علل الصفقة الكبرى – من غاية الاستضعاف الى بداية الاستئناف – ابو يعرب المرزوقي.
الرد على صفقة القرن معلوم للجميع للأمة ولأعدائها.
لكن لا أحد يريد الافصاح عنه فيعلنه صراحة.
ولست أزعم علم الغيب لأنه ليس منه ولا حتى من اسرار عالم الشهادة.
ومع ذلك فالناس لا يريدون الاعلان عنه.
وها أنا سأفعل واجري على الله.
ولست بحاجة إلى كبير جهد لأن التاريخ هو الذي يصيح به لكأنه في واد.
فالرد على الصفقة لا ينبغي أن يتعلق بها مباشرة بل بما يجعلها قابلة للتحقيق ولو بعد قرن ونيف من وعد بلفور لأنها تعتبر استكمالا لهذا الوعد لم يتوقف الأعداء عن الاعداد لها.
ومن ثم فما يعد لها هو عين ما أعد له حتى وإن كان الاعداد الثاني قد تطلب مدة اقصر من الاعداد الاول: الصفقة تستفيد من الاعدادين فالأول بدايتها وهي غايته.
فما الذي جعل وعد بلفور يثمر فيصبح حقيقة على الأرض؟
كلنا يعلم والأعداء يعلمون أنه ما يسمى بسايكس بيكو الذي كان خطة لإسقاط الخلافة وتقسيم الإقليم بصورة جعلت تحقيق وعد بلفور ممكنا.
وسايكس بيكو هذه كانت الأولى.
وما يجري حاليا منذ ما سمي بالفوضى الخلاقة هو مشروع سايكس بيكو الثانية.
وإذن فالرد على صفقة القرن ليس في فلسطين بل هو في ما جعل احتلالها ممكنا ويقتضي القيام بعملين موجبين لا يقتصران على رد الفعل الذي سيطر على أهل الإقليم ممن يستهدفهم الاعداء وليس ممن يتوهمون أنهم “دهاة” قد يستفيدون من غزو الاعداء للإقليم فيرجعوا تاريخ الإسلام باستعادة دولة فارس الماضية أو بالمحافظة على ما تلا سايكس بيكو الأولى مستقبلا.
والأعداء يستهدفون من ليسوا من هذين النوعين أي شعوب الاقليم الذين كان لهم الدور التاريخي الأهم في قيام دولة الإسلام وفي الحفاظ عليها.
وهم يستخدمون العملاء في خططهم.
وقد تبين هؤلاء بصورة واضحة لمن كان يشكك في كلامي على ممثليهم منذ عقود إذا تبين أنهم من يقود الحرب على تحرر شعوب الاقليم وخاصة بعد ثورتها: قيادة العودة إلى ما قبل جغرافية الاقليم الإسلامية (إيران وعملاؤها) وقيادة تثبيت جغرافية سيكس بيكو الأولى (السعودية وعملاؤها).
وبين لكل قارئ أن من يريدون تثبيت جغرافية سايكس بيكو الأولى هم أحفاد المشاركين فيها ضد ما كان يحمي الإقليم ضد التفتيت الذي يسر تحقيق وعد بلفور.
ومن يريدون العودة إلى جغرافية ما قبل الإسلام هم أحفاد من تآمروا منذ أكثر من 14 قرنا ضد دولة الإسلام بتحريف عقيدته والحلف مع كل أعدائه.
وما كنت أحاول بيانه لدحض خرافات الاعتماد على أحفاد المشاركين في سايكس بيكو الأولى وأحفاد الساعين للانتقام من الإسلام الذي أسقط امبراطورية فارس بيانه للنخب العربية التي تنتظر منهما تحرير فلسطين لم يعد بحاجة لأي جهد أبذله حتى يقتنع به كل الإقليم بمجرد النظر إلى دور الصفين في خدمة الثانية.
وإذن فأحفاد المشاركين في سايكس الأولى صاروا أدوات مشروع سايكس بيكو 2 وأحرص الناس على تحقيق غاية وعد بلفور بعد مشاركتهم في بدايته وهذه المرة بتمويلهم والمشاركة في الحرب على مقاومة الشعب الفلسطيني.
وأحفاد الأكاسرة يغذون حمقى العرب بالأقوال ويحققون بالأفعال نفس الغاية على الأرض: بدءا بالضفة الشرقية من الخليج واحتلالا صامتا للضفة الغربية منه.
