المقالات

رمضان والحجر الصحي.. استجابة متجددة لنداءات خالدة(رشيد الوهابي)

     احتفى القرآن الكريم بالزمن أيما احتفاء، فأقسم الله تعالى بأوقات، وفضَّل أياما وليالِيَ بمزايا ومكرمات، وجعل زينةَ أشهُرِ السنة شهر رمضان الأبرك ببركة نزول القرآن فيه، والأكرم بكرم الله للمستجيبين له.

   تجري الأقدار في الأعصار والأمصار بمشيئة الله تعالى، فهو المُقَدِّرُ لأمره الكوني آية قدرية، وسُنَّة ماضية، وحِكمة مرئية أو مخفية. ومن أقداره عز وجل في الشهور الأخيرة، وفي شهر رمضان لسنة 1441ه/2020م، وباء كورونا المستجد، حفظ الله الأمة والبشرية منه. فكيف نتعامل مع هذا القدر الإلهي؟ وكيف نغْنَم أيام وليالِيَ رمضان في ظل الحجْرِ الصِّحي؟ وما واجب الضمير الإسلامي والضمير الإنساني؟

قاعدة تربوية في التعامل مع الوباء

   يتأسس التفكير السديد، والسلوك الرشيد، على قواعد هادية، وضوابط صائنة. ومن القواعد التربوية التي ينبغي الارتكان إليها لتسديد التفكير، وترشيد السلوك في حياة أهل الإيمان، قاعدة: الجمع بين النظر إلى أمر الله القدري، والنظر إلى أمره الشرعي. فكيف نُعمل هذه القاعدة التربوية مع وباء كورونا المستجد؟

   إن النظر بعينين إلى هذا الوباء له فائدة مُحَصَّلة، وثَمْرَة مَجْنِية، فعين تنظر إليه بوصفه أمرا قدريا، وعين تنظر إليه بوصفه يوجب أمرا شرعيا، فالنظر بالعين الأولى، يُذكِّر الإنسان بمخلوقيته، وضعفه ﴿وخُلق الانسان ضعيفاؐ﴾ (سورة النساء: 28)، وبنعم خالقه عليه، الظاهرة والباطنة ﴿وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنةؐ﴾ (سورة لقمان: 19)، كما يُعَرِّفه بالله تعالى وبصفاته العلى، وأسمائه الحسنى، فهو العليم، الخبير، البصير، القدير، المحيي، المميت، الضار، النافع، المعطي، المانع، الغفور، الشكور…

    أما النظر إلى الوباء بالعين الأخرى بوصفه تكليفا شرعيا، فيهدي الإنسان إلى الإيمان بالقدر خيره وشره، واتخاذ أسباب الوقاية نظافة ولزوما للبيت وأخذ احتياط، وأسبابِ العلاج طلبا للدواء صنعا واستعمالا، كما يدعوه إلى التفكر في حاله ومصيره، وحال من يحيط به ومصيرهم، بل ترفع نظره إلى التفكر في حال الإنسان، كل إنسان، في أي بقعة من بقاع العالم يوجد. وأهل الإيمان أولى الناس بهذا النظر المُزدوج. فما واجبهم في رمضان وهم في الحجر الصحي؟  

رمضان زمن إيماني

  من كرم الله تعالى على عباده، أن لَوَّن لهم الطاعات في الأوقات، جلبا لمصلحة المداومة والاصطبار، ودفعا لمضرة التهاون والاستهتار، والملل والاستثقال. وإنَّ شهر الله المعظم رمضان زمن إيماني دعا الله تعالى ورسوله ﷺ العباد فيه إلى تزكية النفس بأنواع من الطاعات والقربات، تعرضا للنفحات، واستمطارا للرحمات، واستجلابا للبركات. فحرِي بالعاقل الكيِّسِ، المُحِبِّ لعالم التزكي والتطهر قربا من مولاه، التعرض لنفحاته وبركاته، توبة له وأوبة، وإنابة له واستجابة.

