على غير عادته يخصص طه عبد الرحمن كتابا كاملا للتطرق إلى قضايا آنية ومستعجلة، متخليا عن منهجيته المعتادة، القائمة على أساس ترك مسافة زمنية تمر على الأحداث المستجدة، تتيح له إمكانية التفكر فيها “على مقتضى التأمل الفلسفي المبني على القيم، لا على مقتضى التكهن السياسي المبني على المصالح”، مبررا، اختياره بأن الأزمة الوجودية التي تعيشها الأمتة العربية والإسلامية توجب تعجيل النظر الفلسفي في أحوالها، وتقديمه على كل تحليل سواه، فهو الكفيل وحده بإنقاد الأمة الإسلامية، وجميع الأمم الإنسانية، من المخاطر المحدقة بها اليوم.
يستعمل طه مفهوم الأمة بكيفية مزدوجة فهو يحيل تارة إلى العرب باعتبارهم أمة واحدة، ويقصد به تارة أخرى المسلمين جميعا، عربا وعجما. معتقدا أن هؤلاء وأولئك يواجهون اليوم ثلاث تحديات كبرى وهي: “”تحدي التفريط في القدس” وتصارع الحكام المسلمين على النفوذ” و”اقتتال العرب فيما بينهم””، وكما في كل قضية يتناولها، يعتبر طه أن مقاربته هذه غير مسبوقة ولا مألوفة، فهو أول مفكر عربي يطرق باب هذه القضايا من زاوية فلسفية محضة، بينما تناولها غيره من المفكرين العرب، السابقين والحاليين، من زوايا أخرى مغايرة، تاريخية أو سياسية أو اجتماعية …ألخ.
إن ما يجمع بين المقاربات غير الطهوية هو أنها مجتمعة، في نظر مؤلف “ثغور المرابطة”، مقاربات غير فلسفية، في الوقت الذي يعتبر فيه أن مقاربته، هي الأولى من نوعها، التي تتناول أمهات التحديات العربية-الإسلامية الراهنة، تناولا فلسفيا، يتجاوز الطرائق والمناهج التي اعتمدها كل المفكرون العرب، والتي تشوبها شوائب من قبيل “الاستغلاق على الفهم”، و”ركاكة الأساليب”، و”القصور في استيعاب الآليات المستوردة”، او “المستهلكة” بلغة طه، فضلا عن غياب “الحس النقدي” على هذه الأعمالمجتمعة.
ينظر طه إلى هذه التحديات، إذن، وكما يقول، من زاوية فلسفية، تقوم على نظريته “الإئتمانية”، التي تنظر إلى الصراعات، الناتجة عن مواجهة العرب والمسلمين للتحديات الثلاث السالفة الذكر، أنها ذات جوهر ديني، وهي، من حيث كونها كذلك، لا تخص العرب فقط، بل تخص المسلمين جميعا، وهو هنا لا يستعمل وصفة “الإسلام” للدلالة على دين معين، بل يستعملها بما يعتبره معنى واسع الدلالة، وهو “إسلام الوجه لله” بحيث يشمل، حسب طه عبد الرحمن، “أي فرد مؤمن، أيا كان دينه”. لكن طه لا يكتفي باعتبار هذه الصراعات تخص كل المؤمنين، بل هي معركة كل “أحرار العالم”، وما ذلك إلا لأن الأحرار، بحسب منظوره “الإئتماني”، لا يمكنهم إلا أن يكونوا مؤمنين إيمانا بلا حدود ملية أو طائفية.
لنفصل القول في كل هذه التحديات الثلاث واحدة بعض الأخرى، كما تناولها طه عبد الرحمن، متبعين منهجية تعتمد الوصف والتحليل والنقد، مراعين نفس الترتيب الذي اتبعه طه في مقاربتها، مبتدئين أولا، بتحدي الصراع العربي-الصهيوني، وثانيا، تحدي الصراع الإسلامي – الإسلامي، وثالثا، وأخيرا، بتحدي الصراع العربي-العربي.
1:
“المرابطة المقدسية” والدواء الشافي والكافي لداء العدوان الصهيوني
لا يتردد طه عبد الرحمن في النظر إلى مقاربته الإئتمانية، باعتبارها المقاربة الوحيدة التي تملك مفاتيح حلول كل المشاكل والتحديات المعاصرة، للأمة الإسلامية والعربية، بل وللإنسانية، وفي مقدمتها التحديات التي تفرضها القضية الفلسفطينية.