فيترتب على ذلك أن الرد الموجب والمتجاور لرد الفعل لا ينبغي أن يكون فعلا هو فعل مضاعف:
الأول اعتبار الحرب ليست موجهة إلى الأعراض بل إلى العلل التي تجعل استكمال وعد بلفور أو الصفقة يتحقق هو مشروع سايكس بيكو 2 وهي جارية بلا توقف ومتعثرة وإلا لكان ما يحصل حاليا قد تم منذ 48.
وهنا اشير إلى ما اكتشفه الأعداء.
لم يكن كافيا إسقاط “بدن” الخلافة في الوجود العيني. كان لا بد من أسقاط “روح” الخلافة في الوجود الذهني.
وحتى هذا لم يكن كافيا لأنهم اكتشفوا أن علمنة تركيا فشلت لأنها لم تتجاوز قلة من المستلبين روحيا وذهنيا ففهموا أن المعركة هي مع الإسلام نفسه.
والخوف الأكثر هو ما نتج عن هذا التحول في استعادة شروط القوة والتحرر من التبعية في أقل من عقدين.
وما يسمونه إسلاما سياسيا أو اخوانيا هي”أوفيميسم-استظراف العبارة”. فالقصد هو ما يخفيهم في الإسلام أعني الروح التي لا تصل وصلا أصليا بنين علاقة الإنسان بربه باعتباره خليفة وعلاقته بما استخلف فيه أي بالاستعمار في الأرض ما يعني أن جوهر الإسلام هو هذه العلاقة بين الوجودين الدنيوي والمتعالي عليه مقومين لمنزلته الوجودية ولشروط حريته وكرامته.
فتفهم الحرب الصريحة على بعدي منزلة المسلم الوجودية بأداتين نراهما بالعين المجردة:
1. تدنيس رمز الوحدة في الأعيان وحدة الاستعمار في الأرض مكانها وزمانها بدولة الإسلام الواحدة. وهو سر إيجاد داعش واستعمال مفهوم الخلافة المحرف لأنه من دون شروطه الإسلامية.
2. وتدنيس رمز الوحدة في الأذهان وحدة الاستخلاف التي تعني سيادة الامة وعزتها ودورها الكوني بوصفها أمة سيدة.
والوعي بهذه المنزلة هو الرد الموجب الأول. وهو أمر تأكد الأعداء من أنه قد عاد وعاد بعنفوان لم يجدوا له تفسيرا رغم كل ما صنعوه للقضاء عليه منذ حروب الاسترداد إلى اليوم.
تأكدوا أن الحل الوحيد هو ما سموه الفوضى الخلاقة أي إدخال الاقليم الذي هو قلب الإسلام وقاطرة امته في حروب لا تتوقف. وهذه رغم ما ترتبت عليها من آلام وخسائر تشبه ما كان عليه العرب والأتراك من فوضى بدائية أعدتهم لحمل رسالة الإسلام في السلم وفي الحرب.
وهذا هو ما يمكنني اعتباره مكر الله الخير: فما تصوروه معدا لسايكس بيكو الثانية صار مهدما لسايكس بيكو لأولى جغرافيا ومحييا لما حاولت القضاء عليه تاريخيا.
ومعنى ذلك أن أمرين يشبهان المعجزة في لحظتنا الراهنة قد حدثا بفضل خطط الأعداء و”مكرهم” المباشرين روسيا وأمريكا بعد أوروبا أو ذيليهما إيران وإسرائيل أو ذيول الذيلين أحفاد عملاء الأولى: فكان مكر الله الخير هو الغالب.
وقد اتضح الأمر خاصة بعد الثورة.
فالثورة المضادة فضحت الصفين.
فأحفاد سايسك بيكو الأولى انقسموا إلى التوابع من الهلال الذين في حماية إيران وروسيا والتوابع من الخليج الذين في حماية إسرائيل وأمريكا للحرب على ثورة الشعوب التي تريد التحرر التبعية ومن الاستثناء التاريخي في العصر.
والشعوب إذا وعيت وثارت كان الله في عونها فلا غالب لها.
فتوحدت المعركة في الإقليم ولم يبق لحدود سايكس بيكو وجود إلا في الورق والرسميات. لكن الحرب عمت من حدود إيران إلى حدود الجزائر ومن المتوسط إلى حدود الإسلام في افريقيا وآسيا بحيث إن الإقليم كله صار يتنفس ثورة وسعيا لاستعادة دوره واستئناف تاريخ الأمة وكأن سايكس بيكو 1 أثر بعد عين.
