مفارقات جنائية ( عز العرب الحكيم بناني )
كيف تساهم الفلسفة اليوم في النقاش العمومي حول جملة من المفارقات الاجتماعية والوجدانية والقانونية وغيرها من المفارقات؟ لا أدّعي أنّها تقدِّمُ بدائل نهائيّة ولا أنها تقوم بفصل المقال في الخلافات المذهبية، بل أزعم أنّها تتيح توسيع زاوية النظر للانتقال من خصوص السبب إلى عموم القاعدة. ولعلَّ أفضل طريقة هي ترجمة المشكلة إلى مفارقة. من هذه الزاوية أتطرّق إلى موضوع آنيٍّ بشأن إشكالية العدالة في ضوء المتابعات الأخيرة. يتعلق الأمر بموضوعات شائكة لا نعرف حيثيّاتها ولا تفاصيلها ولا نتدخل فيها ما دامت معروضةً على القضاء. ما هي المفارقة التي تكشف عنها لفلسفة آنذاك؟
يوجد فرق واضح بين المقاربة
الجنائية criminaliste ومقاربة علم الإجرام
criminologique. المقاربة
الأولى مسطريّةٌ تعتمد نصوص القانون الجنائي للبحث في الجريمة crime كما يحدِّدُها
القانون بطريقة حصريّةٍ، أمّا المقاربة الثانية فهي من اختصاص العلوم الاجتماعيّة
والنفسيّةِ والطبّية وتبحث في ظاهرة الانحراف
délinquance عن القيم
الجماعية أو الأعراف الاجتماعية السائدة على وجه العموم وتعتمد على الدراسة
النفسية والاجتماعية للمراهقين والجانحين وكلِّ أولئك الذين يعانون من مراهقة
متأخّرة أو قدر غير مقبول من التهور والاستخفاف الذي يخلق مشاعر الاستهجان
والاستنكار الاجتماعي. نعتبر من الزاوية الأولى المخالفاتِ انتهاكاً للقانون أو
اعتداء على الغير. بينما نعتبر المخالفة من زاوية علم الجريمة انحرافا عن القاعدة
أو زيغاً أو خروجاً بشكلٍ متفاوتٍ عن العرف السائد.
يوجد تكامل مبدئيٌّ من الزاوية
النظريَّة بين تخصص القانون الجنائي وعلم الجريمة، لأنَّ العدالة الجنائية تستأنس
بمعطيات علم الجريمة لفهم الظاهرة الجرمية اعتماداً على دراسة ظاهرة الانحراف
لتحقيق مزيدٍ من العدالة.
ومع ذلك، توجد مفارقة غريبة من هذا الجانب. ذلك أنَّ علوم الجريمة التي نعتمد عليها لكبح الجريمة قد أدّت إلى تعزيزها واستفحالها وتعزيز آليات المراقبة والعقاب. ذلك أنَّ العلوم الإنسانيّة قد مدّت العلوم الجنائيّة بالحجج التي تحملها على تشديد العقوبات بدل البحث عن ظروف التخفيف.
تظهر المفارقة في وجود ارتباطٍ قويٍّ بين علم الجريمة وعلم العقاب punitivité وظهور مفهوم الجريمة. أقدّم مثالا لتوضيح الفكرة وهي أنّ التخصص يخلق الموضوع. يحرز عدّاءٌ عالميٌّ على ميداليّةٍ ذهبيّةٍ لأنّه استطاع تجاوز العدّاء الثاني بجزءٍ واحد من المائة، بل وبجزءٍ واحد من الألف في الثانية الواحدة. لا تستطيع العينُ المجرَّدَةُ أن تنتبه إلى وجود هذا الفرق. فهو فرقٌ ظهر مع ميلاد تيكنولوجية النانو. نعتبر بهذا الصّددِ أنَّ نجاحَ ألعاب القوى هو في الحقيقة نجاحُ التكنولوجيا. بعبارةٍ أخرى، نقول إنَّ التكنولوجيا هي التي تصنع البطل العالمي محطّم الأرقام القياسية، فلم يكن بإمكان هؤلاء الأبطال أن يظهروا إلى الوجود قبل خمسين سنة. كذلك فإنَّ العلوم الاجتماعية والإنسانية خلقت المجرم لأنها قامت في الأصل على مفهوم السَّواء في علم النفس وعلى القاعدة الاجتماعية وعلى العرف والتعاقد. ويستعمل ميشيل فوكو Foucault بهذا الخصوص مفهوم “تكنولوجية” ترويض جسد “المجرم” وهو عدوُّ الجميع الذي نقض العهود والمواثيق وخرج عن الإجماع وفقد صفة المواطنة وتحول إلى وحش مجنون أو شاذٍّ. ويقع اللوم هنا في نظر فوكو على بيكاريا Beccaria وبنتام Bentham.
