظيع، حتى أصبح البشر في عينه أصلاً للشرِّ يستحق الاجتثاث، فيقول: “هذه الرمال النقيَّة السابحة في الضوء كان يمكن أن تكون ذاتَ جمال مُطلَقٍ لو لم تكن ملوَّثة بهذا البشر.”
وقد أدرك ذلك الفتى الأفريقي عُمْقَ المفارقة في النفاق الديني والاجتماعي السائد في قضية الرق في مجتمعات الصحراء المسلمة بغرب أفريقيا، ومنها المجتمع الموريتاني. فقد كان صعاليك القافلة يربطونه بذيل جمَلٍ وقتَ سير القافلة، فإذا حان وقت الصلاة، فكُّوا الحبل من عنقه، وأوقفوه بينهم يصلِّي كما يصلُّون، في صفٍّ واحد لا فرق فيه بين سيِّد وعبْد، فكان الفتى الصغير يتساءل في ذهنه متحيراً: “لماذا المساواة في الصلاة والقهر في الحياة”؟!
وكثيرا ما ذكَّرتني قصة ذلك الفتى الأفريقي بقصة أخرى أبعدَ ما تكون عن عالم الرواية والخيال الأدبي المجنِّح. إنها قصة عايشتُ بعض فصولها بنفسي، و نقلَ إليَّ ما لم أعايشْه منها ثقاتٌ أثباتٌ من الأهل والأقارب. وهي تلخِّص -في تقديري- محنة الإنسان في سعيه إلى القيام بالقسط، وتحقيق عالَم يتسم بالعدل والحرية والمساواة. إنها قصة والدي المختار وعبْدِه زيد رحمهما الله تعالى.
ولد أبي المختار في حدود العام 1925 في ولاية (الترارزة) بجنوب غربيِّ موريتانيا. وفي يوم ميلاد أبي، ولَدتْ أمَةُ أبيه (مباركة) غلاما جديدا وكان أبوه عبدا لأسرة أخرى في الحي. واختار جدِّي اسم (المختار) لابنه الجديد، واسم (زيد) لعبده الجديد. ولم تقتصر مفارقات البنية الاجتماعية السائدة في موريتانيا القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين أن قضتْ على أحد الوليدين -اللذين رأيا النور في يوم واحد- أن يكون عبداً يوم ميلاده، وقضت للثاني أن يكون سيداً يوم ميلاده. بل كانت المفارقة الكبرى أن جدِّي محمد -من فرْط فرحته بميلاد أبي- قرَّر أن يهَبه ذلك العبد الذي ولد معه في اليوم ذاته، وأشْهَد الناس على ذلك يوم ميلاد المختار، وهكذا انضمَّ إلى هذا العالم في ذلك اليوم إنسانان يملك أحدهما رقبة الآخر، وحقَّ التصرف في نفسه وماله كما يشاء، دون أن يكون لأيٍّ منهما يدٌ في ذلك ولا علمٌ به.
كان جدِّي محمد -رحمه الله- رجلا موسرا بمعايير عصره، وقد رُزق ثلاث بنات (العابدة وأم الخير وعائشة)، وثلاثة أبناء (أحمد ومحمد والمختار). وكان يملك ثلاثة عبيد (ميسرة وزيد وبلال) وأمهم (مباركة). وكانت المرجعية الإسلامية حاضرة في تسمية أبنائه وعبيده على حد السواء. وربما تقصَّد جدِّي -وهو الضليع بالسيرة النبوية- هذه المماثلة تقصُّداً: أن تكون أسماء أولاده الثلاثة (أحمد ومحمد والمختار) مستمدّة من اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تكون أسماء عبيده الثلاثة (ميسرة وزيد وبلال) مستمدة من أسماء مواليَ تربطهم رابطة وثيقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم: زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أصحابه الأبطال الذين استُشهدوا في غزوة مؤتة، وميسرة مولى خديجة بنت خويلد، وبلال مولى أبي بكر الصديق ومؤذن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنّ ما كانت هذه المرجعية الإسلامية غائبة عنه تماما -بسبب