مع ماكلوهان ضد الماكلوهانية في عصر الميديا الرقمية(نصر الدين لعياضي)_4_
6. الماكلوهانية في البيئة الرقمية
يمكن أن نرصد اتجاهين للماكلوهانية في البيئة الرقمية. الاتجاه الأول ظل وفيًّا لنزعة ماكلوهان الاستعارية؛ إذ اتجه إلى تكييف أطروحاته مع معطيات البيئة الرقمية وتعميقها. واتجاه آخر سعى إلى إعطاء بُعد تطبيقي لها من خلال تنزيل “قانون الميديا” على العُدَّة الرقمية، كالهاتف الذكي، ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك.
يمثِّل الاتجاه الأول مجموعة من الكُتَّاب، مثل: جيفري ريبورت (Jeffrey Report) وويل بروكر (Will Brooker) وشيري توركل (Sherry Turkle)، وغيرهم من الذين اجتهدوا في تفسير ما كتبه ماكلوهان منذ أزيد من نصف قرن على ضوء الواقع الراهن.
ويؤكد ماكلوهان “أننا وجدنا أنفسنا مغمورين في عالم يحدث فيه كل شيء في آن واحد، أي بطريقة كهربائية. فالمعلومة أو الخبر ذاته متوافر في اللحظة عينها في مختلف أطراف العالم… وأنظمة البحث الكهربائية تَعِدُنا بأننا نتذكر أي شيء بشكل آني”(91).
لقد استنتج بعض الكتَّاب من هذه الفقرة أن ماكلوهان تنبَّأ بالهاتف المحمول وبتأثيره الاجتماعي. ورأى جيفري ريبورت أن استخدام هذا الجهاز يجعل منه امتدادًا لذاكرتنا(92). وأكدت شيري توركل أننا نستعمل الهاتف المحمول كامتداد لعقلنا، وكأننا نحمل معنا “أنا” ثانية(93). ورأى ويل بروكر أن الناس يستعملون الهاتف المحمول كواجهة بين العالم الحقيقي والفعلي و”العالم الرقمي”، فتُحوِّل العالم الفعلي إلى بيانات، تُحَسِّنه هذه الواجهة، وتَعْرِضه كطبعة أسمى من العين المجردة(94).
لعل أبرز من يمثِّل هذا الاتجاه هو بول ليفينسون، الذي خصص كتابه: “ماكلوهان الرقمي: دليل للإعلام في الألفية” للبحث عن خصائص العصر الرقمي على ضوء سمات وسائل الإعلام المختلفة من المنظور الماكلوهاني؛ إذ أكد في هذا الصدد أن “جذور العصر الرقمي توجد في الهاتف والمطبعة. إنها أقوى من التليفزيون على الرغم من أن هذا العصر الذي يُعرض علينا في الشاشات أصبح مألوفًا بفضل التليفزيون”(95).
لقد سار هذا الكاتب على خطى أستاذه في مطابقاته التاريخية واستعاراته؛ إذ يذكر أن “الفضاء الصوتي” الماكلوهاني ليس سوى الفضاء السيبري. ويشرح فكرته هذه بالربط بين التواصل عبر الخط (Online) والاتصال الشفهي من خلال سهولة كتابة النصوص على الشاشة وتغييرها، وسرعة إرسالها بشكل تزامني لتُضاهي الاتصال الشفهي. وهذا خلافًا للاتصال المطبوع على الورق. وبهذا يرى أن الاتصال عبر الخط يشبه إلى حدٍّ كبير الاتصال الشفهي؛ فـ”الأصابع لا تتحرك فقط عبر الشاشة بل تفكر”(96).
