الجابري مهندسا للعقلانية والحداثة(محمد الشرقاوي)_2_
العقلانية في قبضة اللاشعور السياسي
تشكّل الرّباعية الشهيرة للجابري “تكوين العقل العربي” (1982)، و”بنية العقل العربي” (1986)، و”العقل السياسي العربي” (1990)، و”العقل الأخلاقي العربي (2001)، أشهر مؤلفاته الأحد والثلاثين، ولم تحظ أغلبها بالتمحيص والفهم الدقيق بين الغربيين وحتى بين بني لغته في أغلب الحالات. وكما قال أحد النقاد إنها “المشروع الفكري الأكثر شمولية لتحليل العقل العربي ونقده”. تمت قراءة الجابري على نطاق واسع عربيا، وفرنكفونيا إلى حدّ معين، ولم تكتشفه الدراسات الأنجلوسكسونية إلا في أواخر حياته، إذ لم تظهر أوّل ترجمة إنجليزية لمؤلّفه “تكوين العقل العربي” إلاّ في نوفمبر 2009 أي بعد سبعة وعشرين عاما من صدور النسخة العربية.
بعد رحيل الجابري في الثالث من مايو/آيار 2010، نشرتُ مقالة قصيرة في “مواجهات” Confrontations بعنوان ‘Muslims’, ‘Islamists’, and ‘Islamics’: The Dilemma of ‘Sacred’ Interpretation وقد تكون التّرجمة الأقرب إلى الدّقة: “المسلمون، والإسلامَويون، والإسلاميون: معضلة التأويل المقدس”، قدّم لها زميلي في جامعة جورج ميسن الدكتور سولن سيمينز بالقول “من خلال الطرح الدقيق لمحمد الشرقاوي، نرى الجابري مفكّرا مترّيثا ومتطلّعا إلى المستقبل بعد أن أدرك الأخطار الكامنة التي تأتي مع تحديث الإسلام. لكنّه حاول شقّ الطريق نحو مستقبل متماسك. هناك بالتأكيد الكثير مما يستدعي مناقشته في تحليل الشرقاوي واستخدامه عبارات مثيرة مثل “السلفيين ذوي الميول الليبرالية” و”نقد علمي للعقل العربي من خلال نبذ الفهم التقليداني للتراث”، ممّا يجعل القارئ يتوق لمعرفة تفاصيل هذه الشّخصية المثيرة للاهتمام التي يقدّمها لنا اليوم.”
أوردتُ في مقالتي أنّ رحيل الجابري كان بمثابة وداع للعقل وفلسفة الأديان بعد أن كان قوّة دفع نحو تبنّي تفكير مجدِّد معاصر. وخلال مشروعه الفكري التي امتدّ أربعين عاما منذ كتاباته الأولى عام 1970، ظلّ الجابري ناقدا يقظا أمام هيمنة التراث، ومناضلا من أجل إحلال العقلانية الممتدّة في مسار تاريخي يتدفّق بنَفَسِ الأرسطية قديما، والرّشدية في القرن الثاني عشر، مرورا بالكانطية في القرن الثامن عشر، والنّظرية النقدية التي ازدهرت بفعل انتشار مدرسة فرانكفورت منذ قرابة قرن.
عند بدء مشروع التّرجمة الإنجليزية لمؤلفيْه “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” عام 2009 ونشرهما في الولايات المتحدة، أوضح الجابري أنّ دلالة “العقل” لديه تنبني على مفهوم reason (أو die Vernuft بالألمانية) الذي بدأ يستخدمه كانط عام 1781، وأنّه المصطلح العربي المقصود للعقل. كما اعتمد الجابري أيضًا تمييز الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند André Lalande (1867-1964) بين وجود العقل المُكَوِّن أو “السبب التأسيسي” ووجود العقل المُكَوَّن السائد في تطوير مفهوم “العقل المستقيل”.
كان الجابري يردّد مقولته الشهيرة إنّ “العقل العربي بحاجة إلى إعادة الابتكار”. واستوعب مخاطر الماضوية والتقوقع داخل الحقب المتألقة في المخيال العربي. والمقصود بالمخيال هنا مرجعية الصّور والتمثلات والرموز والروايات التي تحفظها وتخزنها الذاكرة الجماعية، مما يرسي قاعدة توافق تشجع على عملية تأويل تسعى لإسقاط تمثلات الماضي “المُزهر” في اعتقاد كثيرين على الحاضر المكفهرّ. وهنا يتقارب المخيال مع الواقع، أو كما يقول عالم النفس الاجتماعي جاك لاكان Jacques Lacan، “يبدأ المرء مع المخيال، ثم يضطرّ لمضغ قصّة رمزية … وينتهي بوضع ذلك الواقعي الشّهير أمامك.”
