التحول السياسي في شمال إفريقيا ثقل التاريخ وتحديات التوازنات الدولية (حالتا تونس وليبيا) (محمد باسك منار)_2_
2_ التأثير الدولي في تحولات شمال إفريقيا على إثر الربيع العربي
تأكد مع البدايات الأولى للربيع العربي في منطقة شمال إفريقيا تجاوز الكثير من المؤسسات السياسية الموجودة؛ من حكومات وبرلمانات وأحزاب سياسية وغيرها، إذ اتضح أن هذه المؤسسات غير قادرة على استيعاب موجة الاحتجاج الشعبي ومسايرتها؛ لا على مستوى المطالب المرفوعة ولا على مستوى الأشكال وسرعة التفاعل، بل شكلت تلك المؤسسات في رأي المنتفضين جزءا من المشكل وليس جزءا من الحل، إلا أن هذا الموقف الموحد من مؤسسات ما قبل الحراك اختلفت درجة التمسك به، كما اختلفت درجة تفعيله، من بلد إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى، وذلك ارتباطا بمسارات التحول، التي طبعها التنوع.
2-1 تنوع مسارات التحول:
تشابهت منطلقات وشعارات الحراك، الذي عرفته مجموعة من الدول العربية بشكل عام ابتداء من آواخر سنة 2010، كما تشابهت أشكاله وأساليبه، لكن اختلفت مع ذلك مساراته ومآلاته البادية إلى حدود الساعة؛ نظرا لاختلاف في بعض العوامل الداخلية والخارجية، خاصة ما يتعلق منها بمدى نضج قائدي الحراك ويقظتهم، ومدى انخراط الشعب و القوى السياسية والمدنية، وموقف الجيش، وكيفية تعامل النظام. وكان للعامل الخارجي، سواء الدولي أو الإقليمي، أثر في مسارات التحول، بل كان له تأثير سلبي واضح في مآلات الفوضى والاضطراب التي عرفتها بعض البلدان العربية، لا سيما سوريا واليمن وليبيا. هذه الدول التي تحولت إلى ساحات للصراع بالوكالة بين قوى دولية وإقليمية.
لم تكن منطقة شمال إفريقيا بعيدة عن ذلك، فهي مهد الحراك، الذي انطلق من تونس يوم 27 دجنبر 2010 عندما أحرق الشاب البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد. كان ذلك بداية انفجار الغضب الذي تصاعد وانتشر في غضون أيام قليلة، ليضطر بن علي للهروب في أقل من شهر، ولينتقل الحراك، وبمحاكاة نفس الشعارات والمطالب، إلى دول عربية أخرى، محدثا رجات غير مسبوقة، تسببت في سقوط أربع حكام عرب، ثلاثة منهم في شمال إفريقيا بتعريفها الواسع.
انطلق الربيع العربي بتونس، وانتقل بسرعة قصوى إلى دول عربية أخرى، في مقدمتها المغرب وليبيا من شمال إفريقيا، وساعد على ذلك حسن استثمار وسائل الاتصال الحديثة، خاصة الأنترنت، بما نقلته من مشاهد حية عبر “اليوتوب” و”الفيسبوك” وغيرهما، وأسهمت في ذلك أيضا بعض القنوات الإعلامية، خاصة قناة الجزيرة. ويبقى العامل الأساس في تمدد الحراك مغاربيا، بل وعربيا، هو التشابه الكبير، ليس فقط على مستوى الهوية العربية الإسلامية، ولكن أيضا على مستوى أوضاع الاستبداد والفساد. فنظام بن علي كان نظاما مستبدا، و”لم يكن ضحاياه فقط من الشباب، ولا من سكان المناطق الداخلية للبلاد فحسب، فكل الفئات المجتمعية والمهنية تضررت بدرجات مختلفة من النظام “المافيوي” لبن علي، سواء تجار أو رجال أعمال، أو أصحاب مهن حرة أو فلاحين، رجالا أو نساء، شبابا أو كهولا، كلهم كانو يعانون تبعات نظام استبدادي وابتزازي وظف جهاز الدولة والحزب لأغراضه وأغراض بطانته”[1]، وكذلك كان الحال في باقي دول المنطقة مع بعض الفروق المرتبطة بطبيعة النظام السياسي، وببعض وسائل الاشتغال. ففي الوقت الذي كان يعتمد فيه بن علي مثلا على حزبه وعلى الولاءات العائلية للتمكين لدولته البوليسية وللاستحواذ على الثروة، كان القذافي يعتمد على ميليشيات من المرتزقة وعلى ولاءات قبلية لترسيخ حكمه الفردي. وفي الوقت الذي كان يتغنى فيه طاغية تونس بشعارات ليبرالية لإخفاء ما تقوم به بطانته من نهب للمال العام[2]، كان مستبد ليبيا يستعمل فكرة “سيادة الشعب” لتكريس استبداده، رافعا شعار تطبيق “الديمقراطية المباشرة” من خلال المؤتمرات و اللجان الشعبية الموالية له.