هكذا لا يبخل علينا مؤلف “ثغور المرابطة” بالترياق، الذي يعتقد يقينا، أنه،الشافي والكافي، لرد كل أشكال العدوان الصهيوني على الأرض والإنسان في فلسطين السليبة، وقد اختار له من الأسماء اسم “المرابطة المقدسية“.
إن هذه “المرابطة” هي الدواء المناسب لداء الاغتصاب الصهيوني لإنسان وأرض فسطين، استخلصه طه بعد ما تبين حقيقة معاناة الإنسان الفلسطيني “في هذا العالم الذي فقد خلق الحياء، بحيث بات كل قوي فيه يصنع ما يشاء“.
ومن أجل أن يحدد حقيقة هذه المعاناة، لا بد من تحديد ماهية هذا الإنسان الفلسطيني الذي يتجرع ألوانا مختلفة من المعاناة، أو بتعبير طه أشكال مختلفة من الأذى، يلاقيها من كل جانب، من الأقارب والأباعد، فضلا عن الأذى الأسرائيلي الذي هو الشر المطلق.
ينظر طه إلى الإنسان الفلسطيني باعتباره ذا خصوصية ليست لسواه من بني الإنسان، لا تفيد في معرفة حقيقتها كل المقاربات التي اعتمدها المثقفون العرب المعاصرون في التعاطي مع معه ومع قضيته المركزية: اغتصاب الأرض والإنسان.
هكذا لم تجد المقاربة التاريخية نفعا في معرفة حقيقة الإنسان الفلسطيني، ولا المقاربة القانونية لأنها تسقط عالمه الغيبي؛ كما لم تفدنا المقاربة السياسية في شيء، مادامت قد أسقطت كلا من بعده السرمدي وعالمه الغيبي.
وعلى الرغم من أن المقاربة السياسية، في نظر طه، أبعد المقاربات وصولا إلى معرفة حقيقة الإنسان الفلسطيني، فإنه يلاحظ أنها هي الاختيار المنهجي الطاغي، عند المثقفين العرب المعاصرين، في تناول القضية الفلسطينية، مما جعله لا يتردد في نقدها نقدا لاذعا، لا يخلو من أمثلة قدحية: فمثلها كمثل “من يبتغي أن يزن الجبل بميزان الذهب” أو كمثل “من يبتغي أن يولج الجمل في سم الخياط”.
وإذا كان من المشروع أن نسأل فيلسوفنا السؤال التالي: هل يتعلق الأمر بمقاربة سياسية واحدة أم بمقاربات سياسية مختلفة ومتناقضة للقضية الفلسطينية؟ فإنه يمكننا ترجيح الظن أنه لم يلق بالا للفروقات والاختلافات الملاحظة بين هذه المقاربات، مركزا على الخاصية المنهجية التي تجمعها وهي كونها، على تعددها وتباينها وتناقضها، ذات طبيعة منهجية سياسية.
وإذا كان طغيان هذه المقاربات، وفي مقدمتها المقاربة السياسية، يجعلنا بعيدين عن إدراك حقيقة الإنسان الفلسطيني ودفع أذيته، فإن البديل الذي يقترحه طه، هو مجاوزة هذه المقاربات، واعتماد مقاربة بديلة، قادرة أن تخلص الإنسان الفلسطيني من ورطته، وهي، “المقاربة الآئتمانية“، التي، تتميز عن المقاربات السالفة الذكر، بكونها “تصل عالم الشهادة وبعالم الغيب”، و”تربط الزمني بالسرمدي”.
تقوم هذه المقاربة على مبدأ مركزي يقتضي أن لكل شيء بعدين اثنين: جوهر وصورة، وأن الروح جوهر الصورة، والصورة تعبير عن الروح أو مظهرها الخارجي؛ بحيث تتمثل صورة الإيذاء الإسرائيلي للفلسطيني في بعدين اثنين: إيذاء الأرض المباركة وإيذاء الإرث الفطري، أما روح هذا الإيذاء فتتمثل، أيضا، في بعدين اثنين: إيذاء الإله وإيذاء الإنسان.
الكيان الصهيوني “إحلال” و”حلول” !