كتب الجابري في “بنية العقل العربي” عن تمييز البيانيين بين “العقل الموهوب” و”العقل المكسوب”، حسب عبارة ابن وهب. وأوضح أن “العقل عندهم ليس جوهرا، ولا جزءا من النفس ولا قوّة من قواها، بل هو عبارة عن غريزة تغتذي بما يكتسبه الإنسان من تجارب وخبرات وما تنقله إليه الأخبار من معارف ومعلومات وما يدرس من آداب وما يقوم به من نظر وتدبر واعتبار. وإذا نحن نظرنا إلى هذا النوع من التصوّر للعقل من منظور معاصر، وجدنا أنفسنا أمام تصور يقترب إلى التصوّر العلمي أكثر من أيّ تصوّر قديم آخر. ومع ذلك، فإن المظهر “اللاميتافيزيقي” الذي نجده في التصوّر البياني للعقل يجب أن لا يخفي عن حقيقة أساسية وهي أنّ هذا التصوّر قائم على التّقليل من أهمّية العقل كقوّة وسلطة.”
في المقابل، كان الجابري واعيا بمدى تخندق العرب ذهنيا ونفسيا في المخيال المركّب والمفروض على واقعية الماضي تحت طائل ما يصطلح عليه ب”اللاشعور السياسي”. فهو يقول إنّ “العرب يعيشون ماضيهم قبل حاضرهم، ويعيشون في ذاكرة الماضي أكثر من غرسهم لتطلّعات بناء مستقبلهم وتقدّم أجيالهم، لقد تصارعت الأفكار العربية في مرحلة تاريخية صعبة، تبلورت في خضمها تناقضات خلفتها أحداث تاريخية مهمة ومصيرية، ساهم في صنعها التاريخ العربي الاسلامي، والعامل الاوروبي (الاستعمار والتحديث)، واللذين شكلا الدور الحقيقي في خلق التأثيرات الفكرية والسياسية المحتدمة لدى العرب منذ مطلع القرن العشرين.”
وعلى غرار الكرم العربي، أغدق هذا المخيال العربي في تبجيل شخصيات وبطولات وأحداث وأصناف معاناة وقصص مجد منتقاة. وزاد في التقديس القومي والهُوِيَاتِي، والدّيني أحيانا، للصّرح الذي “يسكنه عدد كبير من رموز الماضي مثل امرئ القيس، وحاتم الطائي، وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وهارون الرشيد، وألف ليلة وليلة، وصلاح الدين، والأولياء الصالحين، وأبي زيد الهلالي، وجمال عبد الناصر، إضافة إلى رموز الحاضر مثل المارد العربي والغد المنشود”، كما يقول أحد النقاد.
مع غلبة هذا المنحى التقديسي وتدّني جرأة النقد، عاد عموم المغاربة مثلا إلى شعبوية تراثية احتاط منها الجابري، وإلى الإيمان في القوة الغيبية، وطلب “البَرَكَة” عند زيارة الأضرحة، وتواتر تقديم الهبات الملكية إلى الزوايا سنويا قبل انطلاق مواسم الذكر والخشوع، وأيضا حلقات “الحضرة” و”الجذبة” و”التعركيبة” وغيرها من طقوس ما فوق الطبيعة. ويجد هذا المدّ غير العقلاني قوّة الدفع أيضا بفضل سياسة “الأمن الروحي” التي هندسها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق الذي يعتدّ حاليا بالارتفاع في تلك المزارات إلى 5038 ضريح و1496 زاوية.
يقول السيد التوفيق الذي يقضي حاجته من “الأمن الروحي” من الجذبة وفق طقوس الزاوية البودشيشية، إنّ أعداد الأضرحة والزوايا “دليل على تأطير روحي جيد للمغاربة وتمسّكهم بالقيم الإسلامية والأولياء الصالحين.” غير أنّ الباحثة الأمريكية آن ماري وينسكوت Anne Marie Wainscott تلاحظ في كتابها الجديد “التطويع البيروقراطي للإسلام: المغرب والحرب على الإرهاب” Bureaucratizing Islam: Morocco and the War on Terror كيف ازداد التحوّل في علاقات القوة ضمن الدولة المركزية، وكيف أن التطويع البيروقراطي للدين يمثل تبيئة النخب الدينية للسلطة السياسية بأسلوب أكثر رسمية وأكثر مأسسة من أي وقت سابق.”
