زمن الأوبئة هل يكون زمن أمل؟ عز العرب لحكيم بناني
نتحدث عن زمان الأوبئة والحروب والكوارث الطبيعية بلغة مأساويّةٍ، ولكننا ننسى أن زمان الأوبئة بكل ما يحمله من آفات وأضرار في الحرث والنسل قد يكون أيضا زمن الأمل. عندما أتصفح الكتب والمنشورات والأعمال الفنية والإبداع الموسيقي التي نشرت قبل عقودٍ في فرنسا، أكتشف أن سنوات الحرب لم تمنع كثيراً من دور النشر والمبدعين من الاستمرارية في الإبداع. أذكر ميرلوبونتي وسارتر وريكور وأذكر بيكاسو ولوحته الشهيرة عن الحرب الأهلية في إسبانيا. وأذكر كلَّ دور النشر التي استمرّت في العمل تحت أزيز الطائرات وهدير المدافع. في كلِّ هذه الظروف غير العادية تحاول المجتمعات أن تخلق الانطباع بأنها تعيش ظروفاً عاديةً، ولو أنَّ ذلك كان يستدعي دوما اتّخاذ التدابير الاحترازية المناسبة. لا تعني الحضارة ارتفاع ناطحات السحاب، فقد تسقط في الحروب والزلازل ولكن تعني استمرار الفكر في أزمنة القمع والأوبئة والكوارث الطبيعية.لو وضعنا جرداً إحصائياً بكلِّ المؤلفات التي انبثقت من قلب معاناة الحروب والأوبئة لاكتشفنا أنَّ الحروب قد دمرت البنيات الاقتصادية ولكنها لم تُدمِّر الفكر. قد يتعرَّضُ الاقتصادُ والعمران والبنيات السّكانية لهزّاتٍ عنيفةٍ خلال هذه الفترات العصيبة، لكنَّ الفكرَ الذي يصاحبُ إفلاسَ الاقتصادِ وخراب العمران و تفكُّكَ البنيات السُّكانية يقاوم اليأس والعدميّةَ والتّدميرَ الذّاتي. قد تنهارُ المجتمعات اقتصاديّاً وتعيش تحت الاحتلال وتظلُّ تلك المجتمعات مستمرّةً مع ذلك في الوجود، ما دامت بذورُ البنيات الثقافية مستمرّةً في الوجودِ كذلك. أقدّم مثالين من بين أمثلةٍ لا تُحصى على مدى مساهمة الثقافة في استمراريّة الوجود الإنساني واستمرار الأمم، وهما فلسطين و الكوسوفو:التقيت مرّةً قبل أكثر من عشرين سنةً أحد الأساتذة الفلسطنيين في ألمانيا وهو أستاذ بجامعة النجاح في الضفة الغربية؛ وكان يحكي لي عن معاناة الحصول على الراتب الشهري الذي كان يصل آنذاكَ مرّةً كلَّ شهرين عبر الأردن وكان يحكي عن صعوبة تدبير الحياة اليومية، فكان يشتغل على هامش عمله بتربية بعض الدّواجن للحصول على بعض الاكتفاء الذّاتي. ورغم هذه الظروف، كان قد أحرز على رسالة دكتوراه من ألمانيا وكان بصددِ إعدادِ شهادة الأهلية للترقية بالجامعة الفلسطسنية، وأخبرني أنه ملزمٌ بنشر خمس مقالات في مجلات دولية متخصّصة باللغة الإنجليزية أو إحدى اللغات الأخرى للوصول إلى مسعاه العلمي. نرى بوضوحٍ كيف أنَّ الفلسطينيّين الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال هم نفسُ الفلسطينيّين الذين ينجبون الشعراء والمفكّرين والفنّانين الموجودين داخل فلسطين وفي باقي دول المعمور. الحفاظ على الوجود الفلسطيني هو حفاظ على الفكر والإبداع والتواصل الثقافي والاندماج في الحضارة الإنسانية. هذا جانب لا نعبأ به كثيراً حينما نسعى إلى مناصرة القضية الفلسطينيّة. آتي إلى المثال الثاني.زرْتُ مرة الكوسوفو وهي من بين ولايات يوغوسلافيا المنهارة خلال تسعينات القرن الماضي. اعترفت دول قليلة بهذه الدويلة الناشئة إلى جوار ألبانيا، ولكنها كانت تملك وسائل البقاء؛ فهي تملك جامعةً عريقةً وجميلة للغاية في قلب حدائق ممتدّةٍ على امتدادِ البصر وفي حضن تقاليد علميّةً راسخة؛ كما تتعايش فيها الكنائس إلى جانب البيع والمساجد. واعتمدت اللغة الإنجليزية في الدوريات والمجلات العلمية وترسل الطلبة إلى الدول الغربية لخلق أطر المستقبل. ويعيش هذا البلد بنسبةٍ كبيرةٍ على المساعدات الخارجية بعد أن خرج صفر اليدين من التطهير العرقي والحروب الدامية بعد انهيار المعسكر الشرقي. ومع ذلك، لا تزال الحياة الثقافية متجدّدةً وباعثةً على الأمل.وأعود إلى واقعنا المغربي الذي لا نعلم هل سيرفع التحديات التي يواجهها اليوم أمام هول انتشار الوباء. إذا ما نظرنا إلى أهوالِ المعاناة الاقتصادية وكابوس الموت الذي بدأ يقتحم العائلات المغربية نتيجة وباء كورونا، نكتشف فجأةً أنَّ “الحياة لا شيء”، كما يُقالُ، وأنَّ بيوتنا أشبه ببيوت العنكبوت التي قد تنهار في أيِّ لحظةٍ.ومع ذلك، أحتفظ ببعض الأمل. لا أريد التهوين من الأهوال. وهذا حظُّنا وحظُّ غيرنا من الدول التي ولا تزال تعاني من كل الأهوال، مع فرق بسيط وجوهري في ذات الوقت:المجتمعات التي استوعبت أهمية الثقافة في استمرار الوجود، تدرك أن الإنسان فانٍ بما هو شخصٌ، وهذا قدرُنا جميعا، ولكنه باق بما هو جنسٌ بشريٌّ. الإنسان فان بما هو عقل “هيولاني” لكنه باق كعقل مشترَكٍ بين الإنسانية. يتعاقب الأفرادُ على المؤسّساتِ السياسية والثقافية والاجتمعية ولكنَّ الأملَ هو أن تبقى تلك المؤسَّساتُ. يموت المفكّرون ويبقى الفكرُ، وقد يقعون طيَّ النسيان ولكنّهم يتركون آثارَهُم التي تدُلُّ عليهم في الأجيال اللاحقة. توجد في الكتابات الفلسفية الإسلامية شواهد تدُلُّ على أنَّ العقل لا يفنى لأنه عقل واحد ومستمرٌّ في الوجود. لا يتخيّل الفلاسفة المسلمون أن تبقى المجتمعات بينما ينهارُ العقلُ. تتحول العقول الفرديةُ على الأقلِّ إلى أسمدةٍ تخصب الفكر اللاحق وتساهمُ في بقاءِ العقل الإنساني كشجرةٍ يانعةٍ لأنها شجرة الحياة؛ استمرار العقل هو أمل في استمرارية المؤسسات واستمرار الدراسة والمدرسة والجامعة في زمن كورونا.