استثمار الأموال في ضوء إعمال المقاصد القرآنيَّة- ج2 (البشير قصري)
المحور الثاني: تقصيد استثمار الأموال: أولويات وضوابط.
لا يخفى على متتبع ما آل إليه أمر المال في مجتمعاتنا المعاصرة، إذ أصبح في الغالب يؤدي وظيفة طاغوتيَّة يستعبد المجتمعات المستضعفة، ويجعل زمامها بأيدي المستكبرين، ولا انفكاك في الأفق إن لم تنضبط حركيَّة استثمار المال على سكة المقاصد الشرعيَّة بضابطي الحق والنفع، وتسدد بمراعاة القصد من خلق الإنسان والكون. وما يتطلبه ذلك من حرص على الرواج والوضوح والثبات والحفظ والعدل.
ولما كانت آفاق استثمار الأموال وطرقه في الإسلام لا تحدها حدود، حيث تركت لإرادة الإنسان ما دام يقصد تحقيق المقاصد الشرعيَّة السالفة الذكر، ووسيلة هذه الأخيرة احترام أولويات أشير لها في مبحث أول، والالتزام بضوابط خصصت لها المبحث الثاني.
المبحث الأول: أولويات في تقصيد الاستثمار.
التعليم والتزكيَّة، والعلم والمعرفة .
غايات الغايات إفراد الله عز وجل بالعبادة، لذلك ونحن نوجه المال لتحقيق حاجات الإنسان التي تكفل حياته، ينبغي أن ندفعه دفعا إلى القيام بوظيفته، ولا يتم ذلك إلا من خلال عمليتي التعليم والتزكيَّة، وهما من أهم مقاصد البعثة المحمديَّة، وعنهما يقول الدكتور الريسوني:”هذان المقصدان الأساسيان ينصبان بالدرجة الأولى على العنصر البشري وعلى الكيان البشري في ذاته وحالته الذاتيَّة، لأن هذا هو المناط الأول والمنطلق الأول لكل صلاح وإصلاح”[24].
ومن جهة أخرى فقد فطن الفكر الإسلامي مبكرا لأهميَّة إعمال القدرات العقليَّة لاكتساب العلم وإنتاج المعرفة، قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)[25]، ومن شأن هذا أن يؤهل الأفراد لاكتشاف أسرار الكون ونواميسه، والانتفاع من خيراته. بمعنى أدق نحتاج اليوم إلى تنمية اقتصاديَّة، وهذه الأخيرة متوقفة على مدى امتلاكنا “للتكنولوجيا”، هذه الكلمة الساحرة والحل السحري لفظة مركبة قوامها المعدات والمعرفة، فالمعدات تمثل رأس المال بمعناه الفني الاقتصادي، في حين تشمل المعرفة جميع المهارات (إداريَّة، ماليَّة، تسويقيَّة، …) التي تتصل بالإنسان ممثلة لعنصر العمل. ومن ثم اكتسب التعليم والتدريب أهميَّة وأولويَّة في المشاريع الاستثماريَّة في وقتنا الحاضر. وكثيرا ما نقف على هذه الحقيقة في كتابات أهل التخصص، منهم أستاذ الماليَّة والتشريعات الاقتصاديَّة الدكتور خلاف عبد الجابر خلاف إذ يقول:”ومن ثم تعتبر المعرفة بالتعليم والتدريب هي الشق الحاكم لموضوع التكنولوجيا الذي اكتسب ا أهميَّة القصوى في عمليات الإنتاج في وقتنا الحالي”[26].
الضروريات قبل الحاجيات والتحسينيات.