أعتقد أنَّ الفضل يعود إلى بنتام في ابتكار تصوّرٍ جديدٍ للسجن لا
علاقة له بحبس العصر الوسيط، في صورةِ “عينٍ لا تنام” panopticon ولا نفهم
أطروحات فوكو “الفلسفية” في كتاب “المراقبة والعقاب” إلا
بالرُّجوع إلى أعمال بنتام. من هذا الجانب، يشكو كتاب فوكو من التباس مقلق، فهو
يبرز “التيكنولوجيا” النفسية التي اعتمدها بنتام لترويض الجناة والتحكم
في سلوكهم ويعتمد عليه بشكل كبير من الناحية الفلسفية المعياريّةِ لحساب المنافع
والأضرار التي نجنيها من العقاب.
كما يعود الفضل إلى بيكاريا لأنّه وضع أركان فلسفة القانون الجنائي
ودعا إلى إلغاء عقوبة الإعدام. ويعود فوكو بشكل كبير إلى بيكاريا لإبراز العواقب
الوخيمة التي نتجت عن نظرية الرّدع. نظر فوكو إلى بيكاريا من جانب أحادي وهو إعادة
توزيع ميكروفيزياء السلطة، لكنَّ ما يهمُّني هنا هو إبراز تلك المفارقة التي برع
فوكو في فحصها، وهي أنَ القانون الجنائي الحديث دعا في ذات الوقت إلى إلغاء عقوبة
الإعدام ودعا إلى اعتماد آلية الرّدع dissuation و نشر حالةً من الهلع داخل المجتمع
وضخّم الشعور بالخوف من الانحراف الاجتماعي عن جادّة الطريق. إنّ مخلفات كلِّ ذلك
على الاستقرار الاجتماعي تظهر في تطبيع العلاقة مع العنف والانحراف بتزايد الخوف
من العنف والانحراف وإمكان معاقبة الأبرياء لردع المنحرفين المحتملين.
لا يوجد على الدّوامِ تناسبٌ مباشرٌ بين الجريمة المقترفة وبين
فظاعة نفس الجريمة. قد لا تعاقب الجرائمُ الكبيرة بعقوباتٍ قاسيةٍ لأنّها نادرةٌ
وليست في استطاعة أغلب الناس، مثل الجرائم الماليّةِ الكبرى؛ لكنَّ الحرصَ يتزايدُ
على معاقبة الجرائم “الصغيرة” إذا جاز القول بعقوباتٍ شديدةٍ لمزيدٍ من
الرّدع، لأنّها منتشرة بشكلٍ واسع داخل الفئات الشعبية وتخلق الانطباع بوجودِ
انفلاتٍ أمنيٍّ. لا يبحث أتباع بنتام عن علاقة تناسبٍ بين حجم الجريمة وحجم
العقاب. لا يتمُّ احتساب العقوبة على قدرِ الجريمة، بل حسب إمكان العَودِ
والتّكرارِ وخلق حالةِ تَسَيُّبٍ. إذا ما تسامحنا مع هذا السلوكِ الأرعن في ظروفٍ
معيّنةٍ، سنضطرُّ للتّسامح مع سلوكٍ آخر لا يقلُّ عنه رعونةً.
إنَّ علم الإجرامِ الذي يساهم مبدئيّاً في خلع طابعٍ إنساني على
القانون يساهم في بثِّ الرّعب في أذهان كلِّ أولئك الذين يريدون العيش في مناخٍ
آمنٍ ومستقرٍّ لا علاقة لهم بأجواء الجريمة. مع الأسف، لا يتقيّدُ أتباع بيكاريا
بحدودِ الجنحة أو الجريمة أو الفعل الشنيع الذي دخل في ذمّةِ التّاريخ، لأنَّ
الهدف هو تجنُّبُ الفوضى في المستقبل. يريدون أن يفقد الجاني الرّغبة في العود
وألا تظهر ظواهر- الصدى phénomènes- échos تحاكي فعله. تطبّقُ العقوباتُ
بالشدَّة التي تسمح بردع الجناةِ المفترَضين، ولو أدّى ذلك إلى معاقبة الأبرياء أو
تشديد العقوبة في حالاتٍ غير متناسبةٍ، عملا بالمثل العربي: إياكِ أعني واسمعي يا
جارة ! المفارقة هي أنَّه يحقُّ لنا أن نواجه الانحراف délinquance بواسطة
القانون(عن القيم الجماعية المعتبرة أو عن مكارم الأخلاق وعن أخلاق الواجب)
بالاستنكار، ولكنّنا عن غيرِ قصدٍ منّا قد نزكّي الانحراف داخل المجتمع، الذي لن
يتراجع إلا بالتربية والتعليم، وقد يحقّقُ الرّدع عكس المطلوب، إذا ما أدّى إلى
زعزعة الإحساس بالطمأنينة النفسية والسّلم القانوني لدى المواطنين في هذه الأوقات
العصيبة بالذّات.
عزالعرب لحكيم بناني