بين المغرب وبقية المجتمعات العربية والإسلامية، تعثّرٌ مماثلٌ في السير على طريق العقلانية. فتتأجج الصراعات بشتّى أحجامها وحدّة تصعيدها من صراعات بين الدول وصراعات وحروب أهلية داخل الدول تمتدّ من المغرب إلى إندونيسيا، في دائرة صراع ضخم meta conflict مفتوح منذ نهايات القرن العشرين بين أقليات إسلاموية وأغلبيات مسلمة حول أفضل مسار للحكم والفصل بين خياريْ النقل والعقل. من منظور مواز، تتذبذب المجتمعات الغربية في تحديد الفوارق بين الملايين من المسلمين الأوروبيين والأمريكيين المسلمين عبر تسميات متعددة منها “معتدلون”، أو “متشدّدون”، أو “متطرّفون”، أو “متطرّفون”، أو “إرهابيون”.
تكمن المفارقة في أنّ النهج السلفي ذاته، الذي ساد خطاب حركة النهضة العربية في بداية القرن العشرين، عاد بعد قرن من الزمان كقوة استبعاد وتشدّد واستقطاب، فضلا عن التفسيرات المتباعدة في فحواها للنصوص الدينية. ويخلص الجابري إلى أنّ هذا التّطرف يُبرّر ذاته من خلال التفاوتات الاقتصادية وتعثّر الديمقراطية وأمور أخرى. ويجادل أيضا بأنّ العقل العربي فشل في تحقيق “ثورته العلمية” لأنه استوعب أنظمة التّفسير الديني.
تتّسع الفجوة بين الإسلامويين، من خلال الاعتداد بأنفسهم أنهم أولياء التقليد في محاولة لتركيب خط مستقيم بين الحاضر وعهد النبي محمد، والإسلاميين كمستوردين للنموذج الغربي للتحديث مع اختلافات مختلفة إزاء البقية من مجموع المسلمين. لقد قرّروا المشاركة في التنافس عبر صناديق الاقتراع في العقدين الأخيرين على أساس مبدأ “النقاء” السياسي، وحاولت النخب الإسلاموية خلق شعور بالجماعة والتكتل الجديد حول فكرة الأمة “الحصرية”، مع تطوير سرديات موازية حول “الأخلاق” و”العدل” والعلاقة “العضوية” بين المسجد والدولة في مقابل الآخرين الموصوفين بأنهم مسلمون “أقل تفانيًا”. وتحول النضال من ترويج ثقافة إسلاموية قومية مناهضة للاستعمار من قبل الإخوان المسلمين في مصر منذ عام 1928 والتجمعات الموالية لهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا، إلى تنافس على الهوية السياسية للمسلمين.
تبعا لهذا التحوّل، تبدو فكرة فرويد حول نرجسية الاختلافات الطّفيفة نشطة على قدم وساق باعتبارها بحثًا عن تحديد الهوية الذّاتية لدى سائر المسلمين من جميع التيّارات. والآن في بداية القرن الحادي والعشرين، يصلّي معظم المسلمين إما في مساجد سنية أو شيعية، ويرسلون أطفالهم إلى مدارس مختلفة، ويدفنون موتاهم في مقابر حصرية، بل ويصومون ويحتفلون بأعيادهم الدينية وفق أجندات زمنية تحكمه السياسية أكثر من ضوابط الوقت ورؤية الهلال وبقية المؤشرات الفلكية. يتجلى غياب العقل أيضا عند تأمل اتجاهات الانشطار والانقسام في سياسات الهوية المجزأة الحصرية والماضوية والتي تنطوي في أحسن الأحوال على تمييز نفسي ضد أولئك الذين تم تصنيفهم بشكل مختلف.
