الدراسات القرآنية عند الدكتور محمد عابد الجابري: النسخ أنموذجا مقاربة نقدية(عبد الله الجباري)_2_
أين الخلل؟
لم يكن الجابري متمكنا من العلوم الشرعية، لذا نجده يخبط خبط عشواء في الحديث عن مباحثها وفروعها، ومن المنطقي أن ينتقل تخبطه من الكل على الجزء، فيقول في النسخ ما لا يقوله عاقل يعرف أبجديات العلوم الشرعية.
لماذا يرفض الجابري النسخ؟
الجواب أنه لم يفهم معناه أصلا.
لنتأمل قوله: “ما ندعو إليه هو فقط الاستغناء عن مقولة “الناسخ والمنسوخ” التي تجعل الناسخ يحل محل المنسوخ ويبطل حكمه، وكأن المنسوخ كان خطأ أو أن إرادة الله قد تغيرت، كلا. إن أحكام القرآن كلها قائمة أبدا، لا تعارض فيها ولا تناقض ولا تجدد، بل التعارض والتجدد قائمان في الأشياء والنوازل، وليس في أحكام القرآن، وعلى الإنسان أن يجدد فهمه للأحكام حتى تتلاءم مع المستجدات”[1].
قبل التعامل مع هذا النص، نشير أولا إلى ركاكة أسلوبه في: “ما ندعو إليه هو فقط الاستغناء عن …”، وكان حريا به أن يحذف [فقط] ليرتقي أسلوبه نسبيا.
وقوع النسخ عند الجابري يلزم منه أن المنسوخ:
** ثبت أنه خطأ.
** أو أن إرادة الله تغيرت.
وهذا غير مطروق في النسخ القرآني. وإذا أردنا أن نتبنى منهجه، فإننا نقول على سبيل الإلزام:
[يتبنى الجابري فكرة وحيدة، وهي أن النسخ هو نسخ الشرائع فقط، وليس نسخ آية بآية، ونحن نخالفه في ذلك، لأنه يوهم أن الشريعة المنسوخة كانت خطأ].
تعالى الله، تقدس الله.
لا علاقة للنسخ بالخطأ، ومن ينطلق من المدخلات الخطأ، يصل حتما إلى المخرجات الخطأ.
من ينطلق من التعامل مع الله تعالى على أساس أنه إله بكل ما له من صفات الكمال ونعوت الجلال، لا تخطر بباله هذه المعاني على الإطلاق.
القول بنسخ حكم ما لا يلزم منه القول بخطأ ذلك الحكم، بل الله تعالى صاحب الإرادة المطلقة، إذا أراد أن ينزل حكما، ثم ينسخه لاحقاً لحكمة علمناها أو لم نعلمها، فهذا من لوازم ربوبيته سبحانه، هو المريد لذلك، وهو القادر على ذلك، وهو العليم بحكمة ذلك.
ونحن قد نجتهد في معرفة الحكمة، فنقول:
- قد يكون ذلك ابتلاء للمؤمنين، خصوصا أنهم حديثو عهد بالإيمان. ليمحص الذين آمنوا ويميزهم عن المترددين المتشككين.
- قد يكون ذلك تنبيها للمشركين واليهود، ليبين لهم أنه هو الرب سبحانه، وأنه مصدر هذه التشريعات، وليس النبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، ولو كان القرآن من إبداع ونظم النبي صلى الله عليه وسلم لتخوف من النسخ، خصوصا في تلك المراحل الحساسة من مسيرة الدعوة. خشية أن يتخذه الأعداء تكأة للطعن في الدين.
- وقد يكون النسخ “تدرجا بالمكلفين من حَسن إلى أحسن، وانتقال بهم من حُكم وقتي إلى حكم دائم ملائم لجميع الأزمان والأشخاص والمجتمعات”[2].
لمّا لم يستسغ الجابري وقوع نسخ الأحكام في القرآن، زعم أنه “يحمل تناقضا لا حل له، إذ كيف يمكن أن يكون هناك قرآن للتلاوة فقط، وهو يحمل معنى مفهوما واضحا؟ …القرآن كله محكم، لأنه يحمل معنى، سواء على مستوى الحقيقة أو على مستوى المجاز”[3].
وهنا يخلص الجابري إلى أن الآية، بمجرد ما يكون لها معنى، فإنه لا يجوز القول بالاقتصار على تلاوتها ونسخ العمل بها، ويمكن أن نورد هنا قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ” [النساء: 43]، وهي آية نعلم معناها، ونتلوها ونتعبد بها، ولا يعمل بمحتواها وحكمها إلا زنديق.
معنى “الآية”:
استدل القائلون بنسخ القرآن، بخمس آيات من القرآن الكريم، توقف عندها الدكتور الجابري بهدف نسف الاستدلال بها، ومن هذه الأدلة، قوله تعالى: “ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها”، وقوله تعالى وتقدس: “وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”، وغيرهما من الآيات.