يتجلى إيذاء الإله في منازعته إحدى صفاته وهي صفة المالك، حيث يسعى الإسرائليون إلى أن يكونوا مالكين والفلسطينيين مملوكين، متفننين في شتى أساليب احتلال الأرض، ومبتكرين أساليب وطرائق على درجة كبيرة من الخبث والظلم والطغيان، الأمر الذي دفع طه إلى أن يطلق على هذا الاحتلال نعث “الإحلال” لأنه ليس كأي احتلال. وتعريفه الإئتماني يتمثل في كونه احتلالا للأرض منازعة للمالكية الإلهية.
وإذا كان طه يسمي احتلال الأرض الفلسطينية بالإحلال، فإنه يسمي احتلال فطرة الإنسان الفلسطيني، التي يصنع بها تاريخه، وذاكرته التي يحفظ بها هويته، ب”الحلول“، الذي هو،”احتلال الفطرة المؤصلة، جلبا للقبول بتدنيس الأرض المقدسة”. وهو، أي هذا “الحلول”، ينقسم إلى قسمين: أولهما جزئي وهو “قلب القيم” وثانيهما كلي وهو “سلب الفطرة”.
ينتج عن قلب القيم هذا إفسادات ثلاث: إفساد ذاكرة الفسطيني، وإفساد ثقته بنفسه، وإفساد لتوجهه الخاص؛ لينتج عن هذه الإفسادات مجتمعة إخلال لعلاقة الفلسفطيني بالزمان، ماضيه وحاضره ومستقبله،وإتلاف علاقته بالمكان، أي علاقته بأرضه؛ بالإضافة إلى سلب هذا الإنسان فطرته، من خلال أشكال التطبيع المختلفة مع الكيان الصهيوني، الذي يفضل طه تسميته بالحلول الكلي.
و”الحلول الكلي” ، هو تضييع كلي للإنسان الفلسطيني، شكلا ومعنى، صورة وروحا، بحيث يصبح الفلسطيني مرتبطا بالكيان الاسرائيلي بما يجعل وجوده في فلسطين وجودا مشروعا، لأن المطبع يفضل موت روحه على موت بدنه، ويستبدل الإرادة الدنيا (= الإرادة الإسرائيلية) بفطرته التي هي أعلى، ويستبدل فاسد الأوهام بصحيح الحقائق، ويقضي على فطرته بموتين شنيعين: موت الفطرة وموت الحكمة، وتضييع قداسة الأرض المباركة ،وتضييع الحياء، يما هو، في نظر طه، نسيان كلي للنظر الإلهي، وفقدان التمييز الأخلاقي، وسلوك المسلك النفاقي.
حول ماهية “المرابطة المقدسية”
لا يمكن مواجهة “الإحلال”، ويقصد به طه الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والتصدي ل”الحلول”، أي كل أشكال التطبيع مع هذا الكيان غير الشرعي، إلا بمقاومة فريدة يسميها طه ب”المرابطة المقدسية“، التي وحدها الكفيلة بتحقيق مطلبين اثنين: تجديد قداسة الأرض وتجديد أصالة الفطرة.
يضع طه لهذه المقاومة التعريف التالي: “المرابطة المقدسية هي المقاومة التي تلازم ثغور الأرض المقدسة لتتصدى لتدنيسها، وتعيد إليها قداستها، وتلازم ثغور الفطرة المؤصلة لتتصدى لتزييفها وتعيد إليها أصالتها”.
ويتميز هذا اللون من المقاومة، بخصائصه المتفردة، التي لا توجد في غيره من أنماط المقاومة السائدة اليوم؛ وما ذلك إلا لأنها تستمد مشروعيتها الأخلاقية من الرسول محمد، الذي هو، في نظر طه، المرابط المقدسي الأول، الذي لا ينقطع رباطه إلى يوم الدين.
وانطلاقا من هذه الخاصية المركزية تأتي بقية خصائص هذه المرابطة، فهي ليست مقاومة مادية بقدر ما هي مقاومة معنوية، وهي “وثاق يجمع بين قوة جبريل، إحكاما، وسرعة البراق تأثيرا”، وهي، أيضا، “حالة سجودية تلازم المرابط في كل أفعاله وأوضاعه”، وهي حالة شهودية تلازم المرابط في كل أعماله”.
