في الحاجة إلى تحرير العقل الفقهي (مولاي المصطفى صوصي)
-1-
ليس خاف ما لموضوع الاجتهاد عموما من أهمية قصوى، ومكانة عظمى باعتباره فريضة شرعية مستمرة وضرورة واقعيّة مُلحّة، لضمان خلود الشريعة وتجددها ودوام حاكميتها؛ ونعني بالاجتهاد هُنَا الاجتهاد الكلي الذي يسعى لتنزيل كلي الشريعة على كلي الواقع من خلال تحقيق مناط كلي الشورى والعدل والإحسان، لا ما استقر في أذهان الكثيرين مِنْ مَعْنًى ضَيِّقْ، حصر مسمى الاجتهاد في إصدار الفتاوى أو إيجاد الأحكام لقضايا معينة هنا وهناك، بعقلية تقليدية غارقة في الجزئية([1]) والفردية([2]).
والاجتهاد التنزيلي على وجه الخصوص تزداد أهميته أكثر، وتتأكد ضرورته الشرعية والواقعية في هذا الوقت بالذات، الذي تداعت فيه الأصوات لتطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف المجالات والميادين، بعد ردح من الزمان ساد فيه الجمود والتعطيل مما جعل هذه الأصوات والدعاوى تَصْطَدِمُ بأسئلة الواقع الشديدة التعقيد، وبقضاياه البالغة التركيب، وتحدياته المختلفة، المتكاثرة والمتزاحمة، وأيضا في وقت برزت فيه أصوات تقول بتاريخية شريعة الإسلام، وبأن أحكامها وليدة سياق اجتماعي معين، ومن تم القول بعدم صلاحيتها لكل زمان ومكان.
بل إن الأمر يزداد خطورة عندما ترى الفتاوى والأحكام تتطاير هنا وهناك، مُشْعِرَة بخلل مركب؛ خلل في فقه النصوص ومقاصدها، وخلل وقصور في فقه الواقع بامتداداته الأفقية والعمودية (وأقصد هنا بامتدادات الواقع العمودية: الماضي والحاضر والمستقبل)، وفي فقه العلاقة بينهما، مما يورث الجهل المطبق بفقه التنزيل ويجعل من هذه الفتاوى والأحكام تسيئ إلى الشريعة وأهلها بدل أن تخدمهما، وتهدم بدل أن تبني، فهي أقرب إلى الجهل منه إلى العلم والاجتهاد؛ إذ أصحاب هذه الفتاوى إن سلمنا بحسن النوايا، ينزلون أحكاما واردة على وفق اقتضاءاتها الأصلية، أو على وفق اقتضاءات تبعية لمكان وزمان معينين غير المكان والزمان الذي نحن فيه.
ثم إن إلحاح الواقع المتحرك والصاروخي الذي يسير بأفكار لا تمت للإسلام بصلة، ولأهداف ومقاصد غير أهداف ومقاصد الإسلام؛ واقع أمعن في الشرود عن الدين، وتجاوز كل الفقه الموروث حتى أصبح مناط الأحكام فيه لا يكاد يبين؛ واقع عرف ويعرف تغيرات هائلة وتطورات سريعة في مختلف الميادين والمجالات ساهمت وتساهم في اتساع الفجوة وعمق الهوة واشتداد الجفوة بين الشريعة والواقع، لمن أهم وأخطردواعي وموجبات الاجتهاد التنزيلي العملية والواقعية.
كل هذا وغيره يدلل على أهمية موضوع الاجتهاد التنزيلي وعلو شأنه، ويظهر مَزِيَّتَهُ والحاجة الماسة إليه.
فَإِذَا وَضَحَتْ هَذِهِ الدواعي والموجبات وتَقَرَّرَتْ فَنَقُولُ: من المعلوم أن ضبط مقومات الاجتهاد التنزيلي وتحرير مسالكه وآلياته مما جادت به أنظار السابقين، واستفرغت بسببه جهود المحققين، لكنه بقي مُزَعا متفرقة ونُتفاً متناثرة في أماكن مختلفة من مدوناتهم حتى جاء من المعاصرين من أفرده وخصَّه بالتأليف والتصنيف، إلا أن هذا العمل بالرغم من قيمته وأهميته، فإنه يبقى في حاجة إلى التتميم والتكميل([3]).
