سؤال المنهج: رؤية اجتماعية (إدريس أُوهلال)
سؤال المنهج.. هو أبو الأسئلة والشرط الأول لباقي الأسئلة، لكن بأية فهم وبأية إرادة سنتناول هذا السؤال؟ بالرؤية الأكاديمية البريئة لسفراء النوايا العلمية الحسنة، أم بالرؤية الاجتماعية المُسلّحة باليقظة الاجتماعية إلى جانب الحضور الابستمولوجي؟
إن الرؤية الأكاديمية، الباردة بطبيعتها، مريحة ومعززة للأوهام، تتحدث عن المعرفة في ذاتها ولذاتها، أي عن طبيعتها الخالصة وعن الشروط العلمية لإنتاجها والمصادقة على صحتها، وقد تتجاوز ذلك قليلا فتتحدث عن تطبيقاتها واستخداماتها “البريئة”. لكن الرؤية الاجتماعية مزعجة، تفضح الشروط الاجتماعية لإنتاج المعرفة والآليات الاجتماعية للمصادقة على صحتها واستخداماتها الاجتماعية “غير البريئة” من خلال إبراز العلاقة القائمة بينها وبين السلطة.
لتوضيح هذه الحقيقة دعونا أولا نتساءل: ما المنهج؟
يمكن مقاربة المنهج من زاويتين متكاملتين: كاستعدادات في التفكير، وكاستراتيجيات في المواجهة. المنهج كاستعدادات في التفكير هو عادات العقل المحددة اجتماعيا، أما المنهج كاستراتيجيات في التنافس والصراع فهو الاقتصاد السياسي للمعرفة. وفيما يلي تفاصيل هذا التعريف الاجتماعي للمنهج في بعديه، كاستعدادات وكاستراتيجيات.
البعد الأول: المنهج هو عادات العقل المحددة اجتماعياً
للعقل عادات:
فهو إما عقل طبيعي يرى الظواهر في طبيعتها الفيزيائية والبيولوجية والنفسية، أو عقل اجتماعي يدرك الطابع الاجتماعي للظواهر الفيزيائية والبيولوجية والنفسية التي تقدم على أنها طبيعية.
وهو إما عقل لا تاريخي يتعامل مع الحقائق بدون الوقوف عند “أسباب نزولها”، أو عقل تاريخي يدرك الطابع النسبي للحقائق التي تقدم بدون سياقها أو على أنها مطلقة.
وهو إما عقل منغمس في التفاصيل لا يتجاوزها، أو عقل يرى التفاصيل بمرجعية نظريات كبرى قد تنجح في إعطاء التفاصيل معناها وقد تشوه التفاصيل، أو عقل يملك القدرة على التفكير اللولبي بين التفاصيل والكليات وتحقيق الاختراقات.
وهو إما عقل بسيط يتعامل مع الظواهر على أنها بسيطة فيحلل ويصنف ويلغي ويقصي ويختزل، أو عقل مُعَقَّد يتعامل مع الظواهر على أنها مُعَقَّدة، وأنها كُلّ لا يتجزأ، ويُمَيِّز دون أن يَفْصِل، ويحلل العلاقات دون أن يختزلها في نوع واحد، ويرى السببية دائرية لا خطية، ويرى النزعات الموضوعية والذاتية منهجين متكاملين، ويعمل على استكشاف موضوعاته من خلال حقول معرفية مختلفة ومستويات منطقية متعددة.
للعقل إذن عادات تسمى اصطلاحا بالمنهج، فمن لنا بمنهج اجتماعي وتاريخي ولولبي ونسقي، والحال أن عادات العقل تتحدد بشروط مظروفيتنا الاجتماعية؟ إن سؤال المنهج هنا يصبح سؤالا عن كيفية التحرر من الجاذبيات الاجتماعية المختلفة التي تتحكم في طريقة تفكيرنا.
البعد الثاني: المنهج هو الاقتصاد السياسي للمعرفة
المنهج هو برنامجك للمساهمة في تطوير المعرفة وأسلوبك في عرضها بما يخدم مشروعك المعرفي، بتعبير آخر هو استراتيجيتك لإنتاج المعرفة وتوزيعها في سوق للمعرفة ولأدواتها، حيث تتصارع مشاريع معرفية، وتتدافع استعدادات (عادات العقول) اللاعبين (مفكرون، علماء، باحثون، جامعات، مراكز للبحث العلمي، مختبرات، ناشرون…) وتَحْكُم قواعد لِلَّعب (من يحدد موضوعات البحث؟ من يضع معايير الحقيقة؟ من ينشر؟ لمن ينشر؟ من يصنع الجوائر والألقاب؟ لمن تمنح؟…).
إن المنهج هو أداة للمواجهة، لأن قيمته في استخدامه عندما يحين وقت الصراع على احتكار المعرفة وأدواتها واستخدامها في تكريس سلطة أو مواجهتها. ولأن حروب المعرفة هي أشرس الحروب وأخطرها، يصبح سؤال المنهج هنا هو سؤال الاستعدادات والمواقع والمشاريع والاستراتيجيات المتعلقة بعلاقة المعرفة بالسلطة واستعمال أحدهما لمواجهة الآخر، وباحتكار أدوات صناعة المعرفة لا احتكار المعرفة التي أصبحت متداولة ومتاحة ومجانية.. المنهج هو الطريق بكل تأكيد، لكنه في العمق هو طريق لامتلاك سلطة والحفاظ عليها باستراتيجيات محافظة أو مواجهة سلطة ومناهضتها باستراتيجيات ثورية، أما التعريف الأكاديمي للمنهج فمُغرق في سذاجة الفهم وبرودة الإرادة.. التعريف الأكاديمي يجهل أو يتجاهل أن العالم الأكاديمي هو ساحة حرب تتصارع فيها الإرادات والمصالح والمشاريع والاستراتيجيات بأقنعة بريئة تسمى المفاهيم والقواعد والطرق والأدوات والمقاربات… بالشعر أو بدون الشعر، المنهج ما هو إلا قواعد اللعب العلمي التي يضعها المهيمنون في الحقل الأكاديمي لتأبيد هيمنتهم. كان الله لسفراء النوايا الأكاديمية الحسنة.