رمضان شهر إنابة واستجابة لله

   جعل الله تعالى واسطة آيات فرضِ الصيام، وبيانِ أحكامه، الآية التي يتودَّدُ فيها لعباده فيُعْلِمُهم بقُربه منهم، ويَعِدُهُمْ بإجابة دعائهم، ويَحُثُّهُمْ على الاستجابةِ له. قال تعالى: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريبؐ أجيب دعوة الداعي إذا دعانؐ فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدونؐ﴾ (سورة البقرة: 185). رشاد الإنسان بإخبار الله تعالى مُتوقف على الإيمان به، والاستجابة له. والرشدُ عنوان حياة القلوب ونشاط الجوارح واستقامتها، لا يتأهل لها إلا من استجاب لنداء الله لأهل الإيمان: ﴿يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكمؐ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرونؐ﴾ (الأنفال: 24). فكيف السبيل للاستجابة لله استجابة فردية، وأسرية؟

الاستجابة الفردية والأسرية في رمضان في ظل الحجر الصحي

   لا تكتمل الاستجابة لله تعالى عند المؤمن والمؤمنة إلا بالجمع بين الاستجابة القلبية، والاستجابة الجوارحية، اقتداء بالرسول ﷺ خيرِ من صام وقام رمضان إيمانا واحتسابا. فالاستجابة القلبية لله تتحقق بالتوبة والإنابة له، وحسن الظن به وبعباده، وشهود نعمه وآلائه، ووَجَلِ القلب عند سماع كلامه، ولِينِه عند ذكره، والإخلاص في الصوم له، والدعاء والتضرع لرفع الوباء المستجد، وكل بلاء عن خلقه،  والإحساس بأحوال الفقراء والمعوزين…

     وتُكَمِّلُ هذه العبادات القلبية، الاستجابة لله بأداء العبادات الجوارحية، فرضا ونفلا؛ صلاة وصوما، وتلاوة للقرآن وسماعا وإسماعا، وسماعا للتذكير بالله وفضله وعطائه، وبالموت والمصير، والتحذير من سخطه وعقابه، وإدخالا للسرور على الزوج والعيال، وتفقدا للأرحام، وتقللا في الأكل والشرب، ومواساة للفقراء إحسانا إليهم، وعطاء ورحمة، فعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا رَحِيمٌ. قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ الْعَامَّةِ»[1]. ومن الاستجابة الجوارحية، متابعة أحوال المسلمين والعالمين بشكل مُرَشَّدٍ، لا يستغرق وقت اليوم والليلة.

   يجتهد كل فرد من أفراد الأسرة في استجابته لله بقلبه وجوارحه في الشهر الفضيل، فيحرص على وضع برنامج لأعماله وأنشطته في يومه وليلته. ويخصص التلاميذ وقتا كافيا للاجتهاد في التحصيل الدراسي، تعلما ذاتيا أو تعاونيا عن بعد. ولا تثمر البرامج الفردية لأفراد الأسرة، ولا تباركُ وتزكو أعمالُها، إلا إذا اشتركت الأسرةُ زوجين وأبناء، في برنامج جماعي مرن، من أوتاده الصلاةُ جماعة، والاجتماعُ على تلاوة القرآن وحفظه، وعلى ذكر الله، وعلى مهاتفة الأقارب والأحباب، وعلى كل عمل خيري مرجُوِّ النفع والبركة، مُقَوٍّ للرابطة الأسرية، ومُنَمٍّ لقيم المودة والرحمة فيها.  

نداءات خالدة للضمير الإسلامي والضمير الإنساني

    تمر الأمة والبشرية اليوم بفترة حرجة في ظل انتشار وباء كورونا المستجد. ولئن استوقف الجميع للتفكير في سبل الوقاية والعلاج منه، فإنه أيقظ في الإنسان الأسئلة الفِطرية: من خلقني؟ ولم خُلقت؟ وإلى أين أصير؟. أحيى هذا الوباء في الضمائر الإنسانية سؤال المعنى والمغزى من الخلق والوجود، وجعلها تؤوب إلى الله، وتُنيب إليه، وتتضرع لرفعه بالمقال وبالحال، ﴿وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه﴾  (سورة الزمر: 8)، ﴿وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون﴾ (سورة النحل: 53).

    إن النظرة الأصيلة المؤسسة على التقسيم الثنائي: أمة الاستجابة، وأمة الدعوة، تفرض على أمة الاستجابة من المسلمين والمسلمات الوعي الإيجابي بمهمتهم في الوجود، التي تقتضي الاهتداء إلى طريق الله المستقيم، وحمل الرسالة لأمة الدعوة من بني الإنسان، لتتنسم نسمات الهداية الإلهية للقلوب، وتغشاها الرحمة الإحيائية الهادية إلى “التي هي أقوم”.

