مذهب الاعتزال.. السياسة لخدمة أهداف دينية(صلاح الدين الزربوح)
كثيرا ما نسمع عن توظيف الدين لخدمة مصالح سياسية، وهي تهمة تنسب عادة لتيارات سياسية بعينها في الفترة المعاصرة، تصعد وتنتشر، وتحقق امتدادا جماهيريا كبيرا يربطه جمع من الباحثين والمحللين باستعمالها للدين، باعتباره الأقرب لنبض الجماهير ولمخزونها العاطفي المشحون دينيا ومذهبيا. لكن أن يكون العكس – توظيف السياسة لخدمة رؤية دينية معينة- فهذا لم يكن إلا مع المعتزلة، الفرقة التي أثارت ضجة كبيرة، في الماضي والحاضر على السواء. والحديث عن المعتزلة لن يكون أبدا حديثا جديدا وفريدا من كثرة ما تداولته الأبحاث والدراسات، لكنه في نفس الوقت يضل – دائما- مثيرا ومستفزا لكل ذهن متقد وتواق للبحث في تاريخ أمة ضلت منذ ماضيها السحيق تتأرجح بين العقل واللاعقل في بناء ‹مجدها›. وما يزيد الموضوع إثارة في مقامنا هذا هو الزاوية التي ركَّز عليها صاحب كتاب « التاريخ السياسي للمعتزلة» (إصدارات رؤية للنشر 2013 ، عدد الصفحات: 502) هي الزاوية السياسية، في الوقت الذي ركزت معظم الكتابات المتداولة حول المعتزلة على الزاويتين الفلسفية والكلامية، فالدكتور عبد الرحمن سالم، الأستاذ والباحث في الجامعة المصرية، يعتبر أن المحرك الأساس عند المعتزلة من النشأة إلى الاضمحلال، سياسي بالدرجة الأولى. وكانت هذه هي الفكرة المحورية التي تناولها بالكثير من التفصيل. وفي هذا السياق نجده يؤكد على أن نشأة المعتزلة كانت داخل سياق سياسي مُشتعل، تحكَّمت فيه أحداث ووقائع صنعت صورة الأمة الإسلامية، ووجهّت حاضرها ومستقبلها من داخل مذاهب وفرق متعددة لكل منها رهاناته وأهدافه، ولا يغيب اختلافها وتباينها إلا ليحضر من جديد وبقوة أكبر، والمعتزلة أكبر هذه الفرق وأشدها تمسُّكا ببنائها الفكري والعقدي الذي تشكَّل بفعل تلك الأحداث السياسية المِفصلية، بدءً من مقتل عثمان بن عفان، انتهاءً إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان، مرورا بالاضطرابات الداخلية التي صاحبت تولية علي بن أبي طالب وحروب الصحابة (الجمل وصفين)..، لذلك كانت الإشكالية التي انطلق منها صاحب الكتاب للوصول إلى هذه النتيجة – الفكرة – هي الخلفية السياسية كمرجع لنشأة وانتشار المعتزلة فكرا وممارسة، والتوظيف المباشر للسياسة لخدمة أهداف الدين كما يتصورونها – من داخل المذهب والفرقة وليس العكس-. وكانت معالجته لهذه الإشكالية تعتمد أساسا التتبع التاريخي لتفاعل الدين والسياسة ضمن المسار التاريخي الطويل والمعقد للمعتزلة، من إرهاصات النشأة مع غيلان الدمشقي إلى ذروة المجد والنجاح أيام المأمون والمعتصم، انتهاءً إلى الأشعري وما يمكن تسميته بلحظة الأفول أو(الضربة القاضية) التي لم تقم لهم قائمة بعدها.
الإسم، والاعتقاد بالأصول
إسم الفرقة -حسب الدكتور عبد الرحمن سالم- يستحق وقفة، لأنه مهم في دلالته، وفي تعبيره عن أفكارها وتوجهاتها، وهم حريصون عليه وعلى حمله والذود عنه. فحسب المعتزلة – كما ورد في الكتاب – «لا يستحق أحد اسم الاعتزال حقيقة حتى يجمع القول بالأصول الخمسة، فإذا كملت في الإنسان فهو معتزلي.» (ص83). كما ورد في الكتاب أيضا نص لأبي الحسن الملطي (توفي 377هـ) نقلا عن سامي النشار في كتابه « نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام » يتضمن أن «المعتزلة هم أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز… وهم سموا أنفسهم معتزلة عندما بايع الحسن بن علي معاوية وسلم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، وذلك أنهم كانوا أصحاب علي، وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة، فسموا بذلك معتزلة»(ص77).
