-5-
النظرية المقاصدية عند الشاطبي نظرية مصلحية أخلاقية
مقاصد الشريعة عند الشاطبي عمل عقلي في غاية التركيز ونظرية منهجية تسعى إلى فهم النص التشريعي وتفعيل أحكامه من أجل مجتمع أخلاقي يجسد بسلوكه أخلاق القرآن وقيمه ، وفي هذا السياق أماطت اللثام عن وسائل الفهم ومقتضيات التفعيل، فعمدت إلى بناء الاجتهاد -باعتباره وسيلة النص المتناهي لمعالجة المتغيرات الزمانية والمكانية اللامتناهية- وفق مرتكز أساسي تمثل في تحقيق المصلحة، يقول الإمام الشاطبي “إن وضع الشرائع إنما هو لصالح العباد في العاجل والآجل معا”([1])، ويقول أيضا “إنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء ولا ينازع فيه الرازي ولا غيره”([2]).
لقد جعل مدار المقاصد العامة والخاصة، الكلية والجزئية، للشريعة هو تحقيق المصالح الشرعية، فهي ليست تصورا نظريا معزولا عن السلوك، بل هو منهج يؤطر الحياة الإنسانية دل عليه الاستقراء، وهي مصالح معتبرة شرعا ومعقولة بحسب وسائل الإدراك الطبيعية وبحسب منطق الأمية الفطرية([3]) التي تعي الصلاح والفساد في إطار الخطاب الشرعي، وليس النزوات والأهواء، فالمصالح “المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى”([4]).
وإدراك هذه المصالح يقتضي الجمع بين معطيات النص ومقتضيات العقل، فالأول أحال استقراء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد، والثاني أدرك أن العدل والحب والرحمة هي من معاني الصلاح وليس الفساد؛ وهذا إدراك عقلي مشترك عام، فالناس “في الفهم وتأتي التكليف ليسوا على وزن واحد ولا متقارب، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم مالا يخل بمقاصدهم”([5]).
هو نفسه الإدراك العقلي الذي أبان عنه الإمام العز بن عبد السلام قبل ذلك، فأكد أن “معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن”([6])، ذلك أن إدراك التراتبية الاختيارية بين الصلاح والأصلح والفساد والأفسد مركوز في طبائع العباد، لا يخل بها إلا شقي أو جاهل([7]).
إن الشاطبي بإدماجه (نظرية الصلاح) -العبارة للدكتور طه عبد الرحمان([8])– في النسق الأصولي عامة ومقاصد الشريعة على وجه الخصوص، قد أحال على وجه من وجوه الانشغال الأخلاقي، إذ كل بناء يروم تحقيق هذه المصالح إنما هو إجابة عن عناصر السؤال الأخلاقي.
وهي من جهة الخطاب الشرعي مصالح محضة لا تخالطها مفسدة، والمفاسد فيها كذلك محضة، لأن الشريعة ما جاءت إلا لمصالح العباد، وهي مصالح يمتد صلاحها في الدنيا والآخرة، خاضعة لمراد الشارع لا لأهواء المكلف؛ إذ تخرجه عن داعية هواه وتعتد بالفعل الخاضع للشرع وليس الخاضع للهوى، حتى لو كان موافقا لصورة الفعل المطلوب شرعا.
أما المصالح الدنيوية الخالصة والتي عدها العز بن عبد السلام: عزيزة الوجود([9])، وهي عند أبي إسحاق مستحيلة لا تتمحض، “ذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك”([10]).
هي تداخل للمصالح والمفاسد، لأنها “مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها، كالأكل والشرب، واللبس، والسكنى… فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب”([11]).
ثم إن المصالح التي هي في حكم العادة الطبيعية على ضربين هما:
- ما لا يناقض المنطق وداخلة في وسع الإدراك الإنساني، فهي عائدة إلى حكم العادة الذي تغلب فيه المصالح على المفاسد.
- ما يفوق القدرة الإنسانية، فتؤول فيه المصالح إلى مفاسد، وهي “تجري مجرى المصالح الشرعية عند رجحانها، لأنها المقصودة شرعا إذا كانت الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد”([12]).
والخلاصة أن ضوابط المصلحة عند الشاطبي من جهة مقاصد الخطاب الشرعي، ومن جهة التفعيل المقاصدي لمقتضيات هذا الخطاب، أن لا تناقض الكليات العامة للشريعة الإسلامية ، وأن توافق دلائل العقل السليم المركوزة في الإنسان بما بث فيه من قدرة على الإدراك، وموافقة لمراد الشارع من التشريع ومحققة لمآلات معتبرة، داخلة في قدرة المكلف ورافعة للحرج والمشقة اللذين يتنافيان مع مسلمة كون الشارع إنما قصد مصالح العباد في العاجل والآجل، وإلا استحال دخول المكلف تحتها.
هذا الضابط الأخير دل عليه تشريع الرخص، إذ لو كانت الأحكام كلها عزائم لانتهت المصالح المقصودة إلى ضرب من المفاسد، قال الشاطبي: “العزائم حق الله على العباد، والرخص حق العباد من لطف الله؛ فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب، من حيث كانا معا توسعة على العبد، ورفع حرج عنه وإثباتا لحظه”([13]).
فالرخص جانب من جوانب مراعات الإمكان البشري والتكليف بما يطاق، أعطت للأحكام الشرعية بعدها الإنساني، فالعزيمة “من حيث كانت كلية، هي مقصودة للشارع بالقصد الأول، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية، إن قصده الشارع بالرخصة فمن جهة القصد الثاني، والله المستعان” ([14]).