ومحلّ “النسف” عند الجابري هو كلمة “آية” الواردة في هذه الآيات، بدعوى أن معناها هو المعجزة أو الشريعة أو العلامة، وأن الله ينسخ آية الليل بآية النهار، وشريعة نبي سابق بشريعة نبي لاحق، وحتى الآيات التي اقترنت فيها كلمة “الآية” بفعل التلاوة، فإنها لا تعني قطعة أو جزءا من السورة القرآنية. مثل قوله تعالى: “تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ” وقوله تعالى: “وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ”.
وليبين خطأ كل القائلين بالنسخ عبر العصور، قال الجابري: “ليس في القرآن قطّ ذِكْرٌ لما اصطُلِح على تسميته “آية” بمعنى قطعة من القرآن”، ثم يتساءل: من أين جاءت هذه التسمية؟، ويجيب: “لم نعثر في مصادرنا على جواب قطعي عن هذا السؤال، وكل ما تفيده الروايات هو أن الأمر يتعلق باصطلاح وُضع للإشارة إلى “القطعة” التي كان يقف عندها الرسول عليه السلام أثناء تلاوة القرآن”[4]، وعزز رأيه بحديث مفاده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، وقال عقبه: “واضح أن عبارة (آية آية) إضافة من الراوي”.
وهذا من الجابري تمحل وتحكُّك، ولو تخلى عن فكرته المسبقة، وتمسك بالدليل أنى وجّهه ذهب معه، لكان عنده كلام آخر، واستعمال “الآية” بمعنى القطعة من السورة وارد في القرآن وفي السنة:
أ – “الآية” في القرآن الكريم:
لنتأمل الآيات الآتية:
1 – “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ”: تلاوة الآيات هنا تعني تلاوة الآيات القرآنية. وليس المعجزات والعلامات والشرائع.
2 – “وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ”.
3 – “ألر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت”، وهنا يتحدث عن آيات الكتاب، وآيات الكتاب قد نفهم منها الأمارات والدلائل، وقد نفهم منها الآيات بمعناها الاصطلاحي، ويعضد المعنى الثاني أمران، أولهما أن الله تعالى بيّن أنها محكمة أو مفصلة، وهذا شأن الآيات المكوِّنة للسور القرآنية. ثانيهما: خاتمة السورة التي قبلها “واتبع ما يوحى إليك …”، وبناء على التناسب بين السور، ومراعاة السياق –وكثيرا ما ركز عليه الدكتور- نفهم أن الآيات المذكورة في مفتتح السورة هي من الوحي المذكور في خاتمة السورة التي قبلها.
4 – “طسم، تلك آيات الكتاب المبين”، والآيات هنا ليست بمعنى الشرائع والأمارات، بدليل استعمال وصف “المبين”، وهو من البيان والفصاحة اللذان هما من لوازم اللفظ والنظم القرآني.
5 – “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”، الآيات هنا قد تكون بمعنى الدلائل الموجودة في القرآن، وقد تكون ألفاظه المركبة فيما يسمى “آية”، ومن ادعى أنها مقتصرة على الدلائل والمعجزات فهو واهم، يؤيد هذا ويوضحه النص الموالي.
6 – “حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ”. وهذا نص صريح في أن معنى “الآية” ليس معنى حادثا كما قال الجابري، بدليل أنه يتحدث عن الكتاب وهو القرآن، وأن آياته فُصلت قرآنا عربيا، ولا معنى لوصف المعجزة أو الأمارة أو الدليل بكونه عربيا.
ب – “الآية” في السنة النبوية:
ورد استعمال لفظ “الآية” في السنة النبوية بمعنى الأمارة والعلامة، كقوله صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاث”، و”آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار”.
وورد هذا اللفظ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى الجزء من السورة القرآنية مرات متعددة، منها:
1 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ حَافَظَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَةَ آيَّةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، أَوْ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ”.
2 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بلغوا عني ولو آية”.
3 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل نسي واستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم”.
4 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: “يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: “الله لا إله إلا هو الحي القيوم” [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري، وقال: “والله ليهنك العلم أبا المنذر”.
5 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت عليه “إنا فتحنا لك فتحا مبينا”: “لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا”.
يعرض الجابري عن كل هذه النصوص القرآنية والحديثية، ويقول بأننا لم نجد في مصادرنا جوابا قطعيا عن السؤال: من أين جاءنا لفظ “الآية” بمعنى الجزء من السورة؟.
ونحن بدورنا نطرح السؤال: لماذا أورد الجابري ذلك الحديث الذي يُفهم منه أن لفظ الآية من تصرف الرواة؟
إما أنه لم يقف على هذه النصوص، وهي في المصادر القريبة منه جدا، وهذا يدل على أنه ضعيف في هذا المجال، ما كان ليسمح لنفسه باقتحامه.