سبق أن بينا أن الاستثمار عمل في المال لغرض، وأول هذه الأغراض من الناحية المقاصديَّة تحقيق الضروريات أولا والحاجيات بعدها ثم التحسينيات. والضروريات أنواع منها ما يرتبط بالطعام (فلاحة)، ومنها ما يتعلق بالكساء والمسكن والدواء (صناعة)، ومنها ما يتصل بالرخاء وقوة المال والسيادة (تجارة، علم وثقافة) وغيرها، ولما كنا في الوطن العربي والإسلامي عالة على أعدائنا، نأكل ما لا نزرع، ونلبس ما لا نصنع، وما ترتب عن ذلك من إذلال واستعباد، ونهب للأموال وسلب للثروات كانت الأولويَّة أن توجه رؤوس الأموال لسد هذه الثغرة وتحقيق هذا المقصد، وفي ذلك يقول الدكتور فريد واصل:”…فيجب أن تتجه رؤوس الأموال بأقصى سرعة إلى مناطق إنتاج الطعام والغذاء والدواء”[27]، نعم بأقصى سرعة لأن الأمر يتعلق بالقوت ورغيف الخبز وما يسد الرمق ويحفظ حياة الإنسان، حياة عزة وكرامة. وهذا ما أكد عليه أيضا الدكتور رفيع “وحفظ المال إنما يتم باستثماره فيما يغني موارد المجتمع لتوفير المنتجات الضروريَّة، كالمأكل، والمشرب، والمسكن، والعلاج، ثم التدرج إلى توفير الكفايَّة، ثم في النهايَّة الحاجيات الكماليَّة والتحسينيَّة”[28]، لاحظ أنه قال في النهايَّة لتفهم أنه لا وجود لحاجات ترفيَّة لأنها لا تدخل في نطاق الدوائر الثلاث، ويكفي أن الترف سلوك وميل سلبي مذموم شرعا وعقلا.[29]، وأما الجانب الترفيهي فبالقدر الذي تقتضيه ضرورة الحال.
تقديم الاستثمار داخل الوطن .
ومن أولويَّة الأولويات في وقتنا الحاضر، وحتى يؤدي المال وظيفته الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة على أحسن وجه، أن يحرض بل يلزم أصحاب الدثور باستثمار أموالهم في بلدانهم وأوطانهم وبين أهليهم، وذلك لإمكان المحافظة عليها، والاستفادة الفعليَّة والحقيقيَّة منها، والقدرة على الذود عنها والجهاد دونها ضد كل مغتصب أو طامع. وقد ذهب الدكتور واصل –مفتي الديار المصريَّة سابقا- إلى أبعد من هذا إذ اعتبره واجبا شرعيا، وهذا نص فتواه :” وبذلك يتضح لنا بجلاء حرمة استثمار الأموال العربيَّة والإسلاميَّة خارج بلاد الأمتين العربيَّة والإسلاميَّة إلا فيما زاد عنهما وكانت هناك ضرورة أو حاجة تتعلق بمصلحتهما أولا وأخيرا”[30].
اعتماد المصارف الإسلاميَّة وتفعيلها ومراقبتها.
يعرف الدكتور عبد المنعم أبو زايد المصارف الإسلاميَّة بأنها:”مؤسسات ماليَّة تقوم بمزاولة النشاط المصرفي والاستثماري في ظل تعاليم الإسلام، فهي تقوم بجمع الأموال وتوظيفها وتقديم الخدمات المصرفيَّة في حدود نطاق الضوابط الشرعيَّة”[31]، ووسع التعريف الدكتور محمد الوردي بالتنصيص على أهداف المصرف الإسلامي، فقال:”وبصفة عامة يمكن القول بأن المصرف الإسلامي أو التشاركي هو مؤسسة ماليَّة تؤدي خدمات مصرفيَّة وأعمالا استثماريَّة وفقا للمبادئ والأحكام الشرعيَّة، والتي على رأسها الابتعاد عن التعامل بالفائدة، وذلك من أجل تحقيق تنمية اقتصاديَّة، وعدالة اجتماعيَّة، ووضع المال في المسار الإسلامي الصحيح”[32].
بهذا الصفة ولتلكم الأهداف المضمَّنة في التعريفين السالفين أنشئت العديد من المصارف في معظم الدول العربيَّة والإسلاميَّة، ورغم ما اكتنف مسيرتها من أعطاب وتحديات، فقد استطاعت أن تقدم بديلا إسلاميا للبنوك التقليديَّة الربويَّة، فأبدعت في الأدوات التمويليَّة والصيغ الاستثماريَّة، وحققت مزايا عدة، منها:
تعبئة الموارد الماليَّة وتوظيفها وفق الثوابت الشرعيَّة.
تحقيق تداول الأموال والمساهمة في التنمية.
تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتجنب الأزمات الماليَّة.
تكريس العدالة بين الأطراف التعاقديَّة وتنمية السلوك الإيجابي[33].
ومن أخطر ما يمكن أن يهدد هذا الجهد أن تعصف به رياح الأهواء وجنون الربح فتسقطه في براثن التلفيق والمكر والخداع والتغرير، فاللهم لطفك .. ! لذلك تعينت الرقابة الشرعيَّة الدائمة، والترشيد المقاصدي المستمر.
