من تاريخ مؤسسة الاستخبارات في الإسلام(براء نزار ريان)_5_
رصد دقيق
وممن عُرف بكفاءة مخابراته الخليفة العباسيّ الناصر، حتى إن المؤرخين يذكرون من قوتها أنه كانت تُرفع إليه التقارير متضمنة تفاصيل الموائد المقدمة للضيوف، ويوردون قصصا في ذلك!! ويحكون أنه “كان له ‘أصحاب أخبار‘ يطالعونه بما يحدث وما يرونه من الأمور في كل صَقْع (= ناحية)، فخافه الناس خوفًا شديدًا وهابوه، وكان الإنسان في العراق لا يجسر أن يجري في بيته وخلوته ما يَخاف الإنكارَ عليه منه، حتى كان يتوهم من أهل بيته وأخص الناس به أن ينقل خبره إلى الخليفة”!؛ حسب تعبير ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م) في ‘مفرِّج الكروب‘.
وقبله اشتهرت سطوة مخابرات الحاكم الفاطمي (ت 411هـ/1021م) التي دخلت كل بيت فسجلت حتى تفاصيل قصص الحب بين الرجال والنساء؛ فابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) يخبرنا -في ‘المنتظم‘- أنّه “رَتّب في كل درب (= شارع) ‘أصحاب أخبار‘ يطالعونه بما يعرفونه، ورتبوا لهم عجائز يدخلن الدُّور ويرفعن إليهم أخبار النساء، وأن فلانا يحب فلانة وفلانة تحب فلانا، وأن تلك تجتمع مع صديقها وهذا مع صاحبته، فكان ‘أصحاب الأخبار‘ يرفعون إليه ذلك، فيُنْفِذ (= يرسل) من يقبض على المرأة التي سمع عنها مثل ذلك، فإذا اجتمع عنده جماعة منهن أمر بتغريقهن، فافتضح الناس وضجوا من ذلك”!
ثم لم يلبث الحاكم الفاطمي -في إحدى نوبات تقلب قراراته المعروفة- أن انقلب على مخابراته سنة 399هـ، فـ”قتل ‘أصحاب الأخبار‘ عن آخرهم لكثرة أذيتهم الناس بالكذب عليهم وأخذهم الأموال من الناس”؛ طبقا للمقريزي في ‘اتعاظ الحنفا‘.
أما قصص متابعة المنتقدين لأداء السلطة والملاحقة على مجرد الكلمة الاحتجاجية فزاخرة متكاثرة، مهما كانت هامشية موقع المنتقِد؛ فنجد مثلا في ‘الإنباء في تاريخ الخلفاء‘ لابن العمراني (ت 580هـ/1184م) أن المعتضد العباسي (ت 289هـ/902م) “كان له ‘أصحاب أخبار‘ يرفعون إليه كل ما يجري في الأسواق، فرفع إليه بعض ‘أصحاب الأخبار‘ أن إسكافًا (= صانع أحذية) قال لقطّان (= بائع قطن) وقد طالبه بدين كان له عليه وكان يمطله به: ما بقي للمسلمين من ينظر في أحوالهم”! فغضب المعتضد لذلك وأرسل إلى هذا الإسكاف المسكين من يُرهبه!!
وبسبب كثرة الوشاة الذين كانوا يتجسسون على المثقفين والعلماء في حلقات تدريسهم؛ استجاز فقهاءُ -لأنفسهم وتلامذتهم- الكذبَ خلال جلسات التحقيق الأمنيّ معهم. فقد نقل الذهبيّ -في ‘سير أعلام النبلاء‘- عن أحد تلامذة الإمام والوزير الكبير رجاء بن حيوة (ت 112هـ/730م) أنه قال: “كنا مع رجاء بن حيوة، فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحدٌ يقوم بشكر نعمة! وخلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: ولا أميرُ المؤمنين؟ فقلنا: وما ذِكْرُ أميرِ المؤمنين هنا؟! وإنما هو رجل من الناس.