بالفعل، يعتقد البعض أن التكنولوجيا الرقمية تمنح الفرصة لإثبات صحة رؤية ماكلوهان لوسائل الإعلام؛ إذ يذكر أن كل وسيلة إعلام جديدة تستعين بخصائص الوسيلة التي سبقتها في الوجود وحتى لغتها، مثلما ذكرنا آنفًا، وتستغلها لصقل خصوصيتها وتشكيل لغتها الخاصة. وهذا ما حصل فعلًا مع شبكة الإنترنت التي تَشَكَّل محتواها من وسائل الإعلام التي سبقتها إلى الوجود، وأنتجت “وسيلة هجينة” تجمع خصائص الوسائل السمعية، والسمعية-البصرية، والمكتوبة، وفرضت شكلًا مبتكرًا من الكتابة والقراءة والمشاهدة. ومكَّنت مناصري ماكلوهان من نقل “الأخوَّة الكهربائية” التي بشَّر بها في قريته العالمية إلى “الأخوة الرقمية” التي يعبِّر عنها مصطلح “الوعي الفائق” (Hyper consciousness) الذي يقول عنه الكاتب هيرفي فيشر (Hervé Fischer)” إنه “جماعي ومترابط عبر شبكة الإنترنت، ويشترك فيه الجميع رقميًّا. لقد نتج هذا الوعي من مضاعفة المعارف والمعلومات الطافحة في مواقع التواصل الاجتماعي التي تغيِّر قيمنا وسلوكنا وتمس عواطفنا وتحمِّلنا المزيد من المسؤولية تجاه الآخرين البعيدين عنَّا جغرافيًّا والمختلفين عنَّا ثقافيًّا، فنصبح أكثر تسامحًا واحترامًا للآخرين”.
ويمثِّل الاتجاه الثاني، الذي اتخذ طابعًا تطبيقيًّا، كل من “إيان بوغوست” (Ian Bogost) وغودن تورنس (Godden torrance) اللذين انطلقا في بحثيهما من “القانون” الذي صاغه ماكلوهان، والذي يبدو أنه أكثر منهجية وتبصُّرًا من كل مقولاته لكونه يوفر أداة عملية لدراسة الميديا ويضع أفكاره موضع التنفيذ. وينص هذا القانون على أن لكل وسيط اتصالي أو إعلامي تأثيرًا يمكن حصره في أربع فئات، وهي: التحسين والتعزيز، والتقادم، والاسترجاع، والتحويل(98). بمعنى أن دراسة أي “ميديا” تتطلب النظر إلى تكنولوجيا الاتصال التي سبقتها، وبماذا تجاوزتها، وما الإضافات التي قدَّمتها أو التعديلات التي أدخلت عليها. فالإذاعة وفق هذا القانون حسَّنت الأخبار (مقارنة بالصحافة، لكن لا نعرف كيف؟ هل على المستوى الكمي أم الكيفي؟ ربما الأصح على مستوى النقل الآني للأحداث) وحسَّنت الموسيقى. وقلَّلت من أهمية المطبوع والصورة (هل تقدَّمت عليهما؟)، واسترجعت مكانة الكلام (أعادت مكانة الاتصال الشفهي).
يُصحِّح إيان بوغوست تقييمنا لقانون الميديا المذكور، ويرى أنه استعارة تلائم جدران موقع شبكة فيسبوك. ويدعونا إلى مساءلة دور هذا الموقع، وتخيُّل التغيير الثقافي والاجتماعي الذي يمكن أن يحدثه في امتداد الأجساد والأذهان من خلال الفئات الأربعة المذكورة أعلاه، ويستنتج في الأخير أن موقع فيسبوك ليس مجرد وسيط، بل إنه بيئة إعلامية. واقترح إضافة فئة خامسة إلى قانون الميديا المذكور، تتمثَّل في تطوير موقع فيسبوك ذاته(99).