وقد انضاف إلى التشابه على مستوى الهوية والأسباب الداعية للحراك، تشابه آخر على مستوى الفاعل الأول فيه، الذي هو الشباب، فعند انطلاق الربيع العربي كان 42 في المائة من التونسيين دون 25 سنة[3]، وكان نحو 65 في المائة من السكان في ليبيا تقل أعمارهم عن 40 سنة[4]. وقد تميّز هذا الشباب بالشجاعة والحماس الزائد، كما تميّز بحسن استعمال وسائل الاتصال الحديثة.
هذا التشابه العام على مستوى أسباب الانتفاض وفعالية الشباب وحسن استثمار التكنولوجيا الحديثة، وعلى مستوى الشعارات والمطالب ذات المنحى الديمقراطي، لا ينفي وجود فروق، بعضها أساسي وبعضها ثانوي، كان لها أثر واضح على تنوع مسارات التحول بمنطقة شمال إفريقيا. إذ أن الحالة التونسية مثلا تختلف عن الحالة الليبية في مجموعة من الخصائص، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: ظلت تونس دولة مركزية، وعرفت أول دستور سنة 1861، وعرفت محاولات إصلاحية وتحديثية، كان من أبرزها محاولة خير الدين التونسي (1820- 1890)، الذي وصفه بعض المؤرخين بمؤسس “الدولة الحديثة” بتونس. كل هذا أسهم في وجود نوع من الثقافة المدنية لدى فئات عريضة من الشعب التونسي، وتعزز ذلك بالانفتاح الدائم على الثقافة الغربية. وقد انعكس ذلك على الحراك، خاصة بعد مركزته في العاصمة تونس بعد حوالي أسبوعين من انطلاقه، في حين شككت بعض الدراسات في وجود هوية ليبية جامعة قبل الاستقلال[5]، فدولة ليبيا أحدثت بترتيبات أممية، بشكل أو آخر[6]، إذ قام الاستعمار الإيطالي بجمع ثلاثة أقاليم كانت خاضعة للحكم العثماني (برقة وطرابلس وفزّان) في كيان واحد، وبعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية حضرت التوازنات الدولية مرة أخرى من خلال تقديم مشروع للجمعية العامة للأمم المتحدة، يقضي ببقاء برقة تحت الوصاية البريطانية، وفزّان تحت وصاية فرنسا، وطرابلس تحت وصاية إيطاليا، لكن تمت معارضة هذا المشروع من قبل بعض الدول منها الاتحاد السوفياتي، ليتم إقرار استقلال ليبيا من قبل الأمم المتحدة في دجنبر 1951. إنه التأثير الواضح للتوازنات الدولية على النشأة القانونية لدولة ليبيا التي خضعت منذ ذلك الحين لنظام حكم ملكي فيدرالي، ولم تتم مركزتها إلا بعد سنة 1963، ومع ذلك ظلت هناك اختلافات وتقاطبات تخترق ليبيا، خاصة بين غرب البلاد وشرقها (بنغازي وطرابلس)، وتكرّس ذلك بتوظيف القذافي للبعد القبلي والعشائري، بعيدا عن كل متطلبات الثقافة المدنية، وهذا ما انعكس على الثورة، إذ نشأت في كل منطقة تشكيلات ثورية مدنية وعسكرية مستقلة عن غيرها من التشكيلات، وأصبحت الثورة سلسلة من الانتفاضات المحلية[7]، وتفاقم ذلك من خلال صراعات مسلحة مدعومة إقليميا ودوليا، كان لها ولا يزال أسوا الأثر على ليبيا.