ولولا ملاحظتي ذلك ما عبرت عن التفاؤل رغم يأسي من الكثير من نخب العرب والكرد والأمازيغ والاتراك ممن توهموا أن العلمنة حل ولم يدركوا أنها استعمار ذهني لأن الإسلام متسغن عما ينسبونها إليها من فضائل هي فيه بالطبع وخال مما فيها من رذائل وهم لا يزالون مؤمنين بخرافتين:
1. خرافة الدولة القطرية بحدود سايكس بيكو 1 الحديدية التي تحول دونها والتعاون لتوطيد التبعية بدلا عن الجمع بين القطري والاقليمي كما تفعل أوروبا لتتقوى.
2. ثم هم بوعي أو بغير وعي ينكصون بالمسلمين إلى حروب عرقية وطائفية وثقافية بين الأصيل والدخيل لكأنه يمكن بناء الامم بالعيش على ماضي الذات المتقدم على الاسلام المتجاوز لهذه الامراض أو على ماضي الغير الذي بدأ يتحرر منها فيبني الوحدات المتجاوزة للعرقيات والطوائف بدلا من ابداع الذات المتواصل والمتحرر من التقليد عامة سواء تقليد هذا ما وجدنا عليه آباءها أو هذا ما فرضه علينا أعداؤنا لما تصورون أنديجان.
فبهذين الفعلين الموجبين تدخل الصفقة في بداية النهاية لأن ما جعل الوعد يحقق موطئ قدم هو سايكس بيكو الأولى وهي أفلت. ومن دون الثانية التي سنفشلها لن يكتمل. وتوقفه يقتضي فشل سايكس بيكو 2 .
وهو رهان المعركة الحالية بعد انفراط سايكس بيكو 1 بمجرد عموم الحرب للإقليم في معركة واحدة أزالت الحدود التي وضعها الاستعمار وسنربحها حتما.
ومرة أخرى: فصمود الشعب التركي الذي لم يستطيعوا علمنته ليس بدافع خدمته بل بهدف قلعه من تاريخه اعتبره من أهم علامات النصر الحتم وبشائره.
ولذلك فحرب كل من وصفت في المحاولة تركز على تركيا وتريد ضربها ثانية. لكنها لم تبق الرجل المريض: إنها في عافية وعنفوان يحسب لهما ألف حساب.
لكن ما لم يكن أحد يتصوره هو المعجزة الأكبر التي جاءت من مغرب الإسلام. من قاعدة الفتح في المغرب.
من تونس الخضراء. فقد حاولوا أيضا علمنة شعبها وكان أتاتورك نموذج بورقيبة.
والنتيجة أن ما حدث في تركيا من عودة إلى الذات ولم يتجاوزها صار في تونس زلزالا كبيرا شمال الإقليم كله. فبهت الذين كفروا بعودة الإسلام واستئناف التحرير والتحرر.
ولذلك فتونس الآن مستهدفة من كلا صفي الثورة المضادة مع ثمالة الاستعمار الفرنسي الذي يحاول أن يعتمد عليهما: تونس تعاني من تدخل توابع اسرائيل من عملاء العرب وتوابع إيران من عملائهم وتحاول فرنسا التحالف معهما ومحاصرتها من جنوبها بتدخلاتها السافرة في ليبيا وتأييد حفتر كلب أمريكا.
والمعجزة بدأت بحادثة قد يبدو تافهة في مجرى الاحداث التاريخية: غضبة شاب من أهانته. لكنها كانت القطرة التي أفاضت الكأس والقشة التي قصمت ظهر بعير المستلبين.
فأصبحت تونس قبلة شباب الأمة كله نموذجا احتذوه لإسقاط بعض العملاء في الإقليم.
ولعلم الأعداء بفاعلية النموذج يتحالفون مع كل العملاء فيها لأسقاط التجربة.
لكني واثق من أن عاصمة الفتح في المغرب الإسلامي ستصمد خاصة وقد قد من الله عليها بعودة الشعب الجزائري إلى الفاعلية التاريخية. فقد استأنف تحركه لأن الربيع بدأ عندهم قبل غيرهم منذ موفى ثمانينات القرن الماضي وكان لفرنسا وعملائها الدور الأساسي في اخماد ثورتهم السلمية بالحديد والنار طيلة عشرية سوداء.
وختاما فاستنجاد ليبيا بتركيا التي لبت الدعوة وثورة شباب العراق وشباب لبنان كل ذلك من المبشرات رغم جمع عربان الثورة المضادة وأدواتهم من مليشيات عربية وأجنبية بسند فرنسي وروسي ومصري وإماراتي وسعودي وبمليشيات إيرانية بعثها نعجة دمشق وبتأييد من أشباه القوميين العرب ومع ذلك فهي صادمة: بدأ الاستئناف والنصر آت لا ريب فيه.