وإما أنه علم بها، ولكنه دلس على قرائه كما دلس عليهم في نص القرطبي السابق، وهو معذور في التدليس، مادام أن كثيرا من قرائه سلّموا له عقولهم، وتخلوا عن أي حس نقدي تجاه مكتوباته، خصوصا إذا علمنا أن أغلب المنبهرين به ينتمون إلى قرية إيديولوجية بعينها.
وفي ختام هذه النقطة، نبين أن لفظ “الآية” وارد في القرآن والسنة، ومنه يتبين لنا أن النصوص القرآنية المستدَلّ بها على النسخ، تدل على نسخ آحاد الآيات القرآنية كما نص على ذلك جمهور علماء الإسلام، ولا تنسخ الشرائع أو المعجزات كما قال أبو مسلم الأصفهاني (أبو بحر) والجابري.
هل في القرآن نقص؟
اعتمادا على روايات وآثار منسوبة عن بعض الصحابة، قال جمهور علماء المسلمين بوقوع نسخ التلاوة، ومعناه أن أحكاما شرعية كانت قرآنا، ثم نُسخ رسمها وبقي حكمها، ونسخُ الرسم يطلق عليه أيضا: نسخ التلاوة.
توقف الدكتور الجابري عند تلك الروايات، وبنى عليها مواقف في غاية الخطورة، بأسلوب فيه نوع من اللف وعدم الوضوح، حيث ميّز بين مرحلتين من مراحل القرآن الكريم:
- مرحلة ما بعد الجمع العثماني: قطع بعدم وقوع أي زيادة أو نقص في النص القرآني في هذه المرحلة.
- مرحلة ما قبل الجمع العثماني: لم يستعمل فيها الدكتور الجابري كلمة “القطع” أو ما في معناها، كاليقين مثلا، وإنما استعان بتقنية الاحتمال ليصل إلى المبتغى.
ولنتأمل قوله: “وخلاصة الأمر أنه ليس ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس، منذ جمعه زمن عثمان، أما قبل ذلك، فالقرآن كان مفرقا في “صحف”، وفي صدور الصحابة، ومن المؤكد أن ما كان يتوفر عليه هذا الصحابي أو ذاك من القرآن –مكتوبا أو محفوظا- كان يختلف عما كان عند غيره، كمّا وترتيبا، ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه، زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولّوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذُكر في مصادرنا”[5].
إننا أمام مفكر كبير، يلقي الاحتمالات يمنة ويسرة:
- جواز حدوث أخطاء أثناء الجمع.
- الذين تولوا الجمع لم يكونوا معصومين.
- وقع نقص أثناء الجمع.
- وقع تداركُ ذلك النقص بناء على ما تذكُره مصادره التي لم يذكرها لنا.
لنتخيل قارئا منبهرا بقامة الجابري، ولنتخيل أن زاد ذلك القارئ من علوم القرآن صِفر أو ما يقاربه، بماذا يخلص ذلك القارئ بعد أن يقرأ هذه النقاط الأربع؟ وما هي الأفكار التي سيكوِّنها عن الكتاب المقدس الكامل المحفوظ من النقص قبل جمعه وبعد جمعه؟
بدراسة عمليةِ الجمع التي قام بها عثمان بن عفان، أو التي قام بها قبله أبو بكر الصديق، نجد حرص الصحابة الشديد على جمع النص القرآني مرتبا، وفق منهجية تجاوزت كل أعراف الصرامة والتشدد، بحيث يبقى الكلام عن النقص مجرد أراجيف يكررها المستشرقون ومن جاء بعدهم كمحمد أركون ومحمد عابد الجابري وغيرهما[6].
قد يعترض معترض بأن الجابري لم يحسم في مسألة النقص.
نعم، هو لم يحسم، لكن الكاتب الإيديولوجي غير المنصف لا تعوزه الوسائل لإثبات الدعوى، فقد يثبتها في ذهن قارئه بتقنية السؤال، وقد يثبتها بتقنية الاحتمال الذي يورده دون أن يبطله وينسف قواعده. وهذه هي تقنية الجابري هنا.
ومما يدل على أنه كان يريد ترسيخ هذا الاحتمال في الأذهان، أنه حاول أن يستدل له، فختم كلامه بإمكانية “النسيان والتبديل والحذف والنسخ”.