فالإسم إذن مؤشر على موقف عقدي/ مذهبي مؤسِّس، بلور تصورا مختلفا للدين، امتاز عن غيره من تصورات المذاهب والفرق الأخرى، متفاعلا بوضوح مع كل ما هو سياسي، فكان هذا العامل السياسي هو المساهم الأكبر في توجيه التصور الديني / العقدي والتأثير فيه وخدمته من موقع الفرقة والمذهب، في اختلاف تام عن باقي الفرق الموجودة والمؤثرة في ذات المحيط وذات الدين، فكان بالتالي إسما على مسمى. ففي معرض ارتباطه بمسألة طفت على السطح وخيمت على المشهدين الديني والسياسي، وتحكَّمت فيهما أيما تحكم، هي مسألة «مرتكب الكبيرة” كأولى المسائل التي واجهتها الأمة، كان جواب المعتزلة – من خلال مقولة «المنزلة بين المنزلتين»– مقدمة لما سيعرف عندهم بالأصول الخمسة لمذهب الاعتزال (التوحيد – العدل – المنزلة بين المنزلتين – الوعد والوعيد – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، إلا أن هذه الأصول لم تحظ بأي اهتمام من طرف الباحثين السياسيين، رغم ما تحمله من دلالات سياسية كبيرة، خصوصا الأصل الأول «التوحيد» ومعه أصل «العدل»، حتى أنهم عرفوا بالعدلية أو أهل العدل والتوحيد، بالنظر للدلالات السياسية الكبيرة التي حملها الأصلان في اتصال بالأصول المتبقية والتي ضلت متفرعة عنهما ومتصلة بهما بشكل ضروري. من حيثُ إثارتها لمشكلات سياسية واضحة كمشكلة الحرية والاختيار، وما يترتب عنها من إقرار بمسئولية الإنسان وإرادته، ضدا على ما يقره الحاكم (الخليفة الأموي على وجه التحديد)، ومشكلة مرتكب الكبيرة المتصلة بشكل مباشر بالاضطرابات السياسية والمواجهات العسكرية مع خصومٍ من الصف الإسلامي (الواحد)، بالإضافة إلى مسألة الشفاعة التي تسقط تماما عن العصاة، ومنهم الحاكم المتغلب طبعا، وفي الأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره الأصل الذي يذود عن الأصول الأخرى بالكلمة والسيف. فكان العمق السياسي في نظر الكاتب أكبر بكثير من العمق الديني والعقدي لهذه الأصول.
مشكلة الإمامة بين المعتزلة والشيعة
واضح أن هذه الأصول تعبر عن موقف سياسي متكامل من مشكلة، هي بالتأكيد، مشكلة سياسية آنية وعويصة، لا تنفصل عن سابقتها هي مشكلة الإمامة (الحكم و السلطان) ضمن المكان الذي شغلته في الفكر المعتزلي، وفي الفكر السياسي الإسلامي بوجه عام، فدارت حولها سجالات كبيرة أفرزت مواقف مذهبية متباينة ومتناقضة، فالمعتزلة اعتبروا أن الإمامة قضية مصلحية لا أصولية، في مخالفة واضحة للموقف الشيعي، فهم بذلك يردون على الشيعة بشكل واضح ومباشر. فقد استخدم الشيعة مبدءً معتزليا في إثبات وجوب الإمامة عقلا، وهو مبدأ الصلاح والأصلح، انطلاقا من قياسهم الإمامة على النبوة، وهذا ما يرفضه المعتزلة، لأنه ما دام الإمام محتجبا ولم يؤثر ذلك على استمرار المكلفين بما كلفوا به، فإن وجوده ليس ضروريا من الوجوه التي يحتج بها هؤلاء على الوجوب العقلي، لأن ذلك يستوجب بالضرورة العلم بالإمام. والاختلاف الجدري هذا سينعكس على طرق الإمامة عندهم، فمن ضمن ثلاث طرق معروفة، يكون طريق الإمامة الشرعي وحيد عند المعتزلة، هو الشورى والاختيار، فهم يرفضون طريق النص وكذلك طريق الخروج، كما أنهم لا يشترطون العصمة التي تعتبر شرطا ضروريا لا تتحقق الإمامة إلا به عند الشيعة. دون أن نغفل مسألة أخرى هي مسألة الأفضل والمفضول كوجه آخر للاختلاف بين الإثنين، ف«في نظر المعتزلة الفضل لا بد منه في الإمام، أما الأفضلية فهي غير ضرورية ولكنها مفضلة، بمعنى أنه لو تيسر أن يكون الإمام أفضل الجميع فذلك خير وبركة على الرعية، ولا وجه للاعتراض. ولكن ذلك ليس في الوسع دائما، والتمسك به قد يؤدي إلى تعطيل الإمامة حين لا يتسنى تنصيب الأفضل، فالعدول عنه إلى من دونه في الفضل أمر تمليه مصلحة الأمة