ثانيا: كان في تونس، بالإضافة إلى فاعلي الحراك غير المنظمين، فاعلون منظمون تمثلوا أساسا في الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي قام بدور مهم في مسار الحراك، بالإضافة إلى انخراط محامين وقضاة وبعض الناشطين على المستوى الحقوقي والمدني والسياسي، وقد توج ذلك، سنة 2013، بتشكيل اللجنة الرباعية، التي فازت بجائزة نوبل للسلام[8]، وذلك على عكس الحالة الليبية التي كانت تعرف فراغا تنظيميا، سواء على المستوى السياسي أو النقابي أو المدني.
ثالثا: عرفت تونس وجود معارضة منظمة، تمثلت أساسا في حركة النهضة ورابطة حقوق الإنسان وبعض الأحزاب والمجموعات السياسية الصغيرة. ورغم أن بطش نظام بن علي حد من فاعليتها في الداخل التونسي إلى أبعد الحدود، فإن ذلك لم يمنع من تحقيق تقارب بينها، خاصة على مستوى قيادات الخارج، كما لم يمنع من إجراء حوارات سابقة عن الثورة، كان لها أثر إيجابي على مسار ما بعد الثورة، في حين ظلت المعارضة الليبية مطبوعة بالطابع الشخصي، أكثر من الطابع التنظيمي. ولم تتمكن، رغم بعض المحاولات، من تحقيق توافقات مؤثرة على مسار الحراك.
رابعا: التزم الجيش في تونس الحياد بداية، قبل أن يصبح مؤيدا للثورة، مما اضطر بن علي إلى الرحيل، في حين عرفت الثورة الليبية تأييد بعض أطر الجيش لها، دون أن يكون لذلك كبير أثر؛ بسب ما كان يعانيه الجيش الليبي من تهميش وهشاشة. وفي المقابل اعتمد القذافي على الكتائب الأمنية واللجان الثورية، التي كانت لها القوة في الميدان، مما فسح مسار الثورة لتدخل عسكري، انطلاقا من قرار مجلس الأمن رقم 1973.
كانت هذه بعض الاختلافات الأساسية التي انعكست على مسار الثورتين التونسية والليبية. ففي تونس تم التأسيس للبناء المؤسساتي من خلال إجراء انتخابات تأسيسية ورئاسية وتشريعية ومحلية، ومن خلال التوافق على دستور ديمقراطي، وإحداث مجموعة من المؤسسات الدستورية والسياسية، في جو من الاستقرار العام[9]، رغم بعض أحداث العنف التي ظهرت من حين لآخر، ورغم استمرار بعض التحديات المتعلقة أساسا باستمرار الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية. أما في ليبيا فلا يزال هناك تعثر واضح في البناء الدستوري والمؤسساتي بسبب تهديد العنف الداخلي، الذي كرسته الولاءات المحلية والعشائرية، وأذكته الارتباطات الدولية والإقليمية.