ولنتنبه إلى “النسخ” التي أتعب نفسه وأتعب قارئه على مدى صفحات لإبطاله، ها هو الآن يستند عليه، ولكن في سياق آخر، وهو خلخلة النص المقدس، والإشارة إلى أنه قد يكون تعرضَ لنقصٍ ما، وأنه ليس هو النص المقدس الرباني الكامل الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن القول بـ”الإمكانية” لوحده قول خطير، لأن القول بالإمكان هو من قبيل الجواز، والنقص في القرآن الكريم ليس من قبيل الجواز، بل هو من قبيل المستحيل، وهو مخالف لنص: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”.
ولنبتعد عن كلمتي “الإمكان” و”النسخ”، لنبحث عن أدلة الجابري حول إمكانية النقص الذي قد يكون طرأ على القرآن.
لم يجد دليلا سوى تلك الآيات التي يستدل بها الجمهور على النسخ، بما فيها تلك الآيات الخمس التي تتضمن لفظ “آية” كقوله تعالى: “ما ننسخ من آية أو ننسها” و”يمحو الله ما يشاء ويثبت”، وغيرهما.
وهنا يصل التناقض ذروته، لأنه إن كان يعتبر لفظ “الآية” في هذه النصوص بمعنى المعجزة أو الشريعة، فلماذا يستعمله هنا بمعنى الجزء المكوِّن للسورة؟ ألم يُطِل النفَس في البرهنة على العكس؟ أم أن الهدف هو إثارة الانتباه إلى إمكانية وقوع النقص في القرآن؟
لكن الدكتور الجابري فطن لهذا التناقض، فذيّل استدلاله بقوله: “مع أنّ لنا رأيا خاصا في معنى “الآية” في بعض هذه الآيات، فإن جملتها تؤكد حصول التغير في القرآن، وإن ذلك حدثَ بعلم الله ومشيئته”[7].
وإذا كان له رأي في تلك الآيات، فيجب أن يتمسك به، لأن العالم والمفكر لا يورد الدليل إلا إن كان مقتنعا به. لكن الخطير في الأمر، هو أنه رفض استدلال الفقهاء بتلك الآيات على وجود النسخ في القرآن، وهو استدل بتلك الآيات نفسها على وقوع “التغير” فيه، وأن ذلك التغير “حدثَ بعلم الله ومشيئته !.
ولنا أن نتأمل قوله: “إن جملتها تؤكد حصول التغير في القرآن”، بمعنى أن تلك الأدلة بأفرادها لا تفيد وقوع النسخ، وبجملتها لا تفيد وقوع النسخ، ولكنها بجملتها تفيد وقوع التغير.
ثم ننبه إلى مسألة مهمة أخرى، تبين أن الجابري كان يريد أن يصل إلى نتيجة، واستعان بتقنية مضغ الكلام لصفحات طوال ليصل إلى تقريرها، وهذا ما نكتشفه من انتقاله من “جواز” النقص وإمكانية الخطأ، إلى “تأكيد” التغير، ونصه: “وخلاصة الأمر أنه ليس ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس، منذ جمعه زمن عثمان، أما قبل ذلك، … من [[الجائز]] أن تحدث أخطاء حين جمعه، زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولّوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذُكر في مصادرنا … مع أن لنا رأيا خاصا في معنى الآية في بعض هذه الآيات، فإن جملتها [[تؤكد]] حصول التغيير في القرآن، وإن ذلك حدث بعلم الله ومشيئته”.
ولينتبه القارئ إلى أن هذه العبارات هي التي ختم بها الجابري مبحثه، وهذه تقنية أخرى، عادةً ما يستعملها الكتاب الإيديولوجيون، وهي تقنية التوقيع، حيث يختم كلامه بالفكرة التي يريد ترسيخها في ذهن القارئ. وفكرته هنا هي [تأكيد حصول التغير في القرآن].
خاتمة:
هذه جولة فكرية، ومسامرة نقدية، ناقشنا فيها ما سطره المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن مبحث النسخ في القرآن الكريم، وهي تجلي مسألة مهمة، وهي بُعد الرجل عن تخصص علوم القرآن خصوصا، والعلوم الشرعية عموما، وقديما قيل: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
كما تبين أنه إن
تسلح بالمنهج العلمي في بعض كتاباته، فإنه أعرض عن المنهج وآلياته في مناقشة هذا
المبحث.
[1] الجابري، فهم القرآن الحكيم، القسم الثالث: 109.
[2] عبد الله بن الصديق، ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة: 10/11. من الموسوعة.
[3] الجابري، فهم القرآن الحكيم، القسم الثالث: 97.
[4] الجابري، فهم القرآن الحكيم، القسم الثالث: 101.
[5] الجابري، المدخل: 232.
[6] ينظر: القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، الجمع والرسم. مداخلة شاركت بها في ندوة علمية من تنظيم مركز عقبة بن نافع التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، وهي مطبوعة بعنوان: ذو النورين، عثمان بن عفان رضي الله عنه، صحبة صادقة وخلافة راشدة.
[7] الجابري، المدخل: 232.