تراكم الغواشي الفقهية والاجتماعية والتاريخية- هو غفلة جدِّي عن كون النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة وتبنَّاه حتى حرَّم الإسلام التبنِّي، وأنه زوَّجه ابنة عمَّته زينب بنت جحش رضي الله عنها، وأنه اتخذه وابنَه أسامة بن زيد أميريْن من أمراء جيشه، وأنه أثنى على كفاءتهما وأهليتهما للقيادة حين طعن فيهما الطاعنون المتمسكون بالمعايير الاجتماعية الجاهلية، فــ”قال وهو على المنبر: إن تطعنوا في إمارته -يريد أسامة بن زيد- فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايْمُ الله إن كان لخليقاً لها، وايْمُ الله إن كان لأحبَّ الناس إليَّ، وايْمُ الله إن هذا لها لخليقٌ -يريد أسامة بن زيد- وايْمُ الله إن كان لأحبَّهم إليَّ من بعده، فأوصيكم به فإنه مِن صالحيكم.” (صحيح مسلم). وربما غفل جدِّي أيضا عن كون أبا بكر الصديق اشترى بلالاً ليحرره من تعذيب المشركين غلاظِ الأكباد، ويُعْتقه في سبيل الله. وفي ذلك كان عمر بن الخطاب يقول: “أبو بكر سيّدُنا، وأعتق سيدَنا، يعني بلالاً” (صحيح البخاري). أما ميسرة مولى خديجة فهو لم يدرك الإسلام على الراجح.
بمنطق أحكام الوحي الإسلامي لا يوجد ما يسوِّغ أن يولد الناس عبيداً وقد خلقهم ربهم أحرارا، ولا يوجد في نصوص الوحي ما يبرِّر استرقاق وليدٍ يوم ميلاده ووراثته العبودية من والديه، بِغضِّ النظر عن شرعية -أو عدم شرعية- استرقاق أبيه وأمه في حروب المجتمعات العتيقة.
وبمنطق القيم الإنسانية والحقوق الطبيعية ليس لزيد ذنبٌ في الأغلال التي وُضعتْ حول عنقه يوم ميلاده، ولا للمختار استحقاقٌ في تملُّك زيدٍ، فكلاهما وليدٌ جديدٌ قد بدأ للتوِّ أولَ مدارج حياته، ولم يخُضْ أيٌّ منهما بعدُ معترك الحياة ليختلف الكسبُ بينهما لهذه الدرجة. وأما بمنطق “العدالة التوزيعية” في الفلسفة السياسية المعاصرة، والتي تقضي بضروروة التساوي في الفرص بين البشر ليتحقق الحد الأدنى من العدل بينهم، فمن الواضح أن المختار وزيداً لم تُتَحْ لهما الفرص ذاتُها يومَ ميلادهما، فقد وُلد أحدهما سيداً، والآخر عبداً، فكيف نتوقع منهما أن يحققا المساواة بينهما حين يبلغان سِنَّ الرجولة؟!
لم يكن جدِّي أقلَّ تديُّنا من أهل زمانه، ولا كان أقلَّ منهم تمرُّساً بالفقه الإسلامي، بل كان رجلا متديِّنا، متمرساً بالفقه الإسلامي، خصوصا الفقه المالكي السائد في تلك المنطقة. وكان جدِّي -إلى ذلك- من نوادر الأذكياء، حتى إن الناس كانوا يضربون المثل بسرعة بديهته، وقوة حافظته. وقد أخبرني ثقاةٌ من شيوخ من عشيرتنا –ممن أدركوا جدِّي ونقلوا إلينا طرفا من أخباره- بعجائبَ من ذكائه الفطري.
ومن ذلك أنه حفِظ (مختصر خليل بن إسحاق) في الفقه المالكي في بضعة أشهر، وهو كتاب في نحو خمسمائة صفحة من النثر الغامض المعقَّد، المحشوِّ بالاصطلاحات الفقهية الصعبة، وقد اعتاد الناس في بلادنا سلْخَ سنين من أعمارهم في حفظه، منذ أن وصلهم الكتاب من مصر في القرن الحادي عشر الهجري، ولم يستطع ذهني تحمُّل حفظ هذا النص الغامض المعقَّد خلال سنين مديدة من الدراسة في المدرسة الأهلية (المحظرة)، رغم ما وهبني الله به من سهولة الحفظ.