وهكذا يكتسي اعتماد المصارف الإسلاميَّة في العمليَّة الاستثماريَّة أهميَّة قصوى باعتبارها الآليَّة الاقتصاديَّة القادرة على الإسهام في ترويض المال لخدمة مقاصد الشريعة وتحريره من التوظيف القاروني الظالم.
ويضيف الدكتور رفيع أولويات أخر، جمعها في قوله:ّ”ومما يعين على تقصيد الاستثمار، التركيز على التمويل الداخلي، وتشجيع المشاريع الصغرى، وتحريرها من احتكار المشاريع الضخمة ذات الوسائل الماليَّة الضخمة، لأنها مناقضة لمقصد التداول في المال، فهذه هي المقدمة الصحيحة لتنمية حقيقيَّة”[34]
المبحث الثاني: ضوابط في تقصيد الاستثمار.
هناك ضوابط إجرائيَّة لا بد من مراعاتها وعدم إغفالها من الوجهة الشرعيَّة المقاصديَّة عند إرادة استثمار الأموال، حتى يتحقق المقصد الشرعي للفرد والمجتمع، وهذه أهمها[35]:
أولا: توفير الأمن الكامل والأمان لكل رؤوس الأموال العامة والخاصة، وتطهير مناخ الاستثمار والادخار، وإصدار التشريعات والقوانين اللازمة لذلك، ومنها إلغاء الضرائب على جميع رؤوس الأموال المدخرة بغرض الإنتاج أو الاستثمار الذي يتعلق بالضروريات.
ثانيا: ابتعاد الدولة والهيئات التابعة لها عن تكوين رؤوس أموال لاستثمارها في السلع الكماليَّة أو الترفيهيَّة، وترك ذلك للأفراد والمؤسسات الخاصة. واقتصارها على المشاريع الاستثماريَّة التي يعجز عنه الأفراد، والعمل على توفير جو المنافسة المؤطَّرة مقاصديا، والاكتفاء برسم السياسات العامة وتكوين البنىة الأساسيَّة.
ثالثا: ربط الثقافة التعليميَّة في جميع مراحلها بأهميَّة الادخار والإنتاج والاستثمار وكيفيَّة الإنفاق والاستهلاك بما لا يضر الفرد أو الجماعة على حد سواء، ويمكن في هذا الصدد أن تلعب وسائل الإعلام دورا مهما، وتغنى بالندوات والمؤتمرات والبحوث، ومن شأن هذا أن يصرف الأنظار عن البرامج التي تضيع الوقت وتضر بالإنتاج وتعطل الشباب وتضر بالكبار والصغار.
رابعا: العمل على توحيد سعر الضريبة الواجبة لصالح الدولة وعدم تنوعها وتعددها على نفس المال الواحد، في أفق التدرج للوصول إلى نظام الإسلام المتعلق بتحصيل الموارد الماليَّة الواجبة للدولة، والتي من بينها الزكاة. والاتجاه إلى تعديل واجبات الدولة الماليَّة بما يوافق نظام الإسلام له أهميَّة كبرى تتجلى في زيادة موارد الدولة، والتخلص من التهرب الضريبي، ثم إمكانيَّة الانتقال من الواجب الكفائي إلى الواجب العيني تلقائيا بأمر من الحاكم المجتهد العادل دون حاجة إلى تشريع جديد.
خامسا: وضع الضمانات القانونيَّة الكافيَّة لحماية المنتجين المحليين من المنافسة الخارجيَّة وتأهيلهم.
سادسا: إنشاء الدوائر القضائيَّة الخاصة للنظر في القضايا التي تتعلق بالإنتاج والاستثمار.
وهذا وسوف يترتب على إغفال هذه الضمانات والضوابط كساد النشاطين الإنتاجي والاستثماري أو توقفهما كليا أو جزئيا، أو اتجاههما إلى ما يفسد على الناس حياتهم وأمنهم الاجتماعي.
خاتمة:
هكذا يتأكد أن قضيَّة المال واستثماره قضيَّة الناس كافة أفرادا ودولا ومجتمعات، قضيَّة الحاضر والمستقبل مثلما هي قضيَّة كل يوم وكل وقت وكل حين…
وما خدمت القضيَّة الماليَّة بمثل الاستثمار بمفهومه الإسلامي وبعده المقاصدي، فيظفر معه المال والإنسان بالحياة والحيويَّة، فلا تطغى سلطة المال على سلطة البشر، كما لا تطغى سلطة الإنسان بقوة المال فيستعبد البشر ويذل الرجال، وفي هذا هلاك للبشر والمال معا.