-2-
بناء على ما تقدم، فإن أهم ما يجب الاعتناء به، الاجتهاد التنزيلي وعلاقته بالإسلام الجماعي الذي لا يفصل بين مصير الفرد ومصير أمته، ولا بين قضايا الأفراد وقضايا المجتمعات؛ أو لنقل ضرورة تحرير الاجتهاد التنزيلي ومعه العقل الفقهي من رِبْقَةَ الإسلام الفردي الذي استبد بالعقل الفقهي ردحا من الزمان، والذي كان ولا زال يشكل طَوْقًا في أعناق جمهرة عظيمة من علمائنا. وَبعض تَفْصِيل هذا القول الجُمَلِي في الآتي:
أولا: بخصوص تحرير القول في مسمى “الاجتهاد التنزيلي”
نشير إلى أن معظم الدارسين جعلوا الاجتهاد التنزيلي مُساوٍ للاجتهاد في تحقيق المناط ومُرَادِفٍ له، وبالرجوع إلى المدونات الأصولية، نجدها تعتبر المناط هو العلة أو مُتَعَلِّقُ الحكم، وتربطه باصطلاحات ثلاث، جاء في المستصفى تحت عنوان: [حَصْرِ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلَلِ]: “اعْلَمْ أَنَّا نَعْنِي: بِالْعِلَّةِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَنَاطَ الْحُكْمِ، أَيْ: مَا أَضَافَ الشَّرْعُ الْحُكْمَ إلَيْهِ، وَنَاطَهُ بِهِ، وَنَصَبَهُ عَلَامَةً عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي الْعِلَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، أَوْ فِي تَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، أَوْ فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ”([4]).
وقال ابن النجار: “الْمَنَاطُ“: … مَا نِيطَ بِهِ الْحُكْمُ، أَيْ عُلِّقَ بِهِ، وَهُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي الأَصْلِ…. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَالْمَنَاطُ “مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ”. وَتَنْقِيحُهُ: تَخْلِيصُهُ وَتَهْذِيبُهُ، … وَتَخْرِيجُهُ: اسْتِنْبَاطُهُ، … “وَتَحْقِيقُهُ”: “إثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ صُوَرِهَا” بِالنَّظَرِ وَالاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِهَا فِي آحَادِ الصُّوَرِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا فِي نَفْسِهَا”([5]). وهكذا فقد ظل المناط وتحقيقه سجين مبحث العلة من باب القياس بالرغم من محاولة الشاطبي وغيره تخليصه من ذلك؛ وقد عرفه بعدما قرر أنْلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي قَبُولِ الِاجْتِهَاد الْمُتَعَلِّق بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، بقوله: “وَمَعْنَاهُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِمُدْرَكِهِ الشَّرْعِيِّ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّهِ“([6]).
وهناك أيضا من جعل الاجتهاد التنزيلي مرادفا لفقه الواقع أو لفقه النوازل، ومقصودهم في الغالب الوقائع الجزئية والنوازل الفردية.
وهكذا مهما اختلفت العبارات والتعريفات سعة وضيقا فإنها تبقى رهينة النظر الجزئي والفقه الفردي والإسلام الفردي في معظمها.
وبناء عليه، ينبغي صياغة تعريف يخرج مسمى “الاجتهاد التنزيلي” من ضيق الفقه الفردي إلى سعة ورحابة الفقه الجماعي، أو لنقل الكلي.