بلا جدال» (ص154). ومفهوم الفضل يتحدد عند المعتزلة في علاقته بالمصلحة « فالفضل المطلوب في الإمامة إنما يراد لما يعود على الكافة من المصلحة »(نفس الصفحة). أما إذا كانت نتائجه تعاكس المصلحة فلا مجال لقبوله أو الإقرار به، ففي نظرهم اختيار الفاسق إذا قهر وتغلّب للإمامة باطل، وإمامته المترتبة على قهره وبغيه باطلة، وهنا استحضر عبد الرحمن سالم تعليقا معتزليا على تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة، فيما أطلق عليه عام الجماعة،تعليق لأحد رموز المعتزلة المتأخرين، هو القاضي عبد الجبار (متوفى 415 هـ) يقول فيه (ما كان عام الجماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا، والخلافة منصبا قيصريا) (ص159).
ومن هذا التعليق نستشف توافقا سياسيا بين المعتزلة والشيعة في الموقف من «إمامة» معاوية، وبالتالي هم أيضا يتشيعون لعلي، إلا أنّ تشيعهم كان على وجهين: بصري وبغدادي، «التشيع عند معتزلة البصرة كان شديد الاعتدال وأنه كان تشيعا سنيا إن صح التعبير،فهو –في جملته- يوالي عليا، وقد يفضله على عثمان أو يسوي بينه وبين أبي بكر، كما أنه يُدين إدانة قوية أولئك الذين اصطدموا به في صفين ويعتبرهم بغاة منشقين، ويوالي هذا الاتجاه جميع الصحابة السابقين إلى الإسلام ولا يبرأ من أحد منهم» (ص 173). بينما «يتسع مفهوم التشيع عند معتزلة بغداد عن مفهومه عند معتزلة البصرة، حيث يعني تفضيل علي على سائر الصحابة، واعتقاد أنه أولى الصحابة بخلافة المسلمين. لكن هذا الحكم لا يدفعهم إلى البراءة من الصحابة، بل يتولونهم جميعا، كما أنهم يجيزون إمامة المفضول مع وجود الفاضل» (ص174)، فكانت هذه دلائل على توافق كبير بين الشيعة والمعتزلة رغم ما ورد في الكتاب من قبل من أوجه الخلاف بينهما، في الإمامة على وجه التحديد. هناك صلة وثيقة إذن بينهما، إلا أن الشيعة المقصودون هنا هم الشيعة الزيدية لا غيرهم. وهذا ما دفع بالحسن الملطي الذي اعتبره الكاتب واحدا من أقدم مؤرخي العقائد الإسلامية، يعدُّ المعتزلة – ومعتزلة بغداد على الخصوص – فرعا من الزيدية. (ص179)
المعتزلة والموقف من خلفاء بني أمية وبني العباس
ويبقى أبرز موقف سياسي أعلنه المعتزلة حسب كتاب التاريخ السياسي للمعتزلة، هو موقفهم من خلفاء بني أمية، فهؤلاء عندهم بغاة جائرون، لم يكونوا أئمة هدى تجب طاعتهم. فرغم أن الأمويين سبقوا المعتزلة في مسرح الحياة السياسية والمذهبية، إلا أنهم لم يتمتعوا بالقبول لديهم، بل اشتهر المعتزلة برفضهم للأمويين ولنمطهم في الحكم بشكل مطلق، باستثناء فترة حكم عمر بن عبد العزيز، التي اختلفت نظرة المعتزلة إليها وإلى صاحبها، «فبينما يتحرج البعض عن الجهر بنقده ويكتفي من ذلك بالتلميح دون التصريح، يقع فيه بعضهم بسوء القول، ويحمل عليه حملة قاسية، ثم لا يجد البعض الثالث بدا من وضع الحق في نصابه والاعتراف للرجل بما هو أهله من الفضل والعدالة والجدارة بالإمامة الصحيحة» (197). وفترة الحكم هذه تبقى استثناءً في تعاطي المعتزلة مع خلفاء بني أمية، وهم في كل مرة كانوا يتحينون الفرصة لإعلان موقفهم الرافض هذا. وخلال فترة حكم هشام بن عبد الملك كان من المنتظر أن يكون للمعتزلة موقف وصوت، اعتبارا لحدثين بارزين يتمثلان في مقتل غيلان الدمشقي وخروج زيد بن علي على الخليفة هشام، لكن شيئا من هذا لم يحدث، وكأن لسان حالهم يقول أن صمتهم وعدم نصرتهم للإثنين تعبير عن حالة الضرورة التي يعبر عنها قوله تعالى “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” البقرة 286. (ص203). لكن أكثر ما تداولته الدراسات التاريخية لعلاقة المعتزلة هو موقفهم السلبي مطلقه من خلافة اليزيد بن معاوية، وموقفهم الإيجابي في عمومه من خلافة مروان بن محمد.