قال (= تلميذ رجاء): فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أُتِيتم من صاحب الكساء! فإن دُعيتم فاستُحلفتم فاحلفوا [كذباً]. قال: فما علمنا إلا بحرسي قد أقبل عليه، قال: هيه يا رجاء! يذكر أمير المؤمنين، فلا تحتج له؟!”، فأنكر رجاء الواقعة وحلف على ذلك تقيّةً، فرجع الحرسي إلى الواشي فضربه على وشايته “الكاذبة”!!
كمائن ودوريات
كان من الترتيبات الأمنية للدول تسيير كمائن عسكرية تُسمّى “المسالح” لمراقبة الحدود بين الأقاليم، وكثيرا ما كانت مصحوبة بمكلفين بمهمات استخباراتية؛ فقد ذكر الأصفهاني (ت 356هـ/966م) -في ‘مقاتل الطالبيين‘- أنه حين قرر العباسيون ملاحقة إدريس العلوي (ت 177هـ وهو مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب) وضعوا “على الطريق مسالح ومعهم ‘أصحاب أخبار‘ تفتش كل من يجوز الطريق”.
وفي مواجهة تفتيش مُخبري هذه “المسالح”؛ كانت تجري مراسلات سريّة يتفنن أصحابها كثيرا في طرق إخفائها؛ فالطبريّ يقول -في تاريخه- إنه قـُبيل اندلاع صراع الأمين (ت 198هـ/814م) والمأمون العباسييْن على عرش الخلافة (193-198هـ/808م -813م) اهتمّ وزير الأمين “الفضل بن الربيع (ت 208هـ/823م).. بالمراصد لئلا تُجاوِزُ الكتبُ الحدَّ (= الحدود)، فكتب الرسولُ (= رسول المأمون ببغداد) مع امرأة، وجعل الكتاب وديعةً في عُودٍ منقور من أعواد الإكاف (= برذعة الحمار)، وكتب إلى ‘صاحب البريد‘ بتعجيل الخبر. وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمُجتازة من القرية إلى القرية، لا تُهاج ولا تفتَّش! وجاء الخبر إلى المأمون موافقًا لسائر ما ورد عليه من الكُتب” بشأن تآمر الأمين عليه لخلعه من ولاية العهد.
تعددت فروع الاستخبارات الإسلامية؛ فكان منها الفرع المدني المعروف بـ‘صاحب الخبر‘ عند الإطلاق، ومنها الفرع العسكري الذي كان يُدعى ‘صاحب خبر العسكر‘، وفي العهد الأيوبي والمملوكي أصبح يسمى ‘اليَزَك‘.
وبتعدد الفروع كثرت مصادر المعلومات من عيون وجواسيس، وأتقنوا سُبُل التخفّي والتمويه والتشفير حتى وضعوا فيه كتب “فنّ المُعمَّى” الخاص بتعليم كيفية تركيب “الشيفرة” وحلّها، كما تنوعت طُرُقهم في توصيل التقارير حتى باستخدام الحمام الزاجل الذي كانوا يسمونه “الحمام الرسائلي” أو “طير البطائق”، أي قصاصات الورق الصغيرة التي يحملها متضمنة الأخبار بكتابات مختصَرة ومشفَّرة يسمونها “المُلَطَّفات”.
ويحدثنا القلقشندي عن كيفية استخدام هذا الحمام عبر أبراج تشغيل تعتبر “مطارات” لرحلاته الاستخباراتية؛ فيقول إنه “جرت العادة أن تُكتب بطاقتان وتؤرخان بساعة كتابتهما من النهار، ويعلّق منهما في جناح طائر من الحمام الرسائلي ويرسلان، ولا يُكتفَى بواحد لاحتمال أن يعرض له عارض يمنعه من الوصول إلى مقصده. فإذا وصل الطائر إلى البرج الذي وُجِّه به إليه، أمسكه البرّاج (= عامل البرج) وأخذ البطاقة من جناحه وعلّقها بجناح طائر من حمام البرج الذي يليه..، حتى ينتهي إلى برج القلعة [بالقاهرة]، فيأخذ البرّاجُ الطائرَ -والبطاقةُ في جناحه- ويحضره بين يديْ الدَّوادار الكبير (= سكرتير السلطان) فيُعرَض عليه، فيضع البطاقة عن جناحه بيده”.