2-2 التأثير الدولي في مسارات التحول
لقد أسهم الجيش التونسي بالتزامه الحياد في سلمية الحراك مما زاده زخما وتأثيرا. وقد تباينت الرؤى في تفسير ذلك الموقف؛ فهناك من ربطه بتضرر بعض قادة الجيش أنفسهم من بطانة بن علي، وهناك من رأى في ذلك مجرد محاولة لامتصاص غضب الشعب، قبل أن تتطور الأمور إلى ما تطورت إليه. وذهب آخرون إلى أن حياد الجيش بتونس وعدم قمعه للمتظاهرين لم يكن اختيارا ذاتيا محضا، وإنما كان بتوجيه خارجي. يقول أحد الباحثين في هذا الصدد: “برغم أن الانطباع العام هو أن الثوار هم من فرضوا طابع السلمية، لكن هذا الطابع لم يكن فقط مفروضا من جهة واحدة، يعني لو لم تكن هناك نصيحة أمريكية أشك في أن يكون التغيير سلميا بتونس”[10]. يؤكد هذا الرأي الأخير ما ذهب إليه الصحفي الفرنسي “تيري ميصان” بقوله: ” أن الجنرال عمار رفض أوامر بن علي في إطلاق الرصاص على المحتجين، وأبلغه أن الجنرال “وليام وارد” قائد “الأفركوم” يأمره بالهروب حالا”[11]. لا شك أن هذا التوجيه بعدم استعمال العنف ضد المحتجين، إذا صح، وبغض النظر عن ما يحكمه من نوايا، شكل فرصة مهمة لاستمرار سلمية الاحتجاج الذي أدى إلى إسقاط بن علي، كما شكلت العمليات العسكرية الجوية التي قام بها حلف الناتو، استنادا إلى قرار مجلس الأمن رقم 1973، فرصة مهمة لترجيح كفة الثوار على كفة ميليشيات القذافي، الذي قُتل في 20 أكتوبر 2011. فرصتان مهمتان، سبقتهما تسريبات “ويكليكس” التي كشفت فضائح بن علي والقذافي وأججت الغضب الشعبي عليهما، لا شك أن مثل تلك الفرص قد تحمل بين طياتها بعض التهديدات، خاصة على المدى البعيد، لكنها تؤكد تأثير العوامل الخارجية في مسارات الأحداث، خاصة في بعض اللحظات الفارقة، دون أن ينقص ذلك من أهمية العوامل الداخلية وأولويتها.
تذهب الكثير من الدراسات والبحوث أن العالم الغربي، بشقيه الرسمي وغير الرسمي، فاجأته أحداث الربيع العربي، لكن ذلك لا ينفي محاولة تأقلمه السريع مع مجريات التحول، من خلال مجموعة من الاختيارات والمواقف، كان اتجاهها البارز، بعد اتضاح قوة الحراك واستمراره، التحكم فيما يقع في العالم العربي من تغيير وليس معارضته. ففي شهادة ل “سكوت كاربنتر”، الباحث في معهد واشنطن، أمام “اللجنة الفرعية حول الشرق الأوسط وجنوب آسيا” التابعة لـ “لجنة الشؤون الخارجية” في الكونغرس الأمريكي حول التحولات السياسية في الشرق الأوسط.، تم إقرار تآكل حيوية الحلفاء التقليديين من النخب الحاكمة، كما تم التأكيد على أن في الربيع العربي ما تحتفي به الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مما تخشاه، وأن المصلحة تقتضي التحكم في التغيير وليس إيقافه[12]. و ذهب إلى قريب من ذلك مسؤولون بارزون في الاتحاد الأوروبي، مثل مفوض شؤون التوسع وسياسة الجوار الأوروبية، “ستيفان فول “، الذي قال بعدم “تكرار أخطاء الماضي من الآن فصاعدا، وخاصة التعاون الواقعي غير المشروط مع الأنظمة الاستبدادية”[13].