هذا بخصوص علاقتهم بالأمويين، أما علاقتهم بالعباسيين ف «هناك من يعتبر أن واصل بن عطاء وأتباعه كانوا بين الدعاة العباسيين المنتشرين في الأرض لتقويض الكيان الأموي، بدليل البعوث التي بعث بها واصل بن عطاء إلى الآفاق ( المغرب، خراسان، اليمن، الجزيرة، الكوفة، أرمينية) » (ص233). إما لخدمة الدعوة العباسية أو للدعوة لإمام معتزلي وفق تنظيم محكم وسياسة مرسومة، وفي هذا السياق نجد صاحب الكتاب أولى أهمية كبيرة لقصيدة لشاعر معتزلي ساهمت في توضيح هذا الدور وهذه الغاية وهو الشاعر صفوان الأنصاري (توفي 180 هـ) وهي القصيدة التي حظيت باهتمام معظم الباحثين في تاريخ المعتزلة عربا كانوا أو مستشرقين. إلا أن غياب المعتزلة عن دوائر السلطة خلال بداية الحكم العباسي يفند دورهم في دعوتها ويجعل هذا الدور (المزعوم) دون معنى. والذي يؤكد هذا، غيابهم المطلق عن مشهد نشأة الحكم العباسي، وكذا موقفهم السلبي من فترة حكم «السفاح» فلم يؤيدوه لأنه لم يمثل الإمام الشرعي النموذجي من وجهة نظرهم، ولم يثوروا عليه لعجز وسائلهم- كما جاء في الكتاب-. لكن موقفهم من خلفه أبو جعفر المنصور سيختلف بعض الشيء بسبب الحضور الكبير لشخصية معتزلية كبيرة هي شخصية عمر بن عبيد (توفي 144هـ) إلى جانب الخليفة، دون أن يعني ذلك ولاء الخليفة لأفكارهم والانتصار لهم، لأن العلاقة بين الإثنين كانت علاقة وثيقة يحكمها احترام وتعظيم الخليفة للشيخ المعتزلي ليس أكثر، بدليل عدم انتصاره لأفكاره ومواقفه بل مخالفتها رغم استنصاحه له في الكثير من الأحيان. هكذا جرت الأمور مع بداية الحكم العباسي ولم يتغير شيء بشكل يستحق الذكر إلا مع المأمون.