لكن جدِّي -رحمه الله- كان ابنَ بيئته وعصره، سواءً من حيث البنية الاجتماعية التي كان يسود فيها استرقاقُ العرب للأفارقة، أو البنية الفقهية التي كانت تقدِّم المسوغات الأخلاقية والتشريعية لذلك. ولذلك كان قراره بجعل زيدٍ هديةَ ميلادٍ لابنه المختار عملا طبيعيا بمعايير مجتمعه، بل ربما اعتُبر يومَها نوعا من الشهامة والكرم، وبرهانا على محبة الوالد لولده!! وقد اتَّبع جدي النهج ذاته مع ابنيْه الآخرين أحمد ومحمد، فقد وهب عبده ميسرة لابنه أحمد، ووهب عبده بلالاً لابنه محمد.
وأتوقع أن جدِّي ذبح كبشيْن عقيقةً عن ابنه المختار -اتِّباعا للسنة النبوية- لكني لا أتوقع أنه ذبح عقيقةً واحدة عن زيد، إذ لم يعْتد السادة في المجتمع الموريتاني أن يذبحوا عقيقة عن أبناء عبيدهم وإمائهم. والراجح أن غاية ما فعله جدِّي في ذلك اليوم هو أنه أهدى لأمَتِه النُّفساء (مباركة) قِطعاً من لحم الكبشين اللذيْن ذبحهما عقيقةً عن ابنه المختار، لتسُدَّ بها رمقها، وتستطيع إرضاع وليدها الجديد زيد.
نشأ والدي المختار وعبدُه زيد في بيئة واحدة، لكن العلاقة بينهما لم تكن علاقة سيِّد بعبد كما تقضي الأعراف الاجتماعية، بل كانت أقرب للعلاقة بين شقيقيْن. كان والدي عميق التدين، رحيم القلب منذ أيام طفولته -كما يؤكد الأقارب المعاصرون له منذ الطفولة- وقد عرفتُ ذلك منه أيام كهولته، فلم أرَ أرقَّ قلبا، ولا أكْرمَ نفساً، ولا أحبَّ للمساكين وأحرصَ على إكرامهم، من والدي المختار رحمه الله. وقد أحبَّ والدي زيداً محبة الشقيق لشقيقه.
وحينما بلغ والدي نحو العشرين من العُمر تقريبا أعتق زيداً ابتغاء مرضاة الله تعالى، وأملاً في الحصول على ثواب إعتاق الرقبة في القرآن الكريم: “فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فكُّ رقبة…” (سورة البلد 11-13). ولم يُعتق والدي زيداً بأمرٍ من السلطة الاستعمارية الفرنسية التي كانت تحتل موريتانيا يومذاك، ولم يكن يهمُّها تحرير العبيد، بقدْر ما كان يهمها استعباد السادة والعبيد معا. وكما أعتق أبي زيداً، أعتق شقيقاه أحمد ومحمد عبديهما ميسرةَ وبلالاً، فقد جمع بين الأشقاء الثلاثة أنهم لم يكونوا يريدون علواًّ في الأرض ولا فسادا.
وسرعان ما برهن زيد على موهبة ممتازة في التجارة، فانتقل مع صديقه المختار إلى ولاية (الحوض الشرقي) بجنوب شرقيّ موريتانيا، حيث أسَّس كلاهما تجارة خاصة به. استقرَّ والدي في مدينة (النعمة) واستقرَّ زيد في مدينة (عدَّل بقرو) تفْصل بينهما نحوُ مائتي كيلومتر، ولكنَّ قلبيهما ظلا في رباط وثيق إلى النهاية. وقد عاش زيدٌ موسراً بمعايير عصره، وأصبح قِبلة أبناء القبيلة المسافرين للتجارة في جمهورية (مالي) أو جمهورية (ساحل العاج)، ينزلون ببيته في طريقهم جِيئةً وذهابا، فيُكرم وِفَادتهم، ويُتْحفهم بأحاديثه العذبة المرِحَة عن أمجاد القبائل الموريتانية وأخبارها وأشعارها. ويبدو أن أخاه ميسرة كان ذا موهبة في التجارة أيضا، فقد جمع أموالا حتى أصبح يتكرم على سيده السابق –عمِّي أحمد- ببقراتٍ يعيره إياها منائحَ يحلب ألبانها في فصل الخريف، ثم يعيدها إليه في الصيف.