وانطلاقا من ذلك، شرعت القوى الدولية في تنافس بخصوص إعلان مواقف مؤيدة وبرامج داعمة لثورات الربيع العربي؛ فقد عبر مسؤولون أمريكيون زارو تونس بعد الثورة، من أمثال “جيفري فلتمان” كاتب الدولة المساعد للشرق الأوسط[14]، و”جون ماك كين” وجوزف ليبرمان” عضوا مجلس الشيوخ[15]، استعداد بلدهم لدعم تونس سياسيا واقتصاديا. وبعد أن كان الاتحاد الأوربي عند انطلاق الاحتجاج يدعو كل الأطراف في تونس لضبط النفس، عبرت فيما بعد “كاترين أشتون” الممثلة العليا لدبلوماسية الاتحاد عن دعم أوروبا للآمال الديمقراطية للتونسيين[16]. وفي 8 مارس 2011 صدر بيان عن الاتحاد الأوروبي اعتبر الأحداث الجارية في “الجوار الجنوبي” تحمل أبعادا تاريخية، واعتبر أن من واجبه دعم الشعوب في اتجاه تكريس القيم المشتركة من ديمقراطية وحقوق الإنسان وعدالة اجتماعية وحكامة جيدة وحكم القانون، وأشار إلى مقاربة “المزيد من أجل المزيد”؛ أي أن نهج المزيد من الإصلاح يقتضي المزيد من الدعم الأوروبي، وأكد الاتحاد الأوروبي على اتخاذ مجموعة من المبادرات والشراكات الاقتصادية والاجتماعية في إطار رؤية تحكمها ثلاثة أبعاد: المال والتنقل والسوق (Money, Mobility, Market). وعلى الصعيد السياسي أعلن الاتحاد الأوروبي أنه “لا يسعى إلى فرض نموذج أو وصفة جاهزة للإصلاح السياسي”، واقترح وسيلتين لإشراك الشعوب في دينامية التحول الديمقراطي: مرفق المجتمع المدني والصندوق الأوروبي للديمقراطية. وأصبحت تونس بالنسبة إلى أوروبا نموذجا عن بلد التحول في العالم العربي، كما كانت نموذج الشريك لأوروبا خلال حكم بن علي. لكن يبدو أن هناك فرق شاسع بين ما يعلنه الاتحاد الأوربي في بياناته، وما يكون لذلك من تأثير في الواقع، خاصة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، إذ على الرغم من استفادة تونس أكثر من أي بلد متوسطي آخر في الجوار الجنوبي من برنامج الاتحاد الأوروبي “لدعم الشراكة والصلاح والنمو الشامل”، الذي صدر في شتنبر 2011، فإن ذلك الدعم لم يركز كثيرا، في نهاية المطاف، على إحداث تأثير في الأولويات الاقتصادية، وعلى الرغم من البيانات والخطابات الحماسية، فإن الأموال المتوفرة ظلت ضئيلة أو متواضعة[17]. كما أن تأييد بعض المسؤولين الأمريكيين لموجة الربيع العربي لم يدم طويلا، إذ سرعان ما ساد توجه أمريكي رسمي يعارض التحول في المنطقة العربية، خاصة بعد أن تأكد أن هذا التحول قد يحمل الإسلاميين إلى دفة الحكم.
وكان لفرنسا، ولا يزال، بحكم تاريخها الاستعماري في شمال إفريقيا التأثير السياسي البارز في مسارات ما بعد الربيع العربي بالمنطقة. وبعد أن ظلت إلى أخر لحظة مدافعة عن طاغية تونس اضطرت لتغيير موقفها بعد 14 يناير 2011، لتعلن تأييدها للثورة التونسية، ورفضها استقبال أفراد من عائلة بن علي. كما قدمت أمولا ونصحا لأحزاب سياسية معروفة في تونس أثناء الحملة الانتخابية للمجلس التأسيسي[18]، وكان لها تأثير واضح في مرحلة ما بعد الرئيس المرزوقي من خلال دعمها للتقارب والتفاهم بين راشد الغنوشي وقائد السبسي. ورغم أن الرئيس السابق لفرنسا “ساركوزي” كانت تربطه علاقات مادية مشبوهة بالقذافي[19]، فإنه كان من المتحمسين للإطاحة به، سواء من خلال دعوته له بالرحيل في 25 فبراير 2011، أو من خلال مشاركة فرنسا بحماس زائد في عمليات الناتو.