ونتيجة لذلك، حاولت عدة دول ذات التوجه السّني احتواء ما تعتبره “خطرا” شيعيا سعى إلى استقطاب فئات معينة في المناطق السنية النائية مثل المغرب واليمن وباكستان. وينطوي هذا الصراع الضخم بين الاتجاهين الإسلاموي والإسلامي أيضًا على ديناميات الهويات البنيوية “الوطنية” الفاشلة في 57 دولة إسلامية، ويفتح المجال لعامل جماعي بتعاظم “نحن” الجمعية التي يمكنها أن تفعل شيئًا ما باسم إسلام حقيقي وأحادي. ولكن، هل تختزل هذه الثنائية المبسطة لـ “الإسلامويين” مقابل “الإسلاميين” ديناميات الصراع؟
جادل الجابري بأن جمود الاختلاف بين الجانبين قد صاغ موقفاً ثالثاً من دعاة الحلول الوسط أو التوفيقيين. فظهر موقف انتقائي للموافقة بينهما، “ولكن حتى الانتقائيون اختلفوا فيما بينهم فمنهم السلفي ذو الميول الليبرالي، والليبرالي ذو الميول السلفية، ومنهم الماركسي الأممي، والماركسي العربي، والقومي الليبرالي، والاشتراكي القومي، والسلفي العروبي، والعروبي العلماني ذو الميول السلفية، والعلماني العروبي ذو الميول الليبرالية، او الماركسية الى غير ذلك من التركيبات “المزجية” المعقدة.” باختصار، يشمل هذا الصّراع الضخم فشل التنوير في العالم الإسلامي، فضلاً عن تعثر مساعي التحديث للمؤسسات الإسلامية. ويبقى السؤال كيف يمكن التوفيق بين هذا الصراع؟
احتمالات التوصل إلى أرضية مشتركة لا تزال مجدية. فقد رسم الجابري خارطة طريق لكيفية تجاوز الاستقطاب الحالي للعقل العربي بين الحداثة المستوردة التي تتجاهل التقاليد العربية والأصولية التي تعيد بناء الحاضر في صورة ماض مثالي. فلم يشهر سيف القطيعة مع التراث أو إقصائه من المعادلة العقلانية، بقدر ما كان واعيا بالحاجة لمنهجية “الوصل معه من أجل الفصل”. ولم يعتبر “الانتظام في التراث” تراجعا أو فشلا في جدلية القديم والحديث، ولا “استسلاما لنظامه”. بل اعتد بضرورة “الوصل قبل الفصل” على طريق تجاوز الكليات أو المطلقات التراثية. وكما كتب في “مواقف” عام 2004 “نحن قوم لم يتجاوزوا آباءهم بعد على الصعيد الثقافي.”
أوضح الجابري كيف أن العقل العربي يفتقر إلى منظور تاريخي وموضوعي كافٍ، ولا يمكن تجديده إلاّ من خلال “استجواب جدّي للقديم ومن خلال نقد عالمي ومتعمق”. وبدلاً من استيعاب التقليد أو محاولة استيعاب التحديث الغربي، يقترح الجابري نقدًا علميًا للعقل العربي من خلال نبذ الفهم التقليداني للتقاليد. ومن خلال دراسة مناهضته لأطروحة ضد معضلة سوء تفسير النصوص الدينية، يمكن للمرء أن يتنبأ بآفاق “الثورة العلمية” التي طال انتظارها في العقل العربي.
نحت الجابري لنفسه ولبيئته العربية مفهوما يقوم على أنّ “النظام المعرفي هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية.” وهذا مثال على استقلالية الجابري وانفتاحه على فكرة التفاعل مع المدارس الفكرية الغربية وتبيئة بعض المفاهيم المنتقاة بدقّة وتريّث من خارج التاريخ المعرفي العربي. فقد درس روافد الثقافة العربية الإسلامية ضمن ثلاثة قطاعات معرفية، هي البيان والعرفان والبرهان. وكما يقول أحد طلابه عبد الإله بلقزيز، “كل قطاع يتميز بالفعل المعرفي الذي يؤسسه، فالبيان يفيد الظهور والإظهار، ومهمته وضع قوانين لتفسير القرآن بالاعتماد على اللغة والنحو والبلاغة والكلام، والعرفان يفيد الكشف والعيان، وهدفه استغلال الإسلام وتوظيف اللغة للترويج لعقائد قبل إسلامية معتمدا على الاعتقادات الغنوصية، والبرهان يفيد الاستدلال المنطقي، ويهدف إلى تبيئة الفلسفة اليونانية، معتمدا على مجموع المعارف المنقولة والمترجمة من مصدرها اليوناني”.
غير أنّ دعوة الجابري للعقلانية كحافز للتّغيير تثير نقاشا واسعا بين المؤيّدين والمعارضين وتخشى منها الدوائر الرسمية. فقد رحل عنّا قبل سبعة أشهر من اندلاع المظاهرات في تونس ضمن “ثورة الياسمين”، ثم تدفق الموجة باتجاه مصر وليبيا واليمن وسوريا، فيما اهتزّت لمظاهراتها أركان أنظمة عربية أخرى. أهمّ ما استرعى انتباهي وقتها هو خطاب الحرية والكرامة ومركزيتهما في شعارات المتظاهرين في سائر تلك الدول.