ولم يُرزق زيدٌ بذرية، فكنا نحن -أبناء المختار وبناته- أولادَه الوحيدين. وفي العام 1990 مرِض زيدٌ مرضاً أقْعَده، فانتقل إلى قريتنا (الجريف) بضواحي مدينة (النعمة)، وسكن في بيتنا معزَّزاً مكرَّماً، مثل أيِّ والدٍ عزيز يعيش بين أبنائه وبناته. وحين اشتد مرضه نقلناه إلى مستشفى المدينة، حيث تُوفُّي بيننا معزَّزاً مكرَّماً، كما يموت أيُّ والد عزيز بين أيدي أبنائه وبناته. ولم أرَ والدي -على تجلُّده وصبره العجيب- أشدَّ حزناً منه يوم وفاة زيد. وقد لحق أبي بحبيبه زيد في دار البقاء عام 1997، رحمهما الله بواسع رحمته.
كان كلٌّ من جدِّي محمد ووالدي المختار -رحمهما الله تعالى- جزءاً من البيئة الثقافية والاجتماعية التي عاش فيها، وهي بيئة كانت -ولا تزال- تتصارع فيها قيم الرحمة والكرامة الإنسانية التي جاء بها الإسلام مع قيم العبودية والطبقية الاجتماعية المتوارَثة. وقد جسَّد كلٌّ من أبي وجدِّي وجهاً من أوجُه تلك البيئة الاجتماعية ذات المنظومة الأخلاقية المتضاربة القيم: الجدُّ بإهدائه زيداً لابنه الوليد، والإبن بتحريره زيداً لوجه الله تعالى واتخاذه صديقا وشقيقا. أما اليوم فإن خيار والدي المختار وأخويه هو الخيار الوحيد الذي يجب أن يسلكه المجتمع الموريتاني، لا لتحرير العبيد فقط -فهم الآن أحرار من الناحية القانونية النظرية- بل بتعويض التمييز السلبي ضدهم على مدى القرون بتمييزٍ إيجابي، يجْبُر خواطر الأحفاد عما حاق من حيْفٍ بالأجداد، ويحقِّق العدالة الاجتماعية، ويضمِّد الكرامة الجريحة. فمن الخيانة للقيم الإسلامية، والخذلان للحقوق الإنسانية، أن يظل مئات الألاف من أبناء الأرقاء الموريتانيين السابقين وأحفادهم يعيشون في حيف وظلم متراكم.
في عام 2012 أثارت حركة (المبادرة من أجل الانعتاق) في موريتانيا ضجة كبرى، حين عمَدتْ إلى جمع عدد من أمهات كتب الفقه المالكي، وحرَّقتها بطريقة استفزازية في ساحة عامة، بدعوى أن تلك الكتب تسوِّغ الرِّقَّ، وأنها تمثل الركيزة الأخلاقية والتشريعية لاستمرار آثاره القبيحة في المجتمع الموريتاني إلى اليوم، في شكل طبقية اجتماعية، واستغلال اقتصادي، وازدراء لكرامة البشر، لمجرد كونهم أبناءً أو أحفادا لأرقَّاء سابقين. ورغم رفضي المطلق لإحراق الكتب الفقهية بأي ذريعة، فقد نشرتُ حينها سلسلة مقالات بعنوان: “قصة العبودية في كتب المالكية” بينتُ فيها الفجوة الهائلة بين الوحي الإسلامي الداعي إلى الحرية والكرامة، والفقه المتكيف مع الأعراف الاجتماعة في مسألة الرق. ويمكن اعتبار هذه القصة مقدمة لتلك المقالات، كُتبتْ متأخرة عن أوانها بضع سنين.
ولا يزال تساؤل ذلك الشاب الأفريقي المعذَّب: “لماذا المساواةُ في الصلاة والقهرُ في الحياة؟!” يتردد صداه في قلبي وروحي منذ قرأت رواية (مدينة الرياح) لأول مرة -قبل ربع قرن من الزمان- إلى اليوم، وسيظل صداه يتردد في قلبي وروحي حتى تنتصر القيم الإسلامية الخالدة على الأعراف الاجتماعية البائدة.