كورونا وإعادة بناء الفعل السياسي(مبارك الموسوي)_2_
تلك الأجوبة الكبرى عن الأسئلة الكبرى دوما تتجلى عمليا في ماهية الدولة ومهامها وفي علاقتها مع عموم الناس وباقي الدول، أي في سؤال النظام السياسي عموما.
وقبل أن نعرض لمعنى إعادة بناء الفعل السياسي من خلال إعادة النظر جذريا في ماهية الدولة ومهامها وفي معنى الحزب وأدواره والمؤسسة المجتمعية والنخب ووظائفهما، لابد أن نعرض لأمرين كانا من أهم عوامل صناعة الوعي الزائف، بما أن الانتباه إليهما مقدمة هامة لكشف أخطر ما في وجه الاستكبار الإنساني تجاوزا، وإلا فمتى كان يحمل من معنى إنسانيا عبر تاريخه؟
الأول في مؤامرة عدم التفكير في مستقبلنا مع استحضار المؤامرة علينا، وكأن الاستكبار “رحمة عالمية”، ومن فكر بهذه العقلية يحرم نفسه من هذه الرحمة، ذلك أن استحضار المؤامرة هو الوعي الحقيقي بحجم اختراق جسمنا من طرف هذا الاستكبار وبوسائله في هذا الاختراق.
طيلة عقد التسعينات دوختنا الآلة الإعلامية الاستكبارية حتى جعلت كثيرا من مثقفينا ومفكرينا يلحون على أن التفكير بعقلية المؤامرة ضعف ورمي لأزماتنا ومشاكلنا على الغير، أي على الآخر، وكأننا لم نذق طعم العلقم أبدا من استكبار لم يتوقف يوما عن الإبداع لإخضاعنا ونهب خيراتنا في السر والعلن.
نعم، الوعي بالمؤامرة لايقل أهمية عن الوعي بالذات الشرط الأساس في بنائها وتجديده في الوقت المناسب توفيتا للفرص على المؤامرة وإنجازا لمهام العمران في حينها، إذ هذا الوعي الذاتي بالذات هو ما يجعلها تدرك خطورة المؤامرة فيحميها منها بتوفير عوامل الممانعة والمقاومة دون أن يرهن هذه الذات في هذه الوضعية (وضعية المقاومة) بل يفتح لها كل الطرق المشروعة للبناء المتصاعد والقوي والمستقل، وهو ما لا يقبله الاستكبار على الإطلاق، ومستعد أن يمنح كل مطلوب بإرادته وتقديره مقابل أن لا تتحول الذات إلى مشروع متكامل مستقل يناهضه، وإذا كان منها الإصرار فالعنف المباشر أو الناعم هو دواؤها المفروض.
نفي المؤامرة نفي للتدافع الذي لولاه لفسدت الأرض جملة فسادا مطلقا، لكن الفرق بين مؤامرة الاستكبار وتحالف المستضعفين المطلوب هو مضمون القيم التي تشكل مضمون فعل كل منهما وغاية حركته.
حركة الاستكبار مبنية على جهل مركب لم تستطع حجبه كشوفاته العلومية، لأن استفادة الإنسانية منها هامشية وتبعية إذا ما قورنت بحجم رغبته في استغلال خيرات الكون بمنطق مصلحي نفعي سلبي ضيق تنتج عنه مظالم ومتاعب حادة للإنسانية، وإذا ما قورنت بحجم الفساد والدمار الذي صحبه تنزيل هذه الإرادة على الواقع.
جهل مركب لأنه جهل بالخالق جحودا بسننه، وجهل بالإنسان عنف شامل عليه، لذلك فتفكيره اتجاه الآخر استعلاء واستخفاف واستغلال ورغبة في الإخضاع بكل الوسائل.
أما تحالف المستضعفين، فكما تؤكد تجارب التاريخ أن بمجرد حصولها يحدث تحول هائل وجوهري في الوجود الإنساني معنى ومبنى، خاصة حركات الأنبياء والرسل، وخاصة التي صُنعت على يد خاتمهم سيدنا محمد بن عبد الله عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام وقادها في زمن قياسي فغيرت وجه العالم. ولذلك فكل اللحظات المضيئة في تاريخ الإنسانية هي تلك التي قادتها هذه النماذج الفريدة في الوجود البشري ومن كان على خطاهم، ثم تليها تلك التي قادها أهل المروءة من فضلاء الإنسانية وهي ناذرة، أما اللحظات الحالكة والمؤلمة فتلك التي يقودها الاستكبار والطغيان، وتعظم كوارث هذه اللحظات بقدر ما مع هذه القيادة من علو ووسائل السطوة والظلم والاستكبار والجرأة على الفساد والنهب.
إن المؤامرة أصل أصيل في فعل الاستكبار ولايمكن أن تحجبها جرعات ذات الصبغة الإنسانية احتيالا وتمويها لم يعد بين يدي حجم الاتصال والتواصل الإنساني الكوني فرص كبيرة لنجاح هذا التمويه، لذلك يمكن القول إن مرحلة تاريخية مهمة بدأت لإنجاز مراحل الحرية التاريخية التي لها رجالها ومشروعها التحريري التحرري.