تستمد “المرابطة المقدسية” قوتها وفعاليتها، من كونها مقاومة روحية بالدرجة الأولى، وما المقاومة الجسدية إلا امتداد لها، ومنها تستمد زخمها ونجاعتها؛ بل إن المقاومة الجسدية منفصلة ومنقطعة، بينما المقاومة الروحية متصلة ودائمة، لأن أرواح المرابطين الروحيين متصلة بينما أجسامهم منفصلة.
لا تمثل “المرابطة المقدسية”، إلا واجهة، من واجهات النضال والمقاومة، ولا تسد إلا ثغرا من ثغور المرابطة، التي يتعين على الأمة مواجهتها، بما يقتضيه الوضع من حزم وقوة، وتبقى هناك ثغور أخرى لا بد من التعامل معها، وتخصيص كل واحد منها بالمرابطة المناسبة له.
2:
الثورة الأخلاقية والحل الإئتماني للصراع “السني”- “الشيعي”.
لا شك أن من أبرز التحديات التي تواجه المسلمين اليوم، بعد التحدي الصهيوني، ما يعيشونه من صراعات وحروب وفتن داخلية، تضعف قدرتهم، وتشتت وحدتهم، وتجعلهم عاجزين عن مواجهة أعداء الأمة الخارجيين؛ لذلك سيخصص طه قولا مطولا لمقاربة قضية الصراع على النفوذ في العالم الإسلامي، بين “الشيعة” و”السنة”، ممثلا في الصراع بين النظامين السعودي والإيراني.
يعتمد النظام السعودي في بسط نفوذه على الساحة الإسلامية، وسيلتين اثنتين: الإيولوجية الوهابية (أو الفكرانية الوهابية بتعبير طه)، والثروة النفطية، في الوقت الذي يعتمد فيه النظام الإيراني على الإيديولوجية الخمينة والثورة الإسلامية.
يقف طه عند وسائل هذا الصراع وأضرارها على الأمة الإسلامية، مفندا ادعاءات النظامين بقيام كل منهما على حماية المسلمين وبناء وحدتهم؛ فادعاء النظام السعودي خدمة قبلة المسلمين ادعاء كاذب، في نظر طه، من وجهين اثنين:
أولهما، أنه “لوكان النظام السعودي يروم حماية هذه القبلة، لا حماية نفسه، لما وجد، في العدو التاريخي لمجموع الأمة، أي الكيان الصهيوني، حليفا يظاهيه في القضاء على نظام ينتمي إلى هذه الأمة نفسها”.
وثانيهما، أن الهم ” الشاغل للنظام السعودي هو الوصول إلى هدفين اثنين: أن يتفرد بهذا النفوذ الإسلامي، محرما على غيره ما بات يبيحه لنفسه، على الرغم من أنه لا يملك من مصادر القوة إلا المال؛ والثاني أن يمنع قيام أي نظام عادل في محيطه، إسلاميا كان أو عربيا، نظام يمكن أن يبعث في شعوب الأمة الأمل بأن ترى أنظمتها تنتهج نهجه”.
وعلى خلاف، ما يدعي النظام السعودي، فإن وسائله في بسط هيمنته وفرض نفوذه على العالم الإسلامي، لم تزد الأمة إلا ضعفا وفرقة، فإيديولوجيته الوهابية التي استغل ثروته النفطية في فرضها على الشعوب الإسلامية، من دون أدنى احترام لخصوصياتها التدينية، صحرت الفكر، وزعزعت المعتقدات.
وإذا أضفنا إلى ذلك تبديده الجنوني لثروته المادية بلا طائل وقفنا، حسب طه، عند المرض المزمن الذي يعاني من هذا النظام وهو “الاختلال في الوجهة“، فأصبح يفسد من حيث يريد أن يصلح، ويفكك الأمة من حيث يريد توحيدها، ويضعف نفوذه من حيث يريد تقويته.
أما النظام الإيراني، الذي يعتمد، في بسط نفوذه، على الإيديولوجية الخمينية والثورة الإسلامية، فقد خول لنفسه حق التدخل في معتقدات الشعوب، وفرض رؤيته الطائفية عليها ، مشكلا بذلك تهديدا لتعدديتها وتنوعها، مما اصابه بداء “الاغترار بالقوة” .