إن ما ذكر آنفا شكل دعامة أساسية انطلق منها السؤال الأخلاقي باحثا عن أجوبة ذات نسقية معرفية أصيلة، فالعزائم التي هي حق الله على العباد تمثل مجموع النظم والقيم الأخلاقية المؤطرة، والرخص التي هي لطف الله تمثل آليات وسبل التنزيل العملي لهذه القيم، أضف إلى ذلك تطابق النظرية المقاصدية والنظرية الأخلاقية في تحقيق المصالح ودرء المفاسد التي يحددها الشرع لا الهوى.
هو اهتمام مشترك إذن بين النظريتين، ودعامة لهما تمثلت في المصلحة التي أدمجها الشاطبي في بنية الفعل التكليفي حالا ومآلا مع بعض الاختلافات المنهجية استدعتها طبيعة السؤال وطبيعة الجواب.
لقد نبه طه عبد الرحمان إلى أهمية المادة المقاصدية عند الشاطبي في بناء التصور الأخلاقي الإسلامي، مبينا أن “المصلحة ليست اسم ذات متحيزة، وإنما هو اسم معنى مجرد تكون مرادفة لمفهوم الصلاح”([15])، ومؤكدا أنها مسلك إصلاحي يمتد من الحياة إلى ما بعدها وليس غاية تدرك، فالمصلحة إذن بهذا المعنى صارت هي” التجلي المعقول للقانون الأخلاقي وقد اتخذت ميزة أساسية، إنها وصف طبيعي، ولأن المصلحة قانون أخلاقي حاكم سيخول لها هذا الوصف الطبيعي أن ينزل منزلة المنظم للعلاقات الإلهية الإنسانية والعلاقات الإنسانية الإنسانية، بحيث ترجع تكاليفها إلى حفظ مقاصدها في الخلق”([16]).
لقد صنف الشاطبي المادة المقاصدية تصنيفا رام من خلاله ربط الأحكام الشرعية بوظائفها المصلحية، معتبرا أن غاية الصلاح في الحال والمآل هي الغاية الأعظم للشريعة، ورتب على ذلك قواعد بناء نظري عبرت عن هاته المصالح وضبطتها ورجحت بينها، ومنها قوله بالتعليل الذي يشمل النظر والعمل، والفكرة والسلوك.
ومما نقرأه عند الشاطبي من مراعاة القيم الأخلاقية ونزولها منزلة رفيعة في السلوك التربوي للمؤمن، كلامه عن إسقاط الحظوظ عند صنف من الناس، خصوصا عند من ضعفت حظوظ أنفسهم لديهم فآثروا حقوق الآخرين عليها، فصار فعلهم هذا هو عين العبادة، بل أرقى أنواع العبادات، وهو النموذج المثالي للمجتمع المسلم الذي تشيع فيه قيمة الإيثار على طلب الحقوق والتزاحم على طلبها، يقول: “وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنه، لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا، فدخل فيه من الأعمال كثير، وإذا عمل على حظه من حيث الأمر فهو عبادة كما سيأتي، فصار عبادة بعدما كان عادة، فهو ساقط من جهته، ثابت من جهة الأمر كسائر الطاعات، ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس، بل يصير أكثر عمله في الواجبات”([17]).
خلاصات:
هكذا، وبعد أن قادنا سعينا في مساءلة الفكر الأخلاقي عند الإمام الشاطبي إلى النظر في مدونته المقاصدية، الوارفة بناء، المتسقة منهجا، والخصيبة عطاء، وبعد هذه الجولة العلمية المتنوعة الموارد، الملتبدة المرامي والمقاصد، أختم هذه المقالات الخمس بأهم النتائج التي توصلت إليها والمتمثلة في:
- التأكيد على ضرورة الانعتاق من أخلاقية الغرب، وبناء نظرية أخلاقية أصيلة، نابعة من الذات الإسلامية ومستجيبة لتطلعاتها.
- أهمية اعتماد المادة المقاصدية لدى الإمام الشاطبي في فهم النص، وتنزيل مقتضياته في الواقع باعتبارها وثيقة تشريعية ناضجة، أتاحت إمكانات منهجية منتظمة ومتسقة.
- النظرية المقاصدية وفرت ثراء معرفيا ورؤية إصلاحية يمكن أن تسهم في الإجابة عن السؤال الأخلاقي.
- معرفة اختيارات الإمام الشاطبي المذهبية والكلامية خطوة أساسية للكشف عن الأنساق المعرفية التي أطرت نظريته المقاصدية.
- اختيارات الشاطبي فرضتها مقتضيات بناء النظرية المقاصدية، وليس التعصب أو الوفاء المطلق لموروث كلامي أو مذهبي.
- “الاستقراء المعنوي” هو الدعامة المنهجية الأهم التي اعتمدها الشاطبي لإعادة صياغة أصول الفقه وتأسيس قواعده بشكل علمي، وكذا نقله من الظن إلى القطع، وهو ما يمكن الإفادة منه في التأسيس لنظرية علمية أخلاقية.
- إدماج الشاطبي لنظرية “المصلحة” في بنية المقاصد الشرعية، قد أحال على وجه من وجوه الانشغال الأخلاقي.
- التعليل المصلحي قد أسعف الشاطبي للنظر في الوقائع المتجددة نظرة أخلاقية إصلاحية.
- ترتيب مكارم الأخلاق ضمن التحسينيات اقتضته غايات إصلاحية للفرد والجماعة، كما أنها عبرت عن غاياتها الكبرى في تحقيق النموذج الإنساني الصالح، بتغلغل مكارم الأخلاق في مختلف أصول وفروع الشريعة الإسلامية.
وفي المقال اللاحق نستأنف الحديث عن الحاجة إلى بناء نظرية أخلاقية أصيلة، والذي نخصصه لضرورة تهييء الإطار المعرفي لهذه النظرية
والحمد لله رب العالمين