مناط التكليف بين الفردية والجماعية (1) (الفروض العينية والكفائية) – مولاي المصطفى صوصي
بسم الله الرحمان الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه
مقدمة:
-1-
بدأ مسلسل إقصاء الشريعة الإسلامية وإبعادها عن الشأن العام وقضاياه الحيوية في عهد مبكر من تاريخنا، ساد بعده الإسلام الفردي والفقه الفردي. يقول الدكتور عبد المجيد الصغير([1]): “هذا وقد ضاقت العلاقة بين أبواب الفقه وبين الواقع المعيش إلى درجة أن تقلصت فصارت لا تتجلى بوضوح إلا في نظام الأحوال الشخصية والعبادات والمواريث، وهي مجالات أقرب ما تكون إلى الحياة الفردية منها إلى الحياة الاجتماعية والسياسية”. ويقول الدكتور حسن الترابي([2]): “فالنمط الأشهر في فقه الفقهاء المجتهدين كان فقه فتاوى فرعية، وقليلا ما يكتبون الكتب المنهجية، بل كانت المحررات تدوينا للنظر الفقهي حول قضايا أفراد طرحتها لهم ظروف الحياة من حيث هم أفراد. ولذلك اتجه معظم الفقه للمسائل المتعلقة بقضايا الشعائر والزواج والطلاق…” وقد تفاقم الوضع مع مرور الزمان، وبسبب ما تعرضت له الأمة من غزو غربي، حتى صار الناس يتصورون الدين مطلبا خاصا بالفرد وعلاقته مع الله، متأثرين بالمفهوم السائد خاصة عند المسيحيين، وعند العلمانيين واللاييكيين الذين يتصورون الدين والتدين شأنا خاصا هامشيا، ويعملون على عزله وإبعاده عن الحياة العامة.
وإن الذي عطل من الدين أكثره يتعلق بالقضايا العامة والفروض الكفائية، والتي ستكون محل نظرنا وتفصيلنا.
ومن نتائج هذا الإقصاء والتهميش أيضا إلى جانب عوامل أخرى -لسنا بصدد بسطها- هذا النزوع بالأصول منحا نظريا تجريديا، والشأن فيها أن تنشأ وتنمو مع واقع حي وفقه حي.
-2-
ارتباطا بما تقدم فإن فروض الكفاية([3]) من المباحث العظيمة، التي تحتاج إلى مزيد عناية واهتمام، وإلى إعادة صياغة وبيان، فهي -كما قال الرافعي([4])– من الأمور الكلية التي تتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا ينتظم أمر الأمة إلا بحصولها.
وإذا كان المتقدمون رضي الله عنهم قد فصلوا القول فيها بحسب اهتماماتهم، وأولوياتهم، وما يتيحه زمانهم وأهل زمانهم([5])، فإن معظم المحدثين لم يتجاوزوا ترديد مقولات من سبقوهم، إلى درجة إيراد نفس الأمثلة من قبيل صلاة الجنازة، وإنقاد الغريق، … وفي مسألة المفاضلة بين الفروض العينية والفروض الكفائية يتم التمثيل لها بحضور الجنازة في أثناء الطواف الواجب، هل يقطعه للصلاة عليها أم لا؟ وهكذا ظلت الأصول مقولات نظرية تؤخذ مجردة مفصولة عن واقع الناس واهتماماتهم.
وفي محاولة لتجاوز بعضا من هذا الاختلال، وتفصيلا لبعض ما أجملناه، سنحرر في مبحثين القول في مسألتين -نظنهما كافيتين في تحقيق الغرض الذي نبغيه-: الأولى: في حقيقة الفرض الكفائي، ثم علاقته بالفرض العيني. والثانية: في متعلق الخطاب في الفرض الكفائي، وحقيقة الجماعة المطالبة بأدائه.
([1])– الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: 327.
([2])– قضايا التجديد، نحو منهج أصولي: 159
([3])-“الواجب بحسب نفسه إما معين أو مخيَّر، وبحسب وقته إما مضيقٌ أو موسع، وبحسب فاعله إما فرض عين أو فرض كفاية” ينظر التحصيل من المحصول للأرْمَوي: 1/302، ورَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ: 2/571.
([4])– ينظر التحبير شرح التحرير: (2/ 875) بتصرف.
([5])– فتحدثوا عن مفهومها وحقيقتها وسبب التسمية ، وعن الفروق بينها وبين الفروض العينية، وأيهما أفضل، ومتى تتحول إلى عينية؟ كما تطرقوا إلى شروط فروض الكفاية، وهل تلزم بالشروع فيها، ومن هو المخاطب بفروض الكفاية؟ وما حكم فعل الجميع أو تركهم للفرض الكفائي، وهل يشترط لسقوطه وإبراء الذمَّة منه التحقّق بالعلم القاطع بأدائه أم يكفي غلبة الظَّنّ في ذلك؟ وهل يسقط بفعل الملائِكة والجنّ؟ …. ينظر البحر المحيط للزركشي، والإحكام للأمدي، وغيرهما.