هكذا يلاحظ طه عبد الرحمن أن الصراع بين النظامين تدرج من صراع سياسي إلى صراع ديني وطائفي، ثم انتقل إلى صراع عرقي وقومي، يراهن على الصراع الطائفي، بين أهل السنة العرب والشيعة الفرس، ويعتمد أسلوب إحياء صراعات وأحقاد وجراحات ماضي الصراع السني الشيعي.
إن كلا منهما، لا يطلب “استرجاع الصراع الطائفي، على مقتضى حقيقته السياسية التاريخية، مع ما انطوت عليه من المآسي، وإنما على مقتضى قدرته على إخراج الجمهور من فضيلة الاستواء إلى آفة الانقلاب؛ فالنظام السعودي يسعى إلى أن تنقلب مقاصد الجمهور بعد استوائها، حتى تنكسر غيرته على حفظ الحرمات؛ والنظام الإيراني يسعى إلى أن تنقلب وسائل الجمهور بعد استوائها، حتى تبالغ همته في التعلق بالمقدسات”.
لقد قام طه عبد الرحمن بالعودة إلى تاريخ هذا الصراع وأعاد قراءتها وفق مقتضيات نظريته الخاصة، التي يدعوها ب”النظرية الائتمانية”، قراءة لم يكن الهدف منها إعادة بسط التفاصيل التاريخية المعروفة لأطوار هذا الصراع، وإنما المقصد منها الوقف على “المنطق الإئتماني الأخلاقي الذي تحكم في تقلبها، وأن نتبين أين النظامان السعودي والإيراني من هذا المنطق”
ولاشك أن خلاصة هذه “القراءة الإئتماني” ستكون صادمة لأنصار النظامين، فهما معا، كاذبين ومضللين، حينما يدعي كل واحد منهما أنه يخوض صراعه من أجل الدين، أو دفاعا عن الشيعة أو نصرة للسنة، إذ لا أحد منهما يمثل كل الشيعة أو كل السنة، فضلا عن كونه صراعا لا علاقة له بالدين الإسلامي وبمبادئه وقيمه، وإنما صراع هيمنة ونفوذ وتسلط واستبداد.
وإذا كان النظام السعودي قد اعتمد في الشرعنة لنفسه على فقهاء، ابتعدوا عن السياسة، “لا عن تخيير، ولا بقصد التفرغ لتزكية النفس، وإنما عن تحييد وبقصد التفرغ لتزكية النظام”، فإنه ليس غريبا أن يسقط هؤلاء الفقهاء العمل بمبدأين إسلاميين كبيرن وهما: مبدأ الولاء والبراء، ومبدأ أخوة المؤمنين.
أما النظام الإيراني فهو قد اعتمد في شرعنة وجوده بفقهاء متسيسين، يعطون الأولوية للتدبير السياسي على باقي الأعمال الشرعية، سواء كانت عبادات أو معاملات، الأمر الذي خول للولي الفقيه سلطة سياسية مطلقة، لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود.
وإذا كان النظامان معا يسببان الأذى للأمة الإسلامية، النظام السعودي باختلال وجهته، والنظام الإيراني باغتراره بقوته، فإن طه، يستطرد، في سياق تحليله، أن النظام الإماراتي “اجتمع فيه من الآفات ما تفرق في النظامين: السعودي والإيراني، وهما الاغترار بالقدرة، مفضيا إلى انقلاب الوسائل؛ والاختلال في الوجهة، مفضيا إلى انقلاب المقاصد”.
فإذا كان اغترار النظام الإيراني “يرجع إلى تبنيه المركزية الشيعية في العقيدة والثورة”، فإن طه عبد الرحمن يرى أن اغترار النظام الإماراتي أشد سوءا وضررا منه، لأنه “يرجع إلى تبنيه السياسة الأمريكية والإسرائلية في المنطقة العربية، متوليا تنفيذ بعض مخططاتها”.
كما أن “اختلال وجهة النظام الإماراتي أسوأ من اختلال وجهة النظام السعودي؛ إذ أن اختلال الوجهة في النظام السعودي مرده إلى وجود موالاته لأعدى أعداء الأمة، في حين أن اختلال الوجهة لدى النظام الإماراتي مرده إلى توليه هذه الموالاة، فتحا لبابها وتوسطا فيها وحملا للدول العربية والمسلمة الأخرى عليها، إن إغراء أو إرغاما”.