في أن الثقافة والعدالة أساس التحضر(إدريس مقبول)
في الكتاب الثاني من الجمهورية، جعل أفلاطون مقدمة الكلام على المدينة السعيدة هو تحقيق العدالة، والعناية بالعدالة ومقتضاها من الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية التي من غيرها لا رجاء في أي تقدم ولا نهوض، ولهذا فإننا نرى أن إصلاح حياة الناس اليوم في المدينة العربية متوقف على النهوض بكافة احتياجاتهم المادية والمعنوية، إذ من الصعب تخليص المواطنين من مشاعر اليأس والإحباط بالخطط الكلامية من غير حدوث تحسن في أوضاعهم اليومية والمعيشية.
لقد كان هناك دائما من يميل إلى اختزال التقدم في تبني نموذج صناعي وحضاري على غرار ما حصل في أوربا، دون التفكير في المقدمات “الثقافية” التي هي بمنزلة الشروط الحيوية لحصول “الحركة في اتجاه التمدين الإنساني”، ذلك أن المسألة الحضرية لا تتلخص في التصنيع ولا في “الحالة الاستهلاكية” المتصاعدة بدون وعي ، والذي نتوقع أنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى التحديث، إن هذا التحول مبسط ومسطح: إن ما حصل في أوربا لم يحصل في البلاد العربية، أو حصل على نحو لم تراع فيه لا الأبعاد الثقافية- التاريخية ولا الأبعاد السياسية- الاقتصادية ولا حتى البيئية والجمالية، فنتجت عنه “مدينة مشوهة”، إن السؤال إذن يتعلق بأي مدينة لأي مجتمع؟
إنه من النادر أن تجد مجتمعا راقيا يتطلع فيه أفراده إلى تطوير مستويات حياتهم وفق ما يقتضيه تكافؤ الفرص، ويسعون إلى الإسهام في نهضة وطنهم، وهم مبتلون بإهدار الكرامة وبالتفقير المادي والمعنوي..
إننا في حاجة ماسة لأن نفيد في تخطيط مدننا من استلهام الروح العربية في الصياغة والتشكيل، لأن لكل أمة روحها، والتي منها الروح الموسيقية والشعرية في تناسقها، مع الاعتماد أيضا على ما يفترضه المستقبل من حاجيات مستجدة يدفع في اتجاهها العصر والتطور، ذلك أنه لا يمكننا أن ننفصل عن العالم ، بيد أن اتصالنا به يجب أن يكون من موقع واع وحي.
يخبرنا أستاذنا الحبابي أن “للحضارة الصناعية بنياتها الخاصة، فلا يكفي أن نسوق سيارة، ونركب طائرة، ونسافر في بلدان تلك الحضارة لنكون منها. كثير هي الشعوب التي تمتلك آلات دقيقة ومعامل صناعة كبرى(المفاتيح في اليد)، لكن السر ليس في العنديات، بل في تكييف الكينونة والذهن والرأي مع الفكر المتصرف في المعطيات، الفكر المبدع، الصانع والمدبر والمنظم”.
لقد عرفت مجتمعاتنا حداثة شكلية(ما يسميه البعض حداثة الأواني في مقابل حداثة المعاني) لم تتجاوز حدود المظاهر ورسوم “الأشياء” وعمليات “النقل الأصم” للأشكال التي أفرغناها من مضامينها، انتقلنا إلى “المدينة” بوثوقياتنا وسلطويتنا وطائفياتنا ومركزيتنا وقداسة نظامنا في السلطة والحكم، ولهذا فشلنا كما يقول زكي نجيب محمود” حتى الآن في اللحاق بركاب العصر، أي أننا نعيش مرحلة زمنية من الغيبوبة أو من التخلف الحضري”، كل ذلك لأننا غفلنا عن سؤال المشروع المجتمعي الذي تتطلبه “مدينتنا”، وأسئلة “الإنسان” و”الثقافة” و”اللسان”.
إن “الثقافة” هي التي تعطي مضمونا للمدينة ولكينونتنا الحضرية، وعدم إدراكنا لهذه الحقيقة، وظننا أن الاستثمار في عالم الأشياء أو الرأسمال المادي فيه كفاية وغُنية، هو الذي زهدنا في الاستثمار في ميادين المعرفة أو الرأسمال غير المادي، وهذا مسار مضلل ويجلب الكثير من المتاعب للإنسان يجب الانتباه إليه.
إننا نعتقد أن العناية بهذه الأسئلة هو من قبيل العناية بما هو داخلي وأساسي وجوهري في الكينونة الحضرية، وانحطاط الداخل وتخلفه ينعكس قطعا على طبيعة علاقاتنا مع الخارج، حيث لا يمكن أن تقيم كينونةٌ ضئيلة ٌعلاقات متكافئة مع كينونات قوية ومتفوقة.