   من المفاهيم الأساسية في البنية المعجمية للقرآن الكريم، مفهوما: النداء والاستجابة. وشهر رمضان وعاء زمني حظي بشرف تنزل القرآن الذي خاطب الله به الناس كافة، وجعله موعظة لهم، وهدى ورحمة، وشفاء لما في صدورهم من أسقام الشرك والكفر، والشك والارتياب، والأنانية والفردانية، والأثَرة، والحِقد والكراهية…

   يحمل القرآن وبيان النبوة نداءاتٍ تُهيب بالإنسان، كل إنسان، وبالضمير الإسلامي والضمير الإنساني، الاستجابة لها بصدق. وانتشار وباء كوفيد 19 حدث داعٍ إلى الاستجابة الصادقة، خاصة إذا استحضرنا سياقه وملابساته، ومساقه وتداعياته. هذه النداءات هي:

– نداء التعارف الاعترافي: ففي القرآن دعوة خالدة للناس على اختلافهم إلى التعارف الموجب للاعتراف المتبادل، والمفضي إلى التعاون على الخير والنفع، قال تعالى: ﴿يآأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفواؐ إن أكرمكم عند الله أتقاكمؐ﴾ (سورة الحجرات: 13).

– نداء التراحم الإنساني: يؤسس الإيمان بمبدأ التعارف الاعترافي -المقتضي لتعرف كل طرف على الآخر في دينه، وعرقه، وحضارته، وتاريخه، وثقافته، ودوره، وحاجاته..-، لمبدأ التراحم الإنساني، ما دامت الرحم الإنسانية، رابطة آدمية جامعة بين بني الإنسان، فتسود بينهم وتشيع قيم الإحسان والتكافل والتضامن والتكارم والتساند والتعاضد والتآزر والتعاون استجابة لنداء الله: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان﴾ (سورة المائدة: 3)، ونداء رَسُولَ اللهِ ﷺ القائل: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»[2].

– نداء منع التظالم: لو استحضر الناس كون نبذ الظلم فطرة جُبلت عليها النفوس، وتعزَّز هذا الرفض في السلوك الفردي والسلوك الجماعي للأمم والشعوب والدول، لنَعِمَ الناس بالأمن والسلم، ولعَمَّ العدل والإنصاف، ولاقتربت كفتا ميزان التفاضل المعاشي من التساوي، سواء بين أمم الكوكب الأرضي، أو داخل كل أمة، في كل مدينة وقرية، ولهبَّ الجميع لرفع الظلم عن المظلوم. وإن التاريخ ليُسجِّل للأحرار في العالم بفخر واعتزاز، كل سعي لمنعِ الظلم عن الإنسان أيا كان معتقده أو لونه أو عرقه أو وطنه…، ورفعِه عنه بكل وسيلة مشروعة. في الحديث القدسي نداء إلهي متجدد للعباد: فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»[3]

– نداء التَّسالم (التعايش السلمي): قال الله تعالى في نداء يحمل الأمن والتأمين للناس كافة: ﴿يآ أيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة﴾ (سورة البقرة: 208). إن هذا النداء ثمرةُ الاستجابة للنداءات السابقة، فلو ساد التعارف الاعترافي بين البشر على اختلافهم، وانشرحت الصدور لحب الخير للغير، والتعاون معه على النفع، ورفع الظلم، تحقق بينهم التعايش السلمي، والإخاء الإنساني، تغليبا للمحبة على الكراهية، والاحترام على الاحتقار، والاعتراف على الإقصاء، والنفع والإفادة على الإمساك، والمساكنة والمسالمة على المعاداة والمحاربة.  

خلاصات

– ضرورة النظر إلى كل قدَرٍ نظرا مزدوجا: النظر إلى أمر الله القدري الكوني، والنظر إلى أمره الشرعي التكليفي.

– استجابة عبد الله وأمته له تعالى بالقلب والجوارح في رمضان، مصدرُ حياة القلب، وعلامة للرشد.

– اشتراك الأسرة في برنامج جماعي مرِن في ظل الحجر الصحي، تعزيز لقيم المودة والرحمة فيها، وعنوان للصلاح.

– الضمير الإسلامي والضمير الإنساني مدعوان اليوم وغدا إلى الاستجابة لنداءات: التعارف الاعترافي، والتراحم الإنساني، ومنع التظالم، والتعايش السلمي. 


[1] . أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد 8/186-187، رقم: 13671، واللفظ له، وقال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح»، وهو حديث حسن لغيره. والحاكم، كتاب البر والصلة، رقم: 7310، وقال: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي في التلخيص.

[2] . حديث رواه عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وأخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، رقم: 4941، واللفظ له. والترمذي، أبواب البر والصلة عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، باب ما جاء في رحمة المسلمين رقم: 1924، قال: «حسن صحيح». والحاكم، كتاب البر والصلة، رقم: 7274، وهو حديث صحيح.

[3] . أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظّلم، رقم: 2577.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق