ابن تيمية والسبكي وابن خلدون: رؤى إصلاحية(عبد الله الطحاوي)_3_
مدخل صوفي
لماذا اختار السبكي “الشكر” وليس “الحمد”؟ الجواب أن الحمد -في أقوى تعريفاته- سلوك قلبي، لا بد من أن يكون هو حال الإنسان سواء كان الفرد في نعمة أم في ابتلاء، أما الشكر فلا يكون إلا عند حضور النعمة. والشكر وصفه القرآن بالعمل ﴿اعْملوا آلَ داودَ شُكراً﴾، وهو رد الفعل اللازم تجاه أي مِنة أو هِبة مست الإنسان، وبالتالي فهو فكرة معيارية يمكن أن تحس وتشاهد.
وعندما يسأل فرد أو أمة عن سبب ذهاب نعمة دينية أو دنيوية -كوظيفة أو ولاية أو مال أو سيادة وتمكين- يقال له إن السبب هو “إخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها وهو الشكر، فإن كل نعمة لا تشكر جديرة بالزوال”.
إن الخلل الذي يعنيه السبكي في فهم دلالة الشكر هنا هو أن ينصرف أي عامل إلى صنع أفعال خيرية تطوعية من صيام وصدقات وحج، بينما يتجاهل مهام وظيفته نفسها، ويعتبر أن فعل ذلك يؤدي إلى أن “تشكر [الوظيفة] على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت”. وضرب لذلك مثلا بنعمة البصر والسمع قائلا: “[لو] تصدّقت بدرهمين شكرا للَّه تعالى على نعمة الأذنين، وهتكتَ كل قبيح سمعته، وأصغيت إلى كل حرام وَعَيته؛ فلستَ من الشاكرين”.
ويتحدث الإمام السبكي عن الشكر العملي للسلطان أو الحاكم فيقول: “إذا ولَّاك اللَّه تعالى أمرا على الخلق فعليك البحث عن الرعية، والعدل بينهم في القضية، والحكم فيهم بالسويّة، ومجانبة الهوى والميل”، و”لو أنك تركت الناس هملًا يأكل بعضهم بعضا وجلست في دارك تصلي وتبكي على ذنوبك لكنت مسيئا على ربك…، فمَلِكُك لم يطلب منك أن تتهجد بالليل ولا أن تصوم الدهر، وإنما يطلب منك ما ذكرناه. فإن ضممت إليه أعمالا أخرى صالحة كان ذلك نورا على نور، وإلا فهذا هو شكر نعمة الولاية التي بها تدوم”.
والحقيقة أن السبكي يحاول أن يعالج الازدواجية الشديدة التي كانت سائدة في المجتمع المملوكي، حيث كان الحكام يعتقدون أن بناء المساجد، ومدارس العلم، وزوايا التصوف، وإطعام الفقراء، وإقامة أسبلة الماء؛ كفيل بغفران ذنوب سفك الدماء وهدر الأموال وظلم العباد.
إن هدف الشكر عند السبكي هو إيجاد الإنسان المهني الحر الذي يقوم بواجباته المثالية، دون أن يقع في عبودية الوظيفة أو يسيطَر عليه بها، بل إنه يمكنه من رفض أي قوة تحاول حرفه عن وظيفته وأهدافها ونظامها المهني وقواعدها المثالية، فالوظيفة ليست عقد عبودية مع الدولة وإنما هي استخلاف من الله.
ويرى السبكي أنه مهما كانت خيارات السلطة التي مكنتك من تلك الوظيفة، فهناك غرض ما وهدف آخر لها وهو أنك مفيد لتلك السلطة في جانب من الجوانب، حيث “يَطلب [مَنْ عيّنك] نفعَ نفسه بنفعك، ويتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه”، ولذلك فإن السلطان “لو لم يكن له غرض في الإِعطاء لما أعطاك”. إن هذا طبعا لا ينفي الامتنان للناس، ولكنه يجعله امتنانا يقترن بإدراك أنهم قاموا بإيصال مراد الله إليك، أما الشكر الذي يتضمن “الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع” فإنما يكون لله وحده.
جرأة لافتة
اتسم مؤلف الكتاب بجرأة الطرح والشجاعة في عرض رأيه ونقده السياسي والاجتماعي، وتلك الفضيلة كانت سمة عامة في عصر المماليك الذي انتشرت فيه الكتابات والأشعار الناقدة، والتي من أشهرها القصائد السياسية لشرف الدين البوصيري (ت 696هـ/1297م) صاحب قصيدة ‘البردة‘ في المديح النبوي، والكتابات الشديدة في مخاطبة الولاة. وهذا الكتاب يعد نموذجا في ذلك من حيث الأسلوب ومستوى النقد الصريح.