مطلب الحرية في حد ذاته تجسيد لتحكيم العقل في فهم مرحلة سياسية وبنيات اقتصادية غير منصفة ولا تتوافق مع قيم المرحلة في بداية قرن جديد. خروج المتظاهرين الشباب إلى الشوارع، وأغلبهم من خريجي الجامعات، لحظة عقلانية عربية بامتياز، وأنّ “من المفارقات المثيرة أن تتفوّق أصوات الشباب المحتجين على الأحزاب القديمة ومجموعات المعارضة التقليدية، إسلاموية أم اشتراكية أو غيرها، في المطالبة بالمساءلة السياسية والمسؤولية الأخلاقية لأي حكومة تأتي في المستقبل. لقد ابتعدوا عن الأطر الإيديولوجية لدى كل من الدولة ومجموعات المعارضة التقليدية، وأظهروا إمكانات تنويرهم الذاتي مما أكّد وجود جيل جديد ذي نضج سياسي وعملي أو براغماتي”، كما أوردت في مقدمة كتابي الصادر باللغة الإنجليزية “ما هو التنوير: قطيعة أم استمرارية في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011”.
لم يسعف العمرُ الجابري ليرى بنفسه جيلا ينفض عنه جثمة اللاّعقلانية ويسحب عنه رداء التّقليد، وهو القائل “الحداثة هي قبل كل شيء العقلانية والديمقراطية.” فبين 2011 و2012، انتشرت موجة الانتفاضات الشعبية ورواج النموذج العربي عالميا في المطالبة بالتغيير، ونسج عليه المتظاهرون في 982 مدينة في العالم من لوس أنجليس إلى نيويورك إلى مدريد إلى هونغ كونغ.
غير أنّ هناك من يعتقد أنّ “كل المشاريع العقلية الكبرى التي عُرف بها المغرب والعالم العربي باءت بالفشل: ابتداء من العقلانية الإيمانية لمحمد عزيز الحبابي، إلى العقلانية التراثية لمحمد الجابري، والعقلانية الكونية لعبد الله العروي، فإلى العقلانية المركبة من العقلانية الإسلامية والعقلانية الحداثية والعقلانية ما بعد الحداثية لمحمد أركون إلخ،” كما يقول محمد المصباحي في محاضرة ألقاها في الدّار البيضاء حول موضوع “مطلب العقلانية في الفكر المغربي” في أواخر مارس 2013.
ثمّة أكثر من نقطة لا أتوافق في الرأي بشأنها مع الأستاذ المصباحي كقوله إن مطلب العقلانية في المغرب “ارتبط بمطلب إصلاح العقل توطئة لإصلاح السياسة. إذ لم يكن يهمّ الفلاسفة والمفكرين المغاربة البحث عن “ماهية” العقل، عن “العقل في ذاته”، وإنّما عن “أيّ” العقول أصلح للقيام بالتغيير المنشود في الدولة. بعبارة أخرى، ما كان يعنيهم هو كيف يمكن القيام بالإصلاح الأصغر، إصلاح العقل، حتى يغدو مؤهّلا للقيام بالإصلاح الأكبر، إصلاح الدولة، المدخل الرسمي للانخراط في فضاءات الحداثة.” أقول باختصار لن يمكن إصلاح العقل ولا ترميمه، فإمّا أن يكون هناك عقل جماعي أو لا يكون. والعقل ليس غاية في حدّ ذاته بل هو أداة للتفكير في المشاكل والتحديات ونسق تصحيحي في تدبير شؤون الحياة العامة وتقويم لشتى المسلّمات والمعتقدات والأعراف من أجل توجيه التحول الاجتماعي. وإذا كان من الممكن أن “تكون الكائنات العقلانية غاية في حدّ ذاتها، فهذا ليس لأنّ لديهم عقلا بل لأنّ لديهم حرية. العقل هو مجرّد وسيلة”، كما كتب كانط عام 1784.
مما يستدعي فهم العقل على أنّه حركية للتغيير وقوم للتقريض والتقويم حاجةُ المجتمعات العربية لما يولّد رؤى جديدة ومنطلقات مغايرة في هذه الحقبة المتقلّبة بعد أن طال تحكمّ القبيلة والغنيمة والعقيدة كمحدّدات للعقل السياسي التقليدي العربي. هي حركية تتوالد ذهنيا وتنعكس في الواقع من خلال المسعى لتجاوز بقايا القبيلة وبناء مؤسسات المجتمع المدني كبعد أوّل، وضرورة دخول باب الحداثة الاقتصادية من أجل اقتصاد عربي عصري كبعد ثان، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي يقبل مبدأ الاختلاف كبعد ثالث.