لحظة الامتداد السلطاني والتناظر الإجباري (المحنة)
شكلت فترة حكم المأمون فرصة المعتزلة التاريخية لنشر مذهبهم والترويج لأفكارهم، في استغلال مطلق للشروط السياسية لخدمة الدين، أو بتعبير أصح لخدمة تصورهم للدين. فالخليفة المعروف بولعه بالقراءة وخدمته للعلم والمعرفة كان معتزليا أصيلا لذلك كان المعتزلة في عصره أصحاب سلطة وليس فقط أصحاب فرقة ومذهب، ونفوذهم كان كبيرا، وتسلطهم كان وضحا وجليا، ومواقف المأمون “المعتزلية» من المسائل السياسية والفقهية الدائر الجدال والتناظر حولها كان واضحا ولا يحتمل التأويل، فهو لم يكن رافضيا (شيعيا) لأنه يقبل خلافة الراشدين جميعا ويثني عليهم ولا يقع في طلحة والزبير ولا عائشة بسوء القول، والرفض منزلة متقدمة في التشيع، لأنه يعني اعتناق فكرة النص على إمامة علي وإبطال إمامة السابقين، أي رفضها. فحسب الكاتب (عبد الرحمن سالم) الملاحظ أن المأمون حين يوازن بين علي وأبي بكر ويفضل عليا لا ينكر فضل أبي بكر بل ينكر أفضليته، وذلك حيث يقول: «لولا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه» (ص296). وبعد أن يفرغ المأمون من مناظرته مع الفقهاء ويبدي الفقهاء اقتناعهم بوجهة نظره يعقب قائلا، «اللهم إني قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجت الأمر عن عنقي، اللهم إني أدينك بحب علي وولايته» (نفس الصفحة). وهذا كان الفيصل بين المعتزلة والشيعة، ومن ثمة لم يكن من المقبول اعتباره شيعيا لأن قناعاته الاعتزالية راسخة ومتجذرة. ومن موقعه كخليفة وقائد للدولة سعى لجعل هذه الأخيرة معتزلية كلها بجميع الوسائل المتاحة، ومنها القوة والسيف «إن لم يكن على بساط التفاهم والود فليكن على أسنة الرماح» (ص302)، والقضية التي كانت عنوانا لكل هذا هي «خلق القرآن» بكل أوجهها السياسية والفقهية والاجتماعية، فالمعتزلة من موقع زعيمهم الأول في هذه المرحلة (الخليفة) ومن يدور في فلكه وعلى رأسهم بن أبي داود، يعتبرون أن الله سبحانه خلق القرآن كما خلق غيره من الأشياء. فكل ما سوى الله مخلوق، فالقرآن إذن مخلوق. والذي خلق لفظه ومعناه هو الله لا الرسول. وهذه الفكرة لم ترق للكثيرين بل كان لها معارضون كثر من الفقهاء الذين لم يبدوا تساهلا معها، حتى وإن جاءت من رأس الدولة، ويبقى أبرز هؤلاء أحمد بن حنبل الذي كان يكتفي في كل مناظرة حولها بالقول أن «القرآن كلام الله، لا أزيد على ذلك». ولكن أتباع بن حنبل ومن يتخذونه مرجعية لهم في العصر الحديث – ملاحظة سجلها صاحب الكتاب – لم يكتفوا بهذا الموقف المعتدل المتحفظ، بل إنهم ذهبوا صراحة إلى القول بقدم القرآن، ثم زادوا على ذلك بأن وضعوا المعتزلة في صفوف المبتدعين وأهل الزيغ وأعلنوا الحرب الفكرية عليهم بلا هوادة. (ص443) والذي ساهم في تشكل هذا الموقف المتطرف هو استغلال المعتزلة لموقعهم في السلطة لفرض رأيهم بالقوة على الجميع من أجل اعتناقه، فكان خطؤهم حسب الكتاب يقع في دائرة الممارسة وليس في مجال الفكر ذاته. محنة خلق القرآن إذن كانت اختيارا معتزليا تحكمه روح دينية وتتحكم فيه الأداة السياسية، والمعتزلة من خلالها لم يحاولوا خدمة أهداف سياسية معينة بإثارتهم للمحنة، لكن موقفهم كان وليد الروح الدينية في صميمه، وقد سخّر المعتزلة السياسة لخدمة أهدافهم الدينية ولم يسخِّروا الدين لخدمة أهداف سياسية خاصة. هذه هي الفكرة/ الخلاصة التي توصل إليها عبد الرحمن سالم والتي تكشف البعد السياسي لمذهب المعتزلة. والخطأ السالف الذكر لهذا المذهب سيكون ثمنه غاليا، فالمعتصم خليفة المأمون كان وفيا لوصية أخيه ولم يغير شيئا في الأمر بل استمرت المحنة واستمر معها نفوذ المعتزلة.
تبعات الخطأ واقتراب النهاية
عُرف الخليفة الواثق باطلاعه الواسع وعلمه الوافر، وهو المشهور ب«المأمون الصغير» سيقلب المعادلة رأسا على عقب، إذ غيّر موقفه وتراجع عن دعم القضية ووضع لها حدا بعد أن أبقى عليها لمدة، لكن إفحام أحد شيوخ الحديث لابن أبي داود في مجلس الخليفة، وهو الشيخ أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأزدي حيث انتهت مناظرتهما بسقوط بن أبي داود من عين الخليفة، فكان القرار الحاسم بإبطال إجراءات محنة خلق القرآن.