ومن ذلك أن السبكي يسجل بوضوح أن من مظاهر جحود نعمة رئاسة المسلمين أن يظن السلطان أن الولاية هي أن يكون الرئيس “آكلا شاربا مستريحا”، وهو إنما تولى أمر المسلمين “لينصر الدين ويُعلي الكلمة”، وكذلك ليست السلطنة أن “يفرق [السلطان] الإقطاعات على مماليك اصطفاها وزينها بأنواع الملابس، والزراكش المحرمة، وافتخر بركوبها بين يديه، وترك الذين ينفعون الإسلام جياعا في بيوتهم”. كما حاول أن يهدم عادة ساسانية اشتهر بها عصره وهي تقبيل الأرض تحت السلطان، فذكر أنها أمر “من عظائم الذنوب، ونخشى أن يكون كفرا”.
كما انتقد بشدة سلوك البذخ في بناء المساجد الكبرى وهو من ميزات العصر المملوكي، خصوصا تلك التي كانت تشيد بفرض الضرائب ونهب أموال الرعية، فنجده يخاطب الحاكم بقوله: “تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا، ليقال: هذا جامع فلان؛ فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبدا، وإن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا”.
وقد تحدث المؤرخ المصري ابن إياس (ت 928هـ/1522م) -في كتابه ‘بدائع الزهور‘- عن ذلك السلوك، وموقف العلماء من بعض المساجد التي بُنيت بأموال الشعب المغتصبة من أجل التدليس على الناس، وقال إن المصريين “اللطفاء” أطلقوا على مدرسة/مسجد بناه السلطان قانصوه الغوري (ت 922هـ/1516م) بأموال الضرائب الظالمة اسم “المسجد الحرام”. وانتقد السبكي كذلك سلوك نخبة المجتمع التي يحرص أحدهم على الصلاة “شكراً لله تعالى على أن جعله ذا كلمة نافذة عند ولي الأمر، و[يـ]ترك المظلوم يتخبطه الظلم”، مؤكدا أن “صَلاته وبالٌ عليه”!
والمتمعن في تلك التفاصيل الناقدة يجد أنها ترصد الواقع السياسي الذي كان يعيشه السبكي، وأنه حاول أن يلخص تلك الإشكالات السلطوية وما صاحبها من ازدواجية في القيم، واعتبر أن كل هذه السلوكيات مضادة لمهام الوظيفة ومعجِّلة بزوال نعمتها عن صاحبها، وإذا استمرأ السلطان هذه السلوكيات ثم “سلبه الله النعمة أخذ يبكي ويقول: ما بال نعمتي زالت وأيامي قصرت؟! فيقال له: يا أحمق، أما علمت السبب؟! أَوَلستَ الجاني على نفسك؟!”.
ازدواجية قضائية
وبعد أن شخص الأدوات التي تؤدي إلى زوال السلطة؛ أوضح السبكي أن من معاني شكر الولاية أن يتأكد السلطان أنه “والرعية سواء”. ثم شرع في بيان معاني الشكر التي يجب أن يتسم بها السلطان بشكل عملي، وهي “أن ينظر في الإقطاعات [المالية] ويضعها مواضعها، ويستخدم من ينفع المسلمين”، وكذلك “من وظائفه الفكرة (= الاهتمام) في العلماء والفقراء وسائر المستحقين، وتنزيلهم منازلهم”. ثم تحدث عن قضية مهمة شهدها هذا العصر الذي عرف عقوبات كثيرة مخالفة للشريعة تحت مصطلح “السياسة” (مثل التسمير والسلخ والخوزقة والتوسيط)، وكان بعض المماليك يتخذونها وسيلة لبسط سيطرتهم الأمنية. واللافت أن السبكي لاحظ أن هناك نقدا لالتزام بعض المسؤولين بالشريعة الإسلامية، حيث توصف عقوباتها باللين أمام نظام الإرهاب الذي اتبعته بعض السلطات المملوكية، وعن هذا يقول: “فإذا رأيت من يعيب على نائب السلطنة انقياده للشرع وينسبه بذلك إلى اللين والرخاوة؛ فاعلم أنه يُخشى عليه أن يكون ممن طُبع على قلبه”.
