موسوعة رواد الإصلاح في مغرب القرن العشرين: أفق جديد لوطن متعدد(محمد الزموري)
أَصْدرَ “مركزُ ابنِ غازي للأبْحاثِ والدِّراساتِ الاسْتراتجية” موسُوعةَ (رواد الإصلاح في المغرب في القرن العشرين)، وهي موسوعةٌ تندرجُ في إطار التَّعريف بالتَّجارب الإِصلاحيَّة، والجُهود التي ما فَتِئتْ تُبذل للتَّجديد والتَّجاوز. وقد لا نشكُّ في المجهودِ الجبَّار الذي يقتضِيه هذا العمل المُضْني، حتَّى أنّ أكبرَ المُؤسسات الرَّسميةِ، تَنُوءُ برزْحِ مسْؤوليتِهِ الجَسيمةِ، رغم إمكانياتِها اللُّوجيستيكية الضَّخمة . ولهذا، فالموسوعةُ مشروعٌ كبيرٌ، يتوخَّى قراءة مختلف تجليات، وتمظهرات النظريات الإصلاحيّة المتنوعة، في إطارِ الفكْر الإنساني بمعناه العام .
تخترقُ هذه الموسوعة الكبرى القيِّمة من بِدايتِها إلى نهايتِها، مرحلةً مفصليةً من تاريخ المغرب الحديث، إذ تسلِّطُ الضوءَ على أعلام الفكر الاصلاحيِّ، انطلاقاً من المفهوم الواسع لكلمةِ “إصلاح”، وهي كلها ذات حمولة ( فكرية، واجتماعية، ودينية، وتاريخية، وأدبية، سوسيولوجية، سياسية،..). وهكذا، فمن أجل استيعاب جدلية الإصلاح التاريخية والخلفيات المؤطرة لتشَكُّلها، تميزتْ الموسوعة الاصلاحية، بتعدُّدِ مشارب واتِّجاهات المصلحين في مختلف تجلياتهم وتمظهراتهم، إلاَّ أنَّ هذا التَّباينَ في التوجهات والقناعات والميولات، لم تؤثر في الخيْطِ النَّاظم للكتاب، ولا في ماهيّةِ الإصلاح الذي وَجَّهَ العُلماء وُكْدَهُمْ صوبَه. ومهما كانتْ طبيعةُ المَجالاتِ المعرفيّةِ، والاختلافاتِ الثّقافية التي ينهلُ منها المصلحون، فإن روافدَهم تَصبُّ في النِّهاية في المرجِعياتِ النَّاظمةِ للإِصلاحِ في ظلِّ الأوْضاعِ التَّاريخية التي ميَّزتْ القرن العشرين.
ومن هذا المنظُور، تأتي أهَميةُ مُساهمةِ الباحثين في هذه الموْسوعةِ من قناعةٍ مفادُها، التَّساؤل عن حُدودِ الاسْتمرارِ والقطِيعةِ في ضوْء أَسْئلةِ النُّهوض العربي. فالوقوف على الفلسفة الثَّاوية وراء المبادئِ النَّاظمة للإِصْلاح في القرْنِ العِشْرين، اتَّخذَتْ عدَّةَ مسالك في إطار المُلابَساتِ التي عرفَتْها صَيرورَة مأْسَسَةِ الدَّولة بعد الخُروجِ من نيْرِ الفُلولِ الأجنبي .
ولعلَّ العودَة الجديدة في اسْتِحْضار هذه الأسماء التي وَشَمتْ الذَّاكِرة المغربية، إبَّان هذه العقود اللاغبة من القرن العشرين، هي عودةٌ لتَمْحيصِ الإشكالاتِ التي انْتَظمتْ في إطارها، ضمن وعيٍّ نقديٍّ يَقِيسُ المَسافة الفاصِلة بين الماضي والحاضِر، والأنَا والآخر، انطلاقاً من مَبْدأ المُماثلةِ والمُقايَسةِ بين الشرق والغرب. فإذا كانتْ الجهود الإصلاحية قد راكمتْ أعمالاً مُضِيئةً على امْتدادِ سنوات النِّصف الأولى من القرن العشرين، من خلال مُقارباتٍ مُسْتَندةٍ إلى تصورٍ مُعيَّنٍ في الإِصْلاح، فإنَّ طريقَ الاسْتجابةِ لتحَدّياتِ العصر ،كانت تقتضي إعادة ترتيب المداخل النظرية، للتعبير عن عمقِ وعْيِها النَّظريِّ بإشكالاتِ الإِصلاح.
