تأملات في حقوق الإنسان (عز العرب الحكيم بناني)
نشر ماركس مقالة في اليومية الأمريكية New York Daily Tribune يوم 18 فبراير 1853 في موضوع Capital Punishment . كانت المقالة مرافعة ضدّ عقوبة الإعدام في وقت كانت المثالية الألمانية قد رفعت فيه مستوى الإنسان إلى منزلة “الكائن الحر والمستقل الذي يملك سلطة القرار. ولكننا إذا ما نظرنا بعمق إلى المسألة، فإننا سنكتشف برأيه أن المثالية الألمانية German idealism قد رفعت قيم المجتمع القائم إلى” إلى مستوى متعال مفارق وقد تابع ماركس متسائلا: “أليس من الجنون أن نضع “الإرادة الحرة”« free will »، كما لو كانت كيانا متعاليا ومجردا مكان الإنسان المحسوس المعروف بميوله الطبيعية والذي يتنازل أمام الضغوط التي تمليها عليه الظروف الاجتماعية المتباينة؟ توجد صلة وثيقة بين الإقرار بوجود كائن حرٍّ وقادر على اتّخاذ القرار وبين تبرير عقوبة الإعدام. فالإنسان الحرّ مسؤول عن أفعاله ويتقبل الموت عن طيب خاطر. هذه بعض المفارقات التي تبرز كيف أن مفهوم الحرية، أي حرية الإنسان استعملت سلاحا للثأر من الإنسان.
سأواصل الحديث في موضوع اعتراضات ماركس وبنتام على التصور الذي وضعته الدولة الليبرالية لحقوق الإنسان والحقوق الطبيعية في صيغة الحقوق المتساوية، وسأنطلق من كتابات ماركس سنة 1843 في المحاضرة وهي كتابات ماركس المبكرة.
كانت مقالة ماركس بشأن المسألة اليهودية التي في نشرة الكتب السنوية الفرنسية الألمانية Jahrbücher وبخصوص مساواة اليهود في نفس حقوق المواطنة مع المسيحيين ردّاً على دعوى أوتو باور أحد أقطاب اليسار الهيجلي الشباب، حينما ردَّ بعنف على رغبة اليهود في التخلص من القيود المفروضة عليهم واعتبر أن اليهودي الذي يؤدي واجباته اتجاه الدولة ولا يمارس الشعائر الدينية الجماعية لم يعد يهوديا. يشرح Ido De Haan موقف باور كالتالي”بينما كان المسيحيون قادرين على فصل الكنيسة عن الدولة من خلال نقل الشعائر الدينية إلى المجال الخاص، لا يستطيع اليهود أن يتحرّروا إلا إذا ما تخلوا عن اليهودية بشكل كامل. والسبب هو أن المسيحية، ولاسيما في صورتها البروتستانتية تقوم على التصديق faith، بينما تقوم الديانة اليهودية على النص القانوني، وبالتالي لا بد لها أن تكون موجودة في الحياة العامة.” رفض أوتو باور الحقوق المتساوية لليهود لأسباب لاهوتية، بينما رفض ماركس الحقوق المتساوية لأسباب سياسية، وهي أن إرجاع الدين إلى “المجتمع المدني” أي إلى المجال الخاص والأنانيات وحرب الكل على الكل سينخر لبَّ الدولة الأخلاقية الهيجيلية ولن يحققها بالكامل، وذلك نتيجة تفتت المجتمع المدني بين المصالح الخاصة والممارسات الدينية الفردية. تهدف فكرة الحقوق المتساوية المتوارية خلف التحرر السياسي إلى تحقيق تحرُّرِ الدولة الليبرالية أو البورجوازية كما يقول. تظل الحقوق المتساوية في المواطنة مجرّدُ قناع لتغطية التفاوت الاجتماعي في المجتمع المدني. فالتعدّديّة الدّينيّة والأنانيّة الاجتماعيّة عامل انقسام المجتمع المدني. واليوم لا يزال نقد حقوق الإنسان يرجع إلى عوامل الأنانية والمصالح الشخصية، مع أن ماركس استمر في نقد أسس الدولة الليبرالية بينما خلع بنتام معنى عقلانيا على المنفعة الذاتية.
وهذا هو منطلق نقد بنتام لحقوق الإنسان، أو بعبارة أصح انتقاد الحقوق الطبيعية كما وردت في أعماله الكاملة. ويمكن للمشاهد الكريم أن يرجع إلى مقالة بيداو . كان الإعلان العالمي قد ظهر في صيف 1789 وشرع في انتقاده سنة 1796 . ما هي الحجج الفلسفية المبنية على المبدأ المعياري للمنفعة؟ يعتبر بنتام أن المعيار المجرد لا يستقيم أمام مبدأ أكبر قدر من المنفعة لأكبر نسبة من الناس، وهو فيلسوف المنفعة ورجل القانون ومبتكر مؤسسة السجن Pantopticum وهو من اقترح معالم القانون العام لدولة البرتغال سنة 1822. ولا يمكننا اليوم أن نتخيل وجود فيلسوف من حجم ميشيل فوكو دون وجود بنتام، لاسيما إذا ما شئنا تتبّع التفاصيل المملة المتعلقة بمؤسسة السجن وبالمسطرة الجنائية، وقد كان هذا موضوع محاضرات فوكو في جامعة لوفان Mal Dire vrai. Fonction de l’aveu en justice. ولا أظن أن ارتباط فوكو ببنتام كان مجرد ارتباط عارض، بمعنى أنني أزعم أنه لا يمكننا أن نفهم اهتمام الفرنسيين مثل فوكو ودريدا بقضايا فلسفة القانون لولا هذا الارتباط القوي الذي ظهر مع بنتام في إنجلترا ومع ماركس في ألمانيا.