ويتأكد هذا الأمر ثانيا، بالنظر إلى حجم التغيرات المعاصرة؛ والتي تفرض على من يرومون التصدي للاجتهاد التنزيلي، استدعاء كل علوم العصر وكل العلوم الكونية التي تسهم في فهم الواقع بامتداداته المتعددة والمختلفة، والإحاطة بها وحسن إدراكها؛ أخدا بعين الاعتبار أن الغاية الأساس من طرق باب الاجتهاد التنزيلي هي التصدي للقضايا المصيرية والكبرى، قضايا الأمة والمجتمع، والتي غمطت حقها في فقهنا الموروث، إذ الناظر في فقهنا الموروث يجد غزارة في قضايا الفقه الفردي، مقابل نزر يسير في قضايا الأمة والمجتمع؛ وهذا أمر نبه إليه غير واحد من أهل العلم والفضل، حتى قال عنه الشيخ محمد الخضري متعجبا: “ومما يقضي بالعجب أنهم اتَّخَذُوا ثَلَاثَةَ مَوْضُوعَاتٍ أَسَاسًا لِمِئَاتٍ مِنَ المَسَائِلِ التِي كَدُّوا أَذْهَانَهُمْ فِي إِبْرَازِ الجَوَابِ عَنْهَا: وَهِيَ الرَّقِيقُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، وَالزَّوْجَةُ وَطَلَاقُهَا، وَالأَيْمَانُ وَالحِنْثُ فِيهَا. فأما الرقيق فيظهر أنه كثر في أيديهم كثرة وجهت أفكارهم إلى العناية بأحكامه فلا ترى بابا من أبواب المعاملات إلا وأكثر مسائله مبنية على عبد وجارية، ترى ذلك في البيع والإجارة والشركة والرهن والوصية والعتق وغير ذلك. وأما طلاقها فقد أجهدت الفكر لعلي أصل إلى ما وجه أفكارهم إلى هذه المسائل التي وضعوها فلم أوفق، ولو كانت من المسائل التي يتصور وقوعها ولو من هذا لقلنا إنهم يهيئون للحوادث أجوبتها حتى لا يتوقف مفت أو قاض إذا سئل عنها، أما وهي مما يصعب تصور حصوله فإن العجب يزداد والأسف يشتد على زمن بذل فيها. أما الأيمان والنذور فهي بحر لا ساحل له، ترى فيه تنويعا مدهشا كأنهم استحضروا كل ما يصوره الخيال من الأيمان فذكروه وذكروا جوابه، مع أن في ذلك أشياء كثيرة جدا يختلف العرف فيها باختلاف البلاد”([7]).
وثالثا: وحتى يزداد الأمر وضوحا نقف عند قضية غاية في الأهمية، ينبغي الالتفات إليها في هذا المقام، وهي أن معظم الذين يتحدثون عن التنزيل وصلته بالاقتضاءات التبعية وبالخصوصيات وغيرها من دواعي الانتقال من الأحكام العامة المؤسسة على وفق الاقتضاءات الأصلية إلى أحكام مناسبة لما يثبت من اقتضاءات تبعية. معظمهم يتحدثون عن الحالات الفردية والجزئية. فعندما يتحدثون على سبيل المثال عن الاستطاعة ومن تنطوي عليه من ضعف أو قوة وما يتناسب معها من أحكام، فإنهم يقصدون استطاعة الأفراد التي قد تستدعي الترخيص والتيسير ورفع الحرج بحق هذا المكلف أو ذاك، لا استطاعة المجتمعات التي قد ينتابها الضعف، وقد انتابها بالفعل، والتي تستوجب أحكاما عامة ومناسبة لوضعها وحيثياتها، إذْ معنى وحقيقة “تطبيق الشريعة على الْأَنَاسِيِّ أفرادا ومجتمعات هو تنزيل أحكامها عليهم بما يتناسب مع استطاعتهم وأحوالهم ومرحلتهم … فإذا تَأَهّلوا بها وتَرَقًّت استطاعتُهم نُزِّل عليهم من الأحكام ما يتناسب معها، وهكذا يُتَرَقَّى ويُتَدرّج في تنزيل أحكام الإسلام في ضوء التدرج والارتقاء في الاستطاعة”
وهنا يمكن استحضار مسالك العلماء والاستفادة منها، بخصوص هذه القضية الدقيقة وخاصة ما ورد عنهم، في موضوع: “ما تعم به البلوى”، و”الْحَاجَةُ الْعَامَّةُ تَنْزِلُ أو تُنزَّل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ”([8]).
فاجتهادات الصحابة عموما وخاصة منهم الخلفاء الراشدين التي تأسست على اقتضاءات تبعية وتعلقت بمناطات مستجدة في حينها لم تكن كلها فردية بل كان بعضها إن لم يكن معظمها بمثابة قانون عام يسري على جميع أفراد المجتمع في حينها. فعلى سبيل المثال: تضمين المؤتمنين والصناع، فقد تقرر قانونا بعدما ضعفت النفوس وبدت الخيانة تظهر في الناس بخصوص ما اؤتمنوا عليه، فكان لا بد من علاج لهذه الحالة التي جدت.