ولابد من الإشارة هنا، أنَّ مجالَ وضع موسوعاتٍ للثقافة المغربية لحراسةِ الذاكرة وموروثِها، وبعثِ موضوع الهُويّة وتجديدِها، يعدُّ من بين مجالاتِ التآلِيف التي يصعبُ تصويب الجُهُود نحوَها، رغم فوائدِها المعرفية والتَّربوية، نظراً لغِيابِ المُؤسَّساتِ الدَّاعمةِ الرسمية التي يُفترضُ النهوض بها.إلاَّ أنَّ هذا لا يقلِّلُ من المحاولات التي اعتنتْ بالتأليف في هذا المجال نذكرُ من بينها على سبيل الحصر: موسوعة (التاريخ الدبلوماسي المغربي منذ أقدم العصور إلى الوقت الحاضر) للدبلوماسي الدكتور عبدالهادي التازي، والذي جاء في اثني عشر مجلدا، إذ يُعدُّ مَرْجعاً أساسيّاً لدِراسةِ تاريخِ المغرب. كما قامتْ “الجمعيَّةُ المغربية للتَّأليفِ والتَّرجمة والنَّشر” بتقديم مَوْسوعةِ (معلمة المغرب) وهي موسوعةٌ ضخمةٌ تمَّ التَّركيزُ فيها على سِيَرِ الأعلامِ والتراجم وقد جاءتْ مُرتَّبَة على حروفِ الهجاء، وقد أصْدرتْها الجمعيَّةُ بدعم من وزارة الثقافة، وقد جاءت في (27 مجلدا). كما يستدعي التفكير هنا، (موسوعة الثقافة المغربية) التي أعلنتْ عنها وزارة الثقافة من أجل توثيق معالم الثقافة المغربية، بمختلف أبعادها الثقافية والفكرية والإِبْداعيّة.
وحقيقٌ بنا أنْ نشيرَ، أنَّ الإِحاطةَ بِتراتُبيّة الظواهر الإصلاحيَّةِ وحدودِها كمنظومةٍ قيميةٍ في تعزيز الاستقلال وتحقيقِ مشروع النهوض والتقدم، قد وجدتْ صَداها في عدَّة كتابات تُقارب إشكالات وقضايا النهضة في سياق ملابسات الصراع الإيديولوجي في القرن العشرين. فقراءة المرجعيات المُؤسِّسة لنمطِ الكتابات الإصلاحيَّة، والأنماط النَّاظمة لخطاباتِها الفكريّةِ، قد تشكَّلتْ إما في سياقِ المثاقة، وهو ما أفرز منظومة مرجعية تصدر عن فكرٍ حداثيٍّ غربيٍّ (الحداثة والتحديث)، أو في سياق تاريخ الفكر السياسيِّ ذي المرجعية الإِسلامية .
وبهذا الفهم، فالاختلاطُ والتَّداخُل الذي يُعتبَرُ سمةَ الفِكْر الإصلاحيِّ هو دليلُ عَمل، ووقودُ أملٍ على راهنيَّةِ الأسئلةِ وحضُورِها، ومناسبة لامتحان الفرضيَّات في فكرنا المغربي المعاصر. لهذا التزمتْ الموسُوعةُ في أُفُقِ النَّواظِم المنهجية الكبرى على رصد الملامح والأبعاد العامة للإصلاح من منظور النصوص الحافظة للذاكرة باسْمِ الدفاع عن الذات والخصوصيَّة المغربية المحليّةِ، دون السُّقوطِ في المقاربة الانتقائيَّة والصِّبغةِ السِّجالية الإيديولوجية المُسْتعجلةِ، ودون تقيِّيدِ النَّظرِ والتفكير في نموذجٍ بعيْنِهِ، حيث يحضُر علال الفاسي إلى جانب المهدي بن بركة وعبدالله الراهيم والفقيه البصري والشيخ عبدالسلام ياسين وفريد الأنصاري إلى جانب ابراهام السرفاتي ومحمد بن العربي العلوي ومحمد المختار السوسي إلى جانب عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري، وبوشعيب الدكالي وعبدالله كنون والمكي الناصري إلى جانب عبد الكبير الخطيبي و فاطمة المرنيسي .
بهذه الإحاطةِ بحدُودِ الإِصلاحاتِ وتجَلِّياتِها، تسْمَحُ لنا الموسوعةُ بتوْسِيعِ دائرَةِ الضَّوء في الجُهودِ والأعمالِ التي سبقَتنَا من خلال اسْتِعادةِ لحظاتٍ مُشِعَّة من تاريخِنا الوطني. فإذا كانت الجهودُ الإصلاحية قد راكمَتْ أعمالاً مضيئةً على امتدادِ سنواتِ النِّصف الأولى من القرن العشرين، من خلال مُقارباتٍ مُسْتَندةٍ إلى تصوّرٍ مُعيَّنٍ في الإِصلاحِ، فإنَّ طريقَ الاسْتجابةِ لتحدِّياتِ العصْرِ ،كانت تقْتضِي إعادة ترتيبِ المداخل النَّظريةِ، للتَّعبير عن عُمْقِ وَعْيِها النَّظري بإِشكالاتِ الإِصْلاحِ من أجْلِ بِناء بدائِل متعددة .