الأمور لن تقف عند هذا الحد بل بلية المعتزلة ستكون أكبر عندما سيتولى المتوكل مقاليد السلطة، فبعد تسميته خليفة للمسلمين بدأ بإجراء جدري تجاه المعتزلة حيث انقلب على منهج الخلفاء السابقين الثلاثة (المأمون والمعتصم والواثق) وبدأ عمليا في تجريد المعتزلة من امتيازاتهم السياسية مقابل تقريب الفقهاء والمحدثين وتيسير سبل لقائهم بالناس، وتقريب بن حنبل ومحاولة ترضيته مع تعفف الأخير، وكذا تشديد الخليفة على ترك الجدال في القضايا الكلامية ومنها قضية خلق القرآن، في انتصار واضح لأهل السنة. وبذلك ظهر توجهه السني دون شوائب. فكانت فرحة السنة الكبيرة وبدأ تقديرهم للخليفة ووضعهم له في مقام رفيع وصل إلى الحد الذي دفع إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة إلى القول: «الخلفاء ثلاثة: أبو بكر قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، وعمر بن عبد العزيز، رد مظالم بني أمية، والمتوكل، محا البدع وأظهر السنة» (ص377). لكن ومع كل هذه الإجراءات لم تكن الضربة القاضية -إذا صح التعبير- قد حانت بعد والتي لم تتحقق إلا مع أبو الحسن الأشعري (توفي 324 هـ) الذي ضل مدة طويلة وفيا لتكوينه المعتزلي لكنه انقلب كليا وأصبح يناصبهم العداء ويُعبأ ضدهم ويسعى لهدم بنائهم الفكري من الجذور، واشتهر عنه قوله الذائع الصيت أورده عبد الرحمن سالم من كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان وفيه: «من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم » (ص418) فكانت بداية تبلور مذهب مناقض للمعتزلة يتمتع بالقوة الفكرية والسياسية لتقويضه والقضاء عليه، وكذلك كان.
«إذا كان المتوكل قد نكب المعتزلة سياسيا في النصف الأول من القرن الثالث الهجري فإن الأشعري قد نكبهم فكريا في أواخر هذا القرن، فانضمت حرب الفكر إلى حرب السلطة لتصيب بنيان المعتزلة في الصميم» (ص423).
في الأخير
في آخر هذا العمل المفصل وصل عبد الرحمن سالم في خاتمته إلى العديد من الخلاصات الدقيقة يمكننا تركيزها في أربعة أساسية:
1- تأسيس الفكر الاعتزالي مع واصل بن عطاء كان مرتبطا بأفكار موروثة ممن سبقوه تشكلت وتبلورت في تفاعل مع الأحداث السياسية المتحكمة والموجهة لها، كما أن أفوله ونهايته كانت على يد معتزلي منقلب راجع أفكاره وشيد أخرى تناقض ما كان عليه، فكان المذهب الأشعري النقيض لمذهب المعتزلة.
2- -علاقة المعتزلة بالشيعة في حقيقتها هي علاقة بسيطة لا تتجاوز حدود علاقة التلميذ (واصل بن عطاء) بالأستاذ (أبو هشام عبد الله بن محمد ابن الحنفية) ثم التلميذ (زيد بن علي) بالأستاذ (واصل بن عطاء) ولا تتجاوزه لأي تطابق ممكن أو تعارض محتمل.
جبروت المعتزلة حال دون وقوفهم عند تصور أهل السنة بالوضوح الذي يقتضيه التناظر المعرفي أو حتى الكلامي، فابن حنبل وغيره من الفقهاء كان يتحرج من الخوض في القضايا الكلامية، وإصرار المعتزلة على ذلك لم يخدم الأمة الإسلامية في شيء، بل أوقعها في أتون محنة أليمة لم ينسها التاريخ وسجلها على المعتزلة في صفحاته السوداء.
سخَّر المعتزلة السياسة بتحولاتها المتلاحقة لتوظيف الظرفية السياسية المواتية لخدمة أهداف دينية صميمية، وبالتالي فهم بعيدون كليا عما يمكن تصوره من توظيف للدين لخدمة المصلحة السياسية، لأن العكس هو الصحيح.