ومن العجب أن “واجهات عمل” أجهزة المخابرات القديمة لا تختلف كثيرا عما يدور اليوم في العمل الاستخباري بأنحاء العالم. ومن ذلك أنهم كانوا مثلا يتخفّون في صورة تجّار يجوبون البلدان ببضائعهم، فياقوت الحمويُّ (ت 626هـ/1229م) يحكي -في ‘معجم البُلدان‘- أن المنصور أمر -بناء على نصيحة أحد بطارقة الروم- بإنشاء الأسواق خارج سور بغداد، لأنه “يوافي الجاسوس من جميع الأطراف فيدخل [المدينة].. بعِلّة التجارة -والتجار هم بُرُدُ (= جمع بريد) الآفاق- فيتجسس الأخبارَ ويعرف ما يريد، وينصرف من غير أن يعلم به أحد”!
وتارةً يتخفّى هؤلاء الجواسيس في صورة متسوّل رثّ الثياب، حتى إنه صار يُتَّهم بالتخابر من تقشف جدا في ملبسه من العلماء والزهاد؛ ويذكر الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن الإمام الزاهد أبا الفضل العجلي (ت 454هـ/1062م) “دخل كرمان (= تقع اليوم بإيران) في هيئة رثّة..، فحُمل إلى الملك وقالوا: هو جاسوس”! ثم لما عَلِم الملك حقيقته أكرمه وعظّمه. ويخبرنا الدَّواداري (ت بعد 736هـ/1335م) -في ‘كنز الدرر‘- أنه “بسبب مَنْ تزيَّا مِن الجواسيس بِزيّ الفقراء (= الصوفية) قُتِلَ جماعةٌ من الفقراء الصلحاء رجمًا بالظن” أنهم جواسيس!!
وربما أثار الشكَّ الأمنيَّ في العلماء وطلبة العلم أن يظهروا بزي لافت غير مألوف لأمثالهم حتى ولو لم يكن متقشفا؛ وقد يؤدي ذلك إلى حرمانهم من المشاركة في حضور جلسات التحصيل العلمي لأساتذتهم؛ فقد أورد الإمام مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ/1209م) -في ‘جامع الأصول‘- في ترجمة الإمام المحدِّث النسائي (ت 303هـ/915م) -صاحب كتاب ‘السُّنن‘- أنه دخل مصر طلبا للحديث، فلما جاء إلى قاضيها المحدّث الحارث بن مسكين المالكي (ت 250هـ/864م) “لم يمكنه حضور مجلسه” العلمي!!
ويضيف ابن الأثير أن إحدى الروايات تعلل ذلك المنع بأن “الحارث كان خائضا في أمور تتعلق بالسلطان (= ينتقد السلطة)، فقدم أبو عبد الرحمن [النسائي] فدخل إليه في زيٍّ أنكره، قالوا: كان عليه قَباءٌ (= قفطان) طويل وقَلَنْسُوةٌ (= غطاء رأس) طويلة، فأنكر زيَّه وخاف أن يكون من بعض جواسيس السلطان، فمنعه من الدخول إليه”.
ولذلك كان النَّسائي حين يأتي حلقة الحارث العلمية “يستتر في موضع ويسمعـ[ـه] حيث لا يراه، فلذلك تورَّع وتحرَّى” في روايته عنه التزاما بالأمانة العلمية، فكان “يقول في كتابه: «[قال] الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع»، ولا يقول فيه: «حدثنا» ولا «أخبرنا» كما يقول عن باقي مشايخه”!!