أما العامل الثاني في تكريس الوعي الزائف، حتى عند كثير من النخب، فهي شعارات ذات معنى إنساني، لكنها لم تكن إلا وسائل فرض الهيمنة وتعميق المسخ لمعنى الوجود الإنساني.
إنها الشعارات التي تكشف عن حجم خبث المؤامرة، وقد صارت لها السطوة على النفس والفكر والحركة، بل فُرضت على برامج الدول في التربية والتعليم والثقافة والفكر والتواصل، وصارت معيار مدنيتها وتحضرها وإنسانيتها، بل حكمت على مصائر أنظمة سياسية ودول ومجتمعات.
وباعتبار معيار المكيالين الذي طغى على العلاقات الدولية في القضية الفلسطينية وجميع قضايا الأمة الإسلامية وكثير من قضايا الدولة المستضعفة، وهو معيار فضحته أحداث العالم العربي والإسلامي بعد ما سمي بالربيع العربي الذي تفرج فيها العالم على البطش والقتل الجماعي والفردي وتدمير دول ومجتمعات والنهب العلني لخيراتها الظاهرة والباطنة، باعتبار هذا المعيار يُفرض اليوم على الجميع السؤال عن مصداقية تلك الشعارات التي شغلت نخبنا بكل فئاتها لتستيقظ على انهيار شبه كلي أو كلي لدولها ومتجتمعاتها واقتصادها ونظامها الاجتماعي.
أين وصلت بنا شعارات حقوق الإنسان المدعى زورا أنها متعارف عليها دوليا، ولم تكن إلا وسيلة ابتزاز في الغالب؟
أين وصلت بنا شعارات الديموقراطية التي كلما أفرزت ما لا يُرضي الاستكبار ومن لا يرضى عنه تم الانقلاب عليها بأي وسيلة. فهل سينسى التاريخ جزائر التسعينات وفلسطين العقد الأول من القرن العشرين، ومصر وليبيا مع ما سمي بالربيع العربي… وغير ذلك؟
إننا أمام سؤال عميق في مرحلة تاريخية كبيرة استغرقت القرن العشرين وما مر معنا من القرن الواحد والعشرين، وسيأتي يوم تعاد فيه كتابة معركة حقوق الإنسان والديموقراطية في عالمنا العربي والإسلامي وقراءتها للاستدلال على زمن ضاع جريا وراء سراب قدمه الاستكبار لن تصل إليه هذه الشعوب وكثير من نخبها لهول الغموض الذي غطى فكرها ونظرتها إلا بعد أن تزيل عنها حجبا ناعما غالبا ما أقامها هذا الاستكبار نفسه مستعملا كل حلفائه.
إن الوعي بهذه الحقيقة الفكرية والسياسية يعني بدء مرحلة جديدة من حياة هذا العالم الذي يتخبط اليوم في حالة رهيبة من التمزق والعنف والإقصاء.
نعم، لا يعني هذا الوعي بوهم هذه المعركة نفي لحقوق الإنسان، إذ المقصود التمييز بين دعوى صادرة عن الاستكبار وهو راعيها وبين دعوة الفضلاء في الغرب وغيره ليتمتع كل الإنسان بكامل حقوقه، وقد قدم رجال ونساء حياتهم فداء لهذه الدعوة، ولاشك أنهم أسس من أساسات زمن الحرية التاريخية التي أصبحت مسألة حياة أو موت بالنسبة للإنسانية.
نفهم هنا أن دولا، مثل الصين وكوريا وإيران وغيرها، من الدول التي قاومت منطق المتاجرة الذي يفرضه الاستكبار في قضية حقوق الإنسان من داخل نظامها السياسي والاجتماعي بغض النظر عن علاقتها هي بمواطنيها وبحقوقهم، وهي دول لها أهميتها اليوم في معادلات دولية رغم ما تعرضت له من تضييق استكباري، في حين نجد دولا خضعت للابتزاز وناورت في قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان اتجاه مواطنيها واتجاه الأخر، فلاهي على تماسك داخلي ولا ها معنى في المنتظم الدولي إلا وظائف هامشية تحت طلب دول الاستكبار.
لذلك فبعد كورنا الذي فضح حقيقة هذه الشعارات، إذ لم تضمن للإنسان وجود بنية تليق به لتحمي صحته وتؤمن له وضعا اجتماعيا يطمئنه على حياته وحياة ذويه، سيعاد النظر جذريا في ماهيتها وفي كيفيات تحقيقها والحفاظ عليها.
فلعبة حقوق الإنسان، ومنها لعبة حقوق الطفل والمرأة، ولعبة الديموقراطية لن تنطلي على الإنسان الخارج من آلام جائحة كرونا من حيث هي وباء عالمي عميق الأثر، لأن هذه الحقوق في سياق الفعل السياسي الاستكباري بكل فروعه لم تمنع كل ما رأيناه من بطش بهذا الإنسان الذي أوجعه السياسي وحلفاؤه في المال والأعمال والإعلام وجعلوه موضوع المتاجرة حتى في أزمنة الحروب.
فبأي معنى حقوقي واجتماعي سيكون إنسان ما بعد زمن كرونا؟