و لم يبرز الفاعل الإقليمي عند بداية الثورة في تونس، ولكن ظهر متأخرا في سياق احتواء امتدادات الربيع العربي، أما في ليبيا فقد كان هناك تأثير إقليمي واضح منذ انطلاق الثورة؛ ففي 7 مارس 2011 دعا وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي مجلس الأمن لفرض منطقة حظر للطيران فوق ليبيا لحماية الليبيين من القصف الجوي لكتائب القذافي، وصدر قرار من الجامعة العربية يُطالب مجلس الأمن الدولي بذلك، وسارعت قطر إلى الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلا شرعيا وحيدا لليبيا، كما شاركت في مؤتمر لندن بتاريخ 17 أبريل 2011، الذي ضم وزراء خارجية 40 دولة، من أجل بحث كيفية حماية الشعب الليبي ومساعدته. وعلى المستوى العسكري شاركت طائرات من قطر(أربع مقاتلات) والإمارات (6 طائرات إف- 16 و6 طائرات ميراج) والسعودية (طائرة من طراز “أواكس” وأخرى للتزود بالوقود) في التحالف الدولي ضد نظام القذافي[20]. ولا شك أن الثروة البترولية الضخمة، التي يقدر احتياطها المؤكد بحوالي 36 مليار برميل، واحتياطها غير المؤكد بحوالي 100 مليار برميل[21]، من أهم أسباب الحضور الدولي والإقليمي في ليبيا منذ البداية. كما أن من الأسباب تلك الخلافات بين القذافي وبين حكام بعض الدول، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي[22]. ورغم إعلان إنهاء عمليات حلف الناتو بعد تحرير كل التراب الليبي فقد استمر الحضور الدولي والإقليمي بليبيا، بأشكال مختلفة؛ من أهمها الحضور الأمني والاستخبارتي. ومن جهة أخرى، شكل استمرار الغموض بشأن “من هي الكفة الراجحة في موازين القوى الداخلية، والفوضى الناشرة ظلالها على مؤسسات ومفاصل الدولة، وتشظيات الساحة السياسية، عوائق ملموسة في وجه دعم خارجي أشد فاعلية. وبفعل تسييس الوحدات العسكرية والمؤسسات المختلفة، صارت المساعدة الأجنبية للقطاع الأمني أمرا يعرف تعقيدات جمة”[23]. ونظرا لحالة الفوضى تلك فضلت بعض الدول إهمال التعاون مع ليبيا، كما هو حال ألمانيا، التي تكثف من برامج دعمها للمنطقة، خاصة ما يرتبط بالبحث العلمي وتأهيل المجتمع المدني. وفي كثير من الأحيان، وباستثناء بعض الجهود المحدودة لبعثة الأمم المتحدة، لم يتم صرف الجهد الدولي والإقليمي في البناء المؤسساتي للدولة وإنشاء هياكل وأطر تُسهم في حل وتسوية النزاعات السياسية بين القوى الليبية؛ وإنما تم صرفه أكثر في دعم فاعلين محليين متنازعين بالسلاح، مما شكل تهديدا حقيقيا للتحول الديمقراطي بليبيا، التي لم تبرح بعد 9 سنوات عن الثورة وصف الدولة “المنهارة” أو “الفاشلة”، في الوقت الذي تعرف فيه تونس نوعا من التحول السياسي البطيء وغير اليقيني في اتجاهه الديمقراطي، وبينهما تعرف باقي دول المنطقة استمرارا لسلطوية ما قبل الربيع العربي. لتبقى الحاجة ملحة للتأسيس لتحول ديمقراطي، بكل تأكيد لا يتوقف على عوامل داخلية فقط، وإنما يتأثر بتوازنات دولية، ينبغي إخضاعها للحساب الموضوعي.