وتلك الملاحظة التي سجلها السبكي تشير إلى فكرة مهمة، وهي أن المماليك هم أول من أقام قضاء يحكم بالقانون الوضعي (قانون ‘الياسة‘ المغولي) منفصلا عن القضاء الشرعي، فسبقوا بذلك ما فعله الاستعمار الغربي بعدهم بقرون. وكما يقول المقريزي فإن المماليك “فوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية.. وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية..، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكزخان والاقتداء بحكم ‘الياسة‘، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم.. على مقتضى ما في ‘الياسة‘”.
ومن الأفكار المهمة التي وردت في الكتاب نقده للمؤسسة العسكرية المملوكية، وهي مؤسسة الحكم والنخبة السياسية في ذلك العصر؛ فقد حرم السبكي تجنيد الفقير العاجز الذي لا يستطيع أن يدفع البدل، وكذلك انتقد بشدة سياسة تسخير الفلاحين من المجندين في إقطاعيات قادة الجيش لأن “الفلاح حر لا يدَ لآدمي عليه، وهو أمير نفسه”.
كما رفض فكرة أن يستمر الفلاح في الجيش فوق ثلاث سنوات، واعتبر ذلك من قبائح “الديوان” العسكري محتجا على جعل القوانين العسكرية فوق أحكام الشريعة، فـ”من قبائحهم (= العسكر) أنهم إذا اعتمدوا شيئا مما جرت به عوائدهم القبيحة؛ يقولون: هذا شرع الديوان! والديوان لا شرع له، بل الشرع لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا الكلام ينتهي إلى الكفر؛ وإن لم تنشرح النفس لتكفير قائله فلا أقل من ضربه بالسياط”.
مدني وعسكري
ولعل من المدهش حقا في الكتاب تلك الصفحات الطوال التي كتبها لتحليل العلاقات المدنية العسكرية في تلك الفترة، وبتلك الدقة التي تكاد تتماس في الكثير من الأحيان مع إشكالات الجيوش والحياة المدنية في العصر الحديث.فقد رصد السبكي شعور الازدارء الذي كان يسِم سلوكَ العسكر حينها تجاه النخبة العلمائية والثقافية، والتضييق عليها في الرزق؛ فقال إن “من قبائح كثير من الأمراء (= القادة العسكريين) أنهم لا يوقرون أهل العلم، ولا يعرفون لهم حقوقهم”.
وتحدث أيضا عن مظاهر الفساد المالي الذي اعترى المؤسسة العسكرية في زمنه، فلم يتّصف المنتمون إليها حتى بأخلاق “نبلاء اللصوص”؛ فكان رأيه أن الذهب الذي تطرّز به أزياؤهم ونياشينهم لو وُضع في الخزينة العامة و”تداوله المسلمون لانتفعوا به، ورخُصت البضائع، وكثرت الأموال”.
وهذا التلويح بتأميم ثروات العسكر استصحب فيه تفاصيل موقف العز بن عبد السلام حينما رفض فرض ضرائب على الشعب أثناء التحضير لمعركة عين جالوت، وقام بتأميم أموال قادة المماليك من أمثال الظاهر بيبرس وسيف الدين قُطُز (ت 658هـ/1260م).
وفي كلامه عن الوسط العلمي؛ تحدث السبكي عن النعم والنقم التي تسود حياة العلماء، مشيرا إلى ثلاث وظائف رئيسية يجب أن يقوم بها العلماء؛ وهي: التعليم والإفتاء والنصح العام، وشدد على ضرورة أن يتحرر الفقيه من سطوة الدنيا ومن أسر تفاصيلها. وكان من رأيه أن العلم والعقل ليسا هما مفتاح الغنى، وقد يكون طريق الجهل أسرع وأضمن لمن يريد أن يغتني من وراء توسد القضاء من الفقهاء؛ ولذلك أرشد هؤلاء إلى أن الالتحاق بالجيش لأنه أجدى في تلبية طموحاتهم المالية.
ورصد كذلك شراء المناصب القضائية بـ”البرطلة” (الرشوة المالية) ورأى أن هذا يُسقط أحكام القضاة الشرعية، مفندا مزاعم من يقول منهم: “أكرِهت على القضاء”، مؤكدا أنه لم يرَ “مَن أكرِه على القضاء الإكراه الحقيقي..، فقبحها الله تعالى من طائفة”! ثم حذر من بعض المشاكل العلمية التي فشت في عصره مثل آفة التعصب المذهبي، فقال مخاطبا الفقهاء: “وأما حملكم الناس على مذهب واحد فهو الذي لا يقبله الله منكم، ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد. قبح الله مثل هذا الفقيه”!