ومن تم يمكن القول بأن اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم في زمن الخلافة الراشدة يصدق عليها وصف الاجتهاد الجماعي الشوري الصادر عن مؤسسة اجتهادية مختصة في الاجتهاد التنزيلي، كما يصدق على ما يصدر عنها من اجتهادات وصف القانون الذي يسري على الجميع فور إقراره والمصادقة عليه بعد التداول والمناقشة.
وهذا يفتح الباب مُشْرَعا للباحثين والمجتهدين للاجتهاد التنزيلي في مجالات القانون الواسعة وفقا للمنظور الإسلامي: الدستوري، التنظيمي، الإداري، المدني، الجنائي، التجاري، الدولي ….
وهذا يجري بنا إلى أمر آخر غاية في الأهمية، وهو أن الاجتهاد التنزيلي لا ينحصر في ردة الفعل فقط بل يتعداها إلى الفعل، وبيان ذلك أن البعض يربط بين فقه النوازل والاجتهاد التنزيلي، بل وقد يقرن بينهما، في حين أن الاجتهاد التنزيلي أوسع أفقا وأبعد غورا من فقه النوازل، إذ معلوم أن معظم ما توجه إليه «فقه النوازل» في تاريخنا الفقهي هـو معالجة الواقع القائم أي: «ما هـو كائن»، وهكذا ظل وما يزال الاجتهاد التنـزيلي أو «فقه النوازل» يسير خلف المجتمع؛ ليحكم على أفعاله، ويبين حكم الله فيها بمراتب الحكم المختلفة، في حين أن الوضع الأمثل والصحيح هـو في عدم الاقتصار على ذلك، وإنما التحـول للسير أيضا أمام المجتمع، بحيث يبين له خط سيره؛ وبذلك يكون أيضا دليلا توجيهيا، واستشرافيا للواقع الحاضر والمسقبل. أي الانتقال به من معالجة الواقع القائم فقط إلى توجيه الواقع الحاضر وصناعة الواقع المستقبل.
وبناء عليه فالطائفة المتصدية للاجتهاد التنزيلي لا بد لها أن تتحول من مؤخرة المجتمع إلى مقدمته، ومن موقع التبعية للمجتمع إلى مرتبة الطليعة والقيادة.
وجملة القول وجماعه هو أن طرق باب الاجتهاد التنزيلي وتحرير القول في أصوله وقواعده وضوابطه وشروطه و مناصبه ومتعلقاته، يستوجب معه العمل على تحريره من عقال الفقه الفردي والإسلام الفردي ونقله إلى فضاء الفقه الكلي والإسلام الجماعي، وأيضا تحريره من موقع التبعية للواقع النازل إلى مرتبة التوجيه والصناعة للواقع الحاضر والمستقبل. وبذلك نرفعه إلى المكانة والمنزلة التي يستحقها ونمكنه من أداء الوظائف والأدوار المنوطة به.
([1]) نسبةً إلى النظر الجزئي الغافل عن النظر الكلي.
([2]) نسبةً إلى الفقه الفردي والإسلام الفردي الذي يتعاطى قضايا الأفراد بمعزل عن قضايا المجتمع.
([3]) أنوه هنا بالعملين المتميزين لكل من: د. عبد الصمد المساتي وكتابه الموسوم بـ: “الاجتهاد التنزيلي والتغيرات المعاصرة: دراسة نظرية ونماذج تطبيقية”، ود. عبد الحليم بن محمد أيت أمجوض وكتابه: “فقه التنزيل وقواعده وتطبيقاته”.
([4]) المستصفى، لأبي حامد الغزالي (تـ: 505هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1413هـ – 1993م: 1/281.
([5]) شرح الكوكب المنير، لابن النجار (تـ: 972هـ)، المحقق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، الناشر: مكتبة العبيكان، الطبعة: الطبعة الثانية 1418هـ – 1997 مـ: 4/199 – 200
([6])الموافقات، للإمام الشاطبي (تـ: 790هـ)، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م: 5/12.
([7]) تاريخ التشريع الإسلامي: 273- 274.
([8]) البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين عبد الملك الجويني (تـ: 478هـ)، المحقق: صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة: الطبعة الأولى 1418 هـ – 1997 م: 2/82.