الانفجار العظيم: عصر النهايات والأحصنة الرابحة (1) نهاية الشهادة(ادريس أوهلال)
تصدير:
هل من وجه للشبه مع فيلم “المنتقمون.. نهاية اللعبة”؟ حرب لانهائية يخوضها “المنتقمون” امتدت في الزمن عبر معارك متعددة، بعضها كان معارك فردية والبعض الآخر معارك جماعية، أما أم المعارك فهي “نهاية اللعبة”. والعدو.. هو هذا الوحش الكاسر المسمى ثانوس الذي يسعى إلى جمع أحجار الأبدية جميعها!
بعد هَوَس الدبلومات والشهادات الأكاديمية والمهنية ها نحن الآن نستعد للدخول في سراب الكفاءات والجدارات والمهارات والقدرات. الرأسمالية المتوحشة المفترسة تتقن التحكم في العبد والمعبود والمعبد، ولها لكل مرحلة ألعابها أي مصالحها ورهاناتها وما يرتبط بها من مشاريع واستراتيجيات وخطابات.
الذين صمّموا لعبة الشهادات أتقنوا تصميم اللعبة: الحصول عليها لا يمنحك أشياء مهمة، وعدم الحصول عليها يحرمك من أشياء كثيرة. الآن يتحوّلون إلى لعبة جديدة: الكفاءة بدل الشهادة.. والسؤال هو: كيف نلعب هذه اللعبة الجديدة دون أوهام؟ كيف نفهم أولا رهانات اللعبة القديمة؟ وكيف نفهم ثانيا رهانات وطريقة اشتغال اللعبة الجديدة؟ وكيف ندخل بعد كل ذلك ومعه في اللعبة الجديدة سادة لا عبيداً؟ وهل يكون سيدا من يدخل في لعبة صنعها غيره!؟
دعونا قبل الإجابة على هذه الأسئلة نؤكد على مبدأ منهجي مهم. عندما يتعلق الأمر بالألعاب ورهاناتها فلا فائدة من التحليلات اللغوية والاصطلاحية والعلمية والتقنية حول علاقة الشهادة بالكفاءة وأهمية كل منهما وتكاملهما ومن سيُقَوّم من وماذا وكيف؟ ولا طائل أيضا من وراء التعلق بخيارات مثالية كالعصامية التي لا وجود لها إلا في أذهان الذين يعتقدون في وجودها لأن النجاح والفشل والوعي بهما لا تتحكم فيه الشهادة أو الكفاءة أو العصامية وإنما جاذبيات اجتماعية علينا الوعي بها للتحرر منها. في ميدان صراع المصالح لا قيمة للأفكار والمشاعر إلا بمقدار قدرتها على تعزيز المصالح عند توظيفها.
الشهادة أم الكفاءة؟ تبدو هذه المفارقة مثيرة للسخرية والضحك! فالشهادة إشهاد، أي وثيقة تثبت امتلاك المشهود له معارف (الشهادة الأكاديمية) أو مهارات (الشهادة المهنية)، فما وجه التعارض إذن؟ أليست الشهادة والمشهود له وجهان لعملة واحدة بل شيئا واحداً؟
إن الأمر في حقيقته لا يتعلق بالشهادة ولا بالكفاءة وإنما بلعبة الإخفاء المعروفة، أي بنظامين يُراد منهما أداء وظيفة إيديولوجية؛ الأول اخترع لتلبية احتياجات الرأسمالية الصناعية في الماضي واستنفذ وظيفته، والثاني في طور التشكل والاختراع لتلبية حاجات الرأسمالية المعرفية في المستقبل، ورغم اختلاف آليات التلاعب بالوعي ووسائله فاللعبة واحدة هي لعبة الإخفاء. إن السلطة في كل المنظمات والمجتمعات وعبر التاريخ تحتاج إلى إخفاء التلاعب بالوعي لمضاعفة مفعول العبودية. إن الإخفاء هو أحد مبادئ الفعالية، والحاجة إلى الإخفاء المستمر يفرض التجديد المستمر أي يفرض الانتقال من لعبة الشهادات إلى لعبة جديدة.
قبل سنوات كان توجه الكثير من الدول، في إطار تجديد اللعبة، نحو تعزيز سلطتها المادية والرمزية بحصر دور الجامعات في منح شهادات وطنية فقط وإعطاء “الدولة” وحدها حق منح “شهادة دولة” (مثال فرنسا والدول التي تدور في فلكها مع نظام LMD)، لكن يبدو أن خيارات الرأسمالية العالمية أذكى وأقوى وأشمل من الإصلاحات المحدودة والغبية لرأسمالية الدولة الوطنية: إنهاء لعبة الشهادة جملة وتفصيلا واستبدالها بلعبة جديدة تضمن المصالح الاقتصادية للشركات الرأسمالية العالمية التي تبحث عن الكفاءة في أسواق دولية لا محلية.. إنها عملية البيع بالجملة وبالتقسيط لكشط الأسواق المحلية والاقليمية والعالمية على حد سواء وترويض العبد والمعبود والمعبد. كان الله في عون الرأسمالية الوطنية!
إننا نعيش فترة انتقالية من اقتصاد الشهادات إلى اقتصاد الكفايات، والأمر في العمق لا يتعلق بتحولات سوق الشغل، أو بالتطور التكنولوجي السريع الذي قتل التخصص وذوّب الفروقات بين الوظائف المتخصصة في المنظمات، أو بالصعوبات المتزايدة التي تصادف مدراء الموارد البشرية في ربط الشهادات بالمهن بسبب التحولات السريعة في المهن والكفاءات (أكثر من نصف مهن المستقبل غير موجودة اليوم)، وإنما بالرهانات الجديدة للرأسمالية العالمية المتوحشة المفترسة التي ترى في كل شيء مجرد فرص استثمارية، بل ترى الكون بأكمله مجرد عقار لا يحتاج لحكمه سوى إلى شركة استثمارات عقارية.
من منظور اجتماعي لا فرق بين الشهادة والكفاءة، فقيمتهما معاً مشروطة بالاعتراف الاجتماعي بهما من طرف سلطة حكومية أو جهة مُشَغِّلة. وعليه: لن تكون الشهادة ولا الكفاية الحصان الرابح في مواجهة تحديات سوق الشغل وعالم الأعمال في المستقبل، لأن المؤكد أن اللعبة الجديدة سيتم تصميمها لصالح السوق الدولية وعلى حساب الأسواق المحلية والوطنية، وستكون حصيلة اللعبة الجديدة بنفس منطق ورهانات اللعبة القديمة: الحصول على الكفاية لا يمنحك أشياء مهمة، وعدم الحصول عليها يحرمك من أشياء كثيرة! وستكون الفرص أمام حاملي الكفايات شبه منعدمة لأن التنافسية ستتم في سوق عالمية للكفايات (بعض الدراسات الاستشرافية تقول أن نسبة البطالة سنة 2070 ستكون 80%).
ويبقى السؤال المصيري قائما: من هو الحصان الرابح؟ وكيف نمتطيه بذكاء؟
ملاحظة:
في هذا المقال استخدمت مصطلح الكفاءة والكفاية كمقابل للمصطلح الأجنبي Competence على عادة المغاربيين في ترجمته، أما المشارقة فيترجمونه بالجدارة.