ما معنى الفلسفة إذا لم تساهم أحيانا في فهم قضايا المصير الإنساني ومناقشة قضايا الحياة والموت؟ طرحت على نفسي هذه الأسئلة بعد أن تلقيت خلال نهاية الأسبوع نبأ وفاة آخر عمَّةٍ على قيد الحياة. تذكّرت في حينها قصيدة عبد الرّفيع الجواهري “راحلة” وتذكَّرتُ غروبَ الشّمسِ كنايةً عن رحيلِ الحبيبِ. نحن نعلم يقينا أنّنا راحلون يوماً ما إلى حيثُ هُمْ؛ ولا عودة للرّاحلِ إلى حيثُ نحنُ. تستمدُّ استعارةُ الرّحيلِ، كما تظهرُ في غيابِ الحبيب وغُروبِ الشَّمسِ، قوتَها التراجيديةَ من فكرةِ الرَّحيلِ إلى حيث هُم، دونما عودةٍ إلى حيثُ نحْنُ. ولكنَّ الشَّمسَ الرّاحلةَ تعودُ في اليومِ الموالي؛ وبعد غروبِ الشّمسِ يظهرُ لها شروقٌ جديدٌ؛ وما يُشرقُ في الحقيقةِ لا يَغرُبُ. ما دامت الشمسُ تشرقُ في الغدِ لا نعتبرُ غروبها في الحقيقة “رحيلا” لأنها تعود من جديدٍ كما يعود “القمر الأحمرِ” في مخيلة الشاعر عبد الرفيع الجوهري، ويعودُ الحبيبُ في أفئدةِ الأحبّةِ.
كذلك تشرق شمس الأحبةِ في قلوبنا. لا تشرق بنورها ولكن بفيض المحبّةِ الذي يفيضُ على كلِّ من عاشرَهم. هكذا فهمت نظريّةَ الفيض من زاويةِ فيضِ المعاني الأخلاقيّةِ وليس من زاويةِ فيضِ الموجوداتِ الأفلوطينيةِ. تفيضُ محبُّةُ بعضِ الناسِ على غيرهم دون تمييز فيما بينهم ودون اعتبارٍ آخرَ غير فيضِ المحبّةِ، فضلاً منهم ومَنّاً، وليس مقايضةً ولا تبادُلاً.
يبدو كلامي أحياناً غارقاً في مسحةٍ صوفيّةٍ؛ ولكنَّ الأمرَ غيرُ ذلكَ، لأنَّ الحياةَ الإنسانيةِ تقوم من الزاوية الأخلاقيّةِ على العطاء أكثر ممّا تقوم على الأخذ وعلى الهبة أكثر ممّا تقومُ على الاستفادةِ. لا أتوقع أنَّ الأستاذ يقول لتلامذته في القسم: “أنا سأعلمكم على قدر الراتب ” ولن يقول الطبيبُ للمريضِ: “أنا أعالجك على قدر التعويض المادي.” لا بد أن يحرص الأخير على أجرةٍ منصفةٍ والطبيب على تعويض مناسبٍ والأستاذ على راتبٍ عادلٍ، ولكنَّ خدمات كلِّ هؤلاء تتجاوز في فوائدها ما يقابلها من تعويضاتٍ، لأنّها تعود في منفعتها على كل الناس “من حيثُ لا نحتسبُ”. لا توجد علاقةُ تكافؤٍ بين الخدمات والتعويضات، بنفسِ القدر الذي لا يعتبر فيه تبادلُ الهدايا مقايضةً ولا تبادلُ المحبةِ سذاجةً ولا تبادل المجاملاتِ نفاقاً اجتماعيّاً.
تذكرت أفعالَ الفضلِ هذه – أو ما يُدعى في فلسفة الأخلاق les actes supererogatifs- لأنها جزءٌ من منظومةٍ أخلاقيةٍ تتجاوزُ المعادلةَ الحسابيةَ بين ردِّ الجميلِ على قدر الجميلِ وبين العمل على قدر العطاء.
تذكرتُ أفعالَ الفضل هذه بعد تلقي نعي عمّتي، فهي لم تكن طبيبةً ولا أستاذةً ولكنّها كانت تفيضُ بحبِّها على كلِّ من عاشرها، فيَفيضُ قلبُ كلِّ من عاشرها بنفس الحبِّ. وكلُّ من يتذكر الراحلين من بين الأهل والأصدقاء والزملاءِ، يتذكر ذلكَ الفيض من الحبِّ الذي ينتقل إلى الأجيال الجديدةِ.
ينعكس هذا الفيضُ الذي يتشرّبه الإنسانُ في صغره على حياته الشخصية والمهنيّةِ في كبره. بطبيعةِ الحال، نميلُ أحياناً إلى التعامل حسابيّاً مع الآخرين، وقد نبالغ في الحرص على تقدير نسبة الرِّبح والخسارةِ، ولكنَّ ذلك لا يتعارضُ بكلِّ وضوحٍ مع الميل إلى مزيد من العطاءِ، لأن هذا سلزك طبيعيٌّ في الإنسان الذي تلقى فيضا من الحبِّ داخل الأسرة والعائلة وبين الأصدقاءِ. ولذلك لا نتحسَّرُ فقط على الشمس الراحلة، بل نحنُّ كذلك إلى فيض المحبةِ عند إشراقة كلِّ شمسٍ جديدةٍ بعد رحيل الأحبابِ.