الجدول (2) يبيِّن ما أحدثه موقع فيسبوك من تأثير وفق القانون الرباعي لماكلوهان(100)
يعزِّز/ يحسن | يتحول إلى | يسترجع | يهمل/يزيل |
– دليل الهاتف – جهاز الرد الآلي – لوحة إعلانات – سجل الأسماء، كتابة اليوميات – الآنية (الجدة) والشهرة | حياة جامعية، المراهقة، المدرسة الثانوية | البلدة الصغيرة، القرية، والشارع الرئيسي، والتسكع، ومحل المشروبات الغازية، الممرات، تدوين اليوميات الحميمية، والصحف. | الاجتماعات الوقت، الذاكرة، الماضي، السر. |
وعلى الرغم من تأكيد ماكلوهان أن قانونه هذا يستند إلى مقاربة بنيوية ومتزامنة ويضمن وجودًا آنيًّا للفئات الأربعة(101) إلا أن تطبيقه أسفر عن نتائج بسيطة جدًّا وفوقية وعامة. والسبب في ذلك لا يكمن في تحييده لمستخدم فيسبوك وسياق استخداماته، بل بالنظر إلى ما توصلت إليه البحوث الاجتماعية التي تناولت بالدراسة دور مواقع التواصل في تشكيل رأس المال الاجتماعي(102)، والتنشئة الاجتماعية، والدراسات النفسية التي ركزت على “تخريج ما هو حميمي” (extimacy) “في مواقع التواصل الاجتماعي، ودكِّ الحدود بين ما هو خاص وما هو عام(103)، والدراسات السياسية التي لم تكتف بالإشارة إلى قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على التنظيم، وسرعة تداول الأخبار وتقاسم المعلومات التي تُنَشِّط الفعل النضالي. هذا إن صرفنا النظر عن مبالغتها في القدرة التجنيدية والنضالية للعُدَّة التقنية إلى درجة أن المناضلين أصبحوا يُعَرفون بالمنصات الرقمية التي يستعملونها في نضالهم أكثر من القضايا التي يدافعون عنها. وأصبحت بعض الثورات توصف بهذه العُدَّة، مثل ثورة “تويتر” في بلد يقِلُّ فيه عدد المشتركين في هذا الموقع(104).
فعلى الرغم من تأكيد ماكلوهان على مفهوم البيئة إلا أن تطبيق قانونه على الميديا الرقمية لا يُمكِّن الدارسين من الغوص في عمق ما أفرزته، أي فيما أصبح يُعرَف بالميديا الهجينة التي تسعى إلى تحقيق التوازن، بهذا القدر أو ذاك، بين منطق وسائل الإعلام التقليدية المتمثل في التوزيع والتلقي، ومنطق الميديا “الجديدة” القائم على الانتشار والتفاوض(105).
وبتركيزه على العُدَّة التقنية، أغفل “قانون الميديا الماكلوهاني” القطب المهم في الظاهرة الإعلامية، أي المتلقي/المستخدم، وطابق بالتالي، من حيث لا يدري، بين جمهور الميديا التقليدية (صحف، ومجلات، وإذاعة، وتليفزيون)، الذين يقتصر نشاطهم على القراءة والاستماع والمشاهدة، ومستخدمي الميديا الاجتماعية الذين اتسعت ممارساتهم، وتعمَّقت وتنوَّعت، لتشمل المراقبة، والتحري، والمسح الضوئي، والنظر، ومشاهدة ما يُعرَض في الشاشة عبر الخط، والقراءة، والاستماع، والبحث، والتحميل والتخزين، والنقر على الأيقونات والروابط الرقمية، والتعليق، والتعبير عن الإعجاب، وإعادة التوزيع أو النشر، والتشارك، وكل ما ينجرُّ عن هذه الممارسات على الصعيد الاجتماعي والثقافي.
يسمو قانون “الميديا” الماكلوهاني، في تعميمه، على المجتمع، ويغفل أن الاتصال “يتموضع في نهاية المطاف داخل مجتمع معين، ويُنفَّذ بأدوات مجتمعية معينة”(106). وهذا يعني عمليًّا أن ما تفعله العُدَّة التقنية في هذا المجتمع على سبيل المثال لا يتطابق حرفيًّا مع ما تُحدثه في ذاك المجتمع، لأنها تنغرس في التقاليد الاتصالية في المجتمع فتحيي موروثه الثقافي أو تفكِّكه أو تستغني عنه(107).