أضواء على النقابات المهنية في حضارة الإسلام(مختار خواجة)_5_
تحوّل تاريخي
وكان لهذه النقابة مكانة قانونية ورسمية مرموقة كإحدى المؤسسات الشرفية في الدولة الإسلامية، وهو ما عكسته مباحث كتب الفقه السياسي منذ القرن الخامس الهجري/الـ11م؛ فقد جاء في ‘الأحكام السلطانية‘ للإمام الماوردي (ت 450هـ/1059م) بسط لكيفية التعيين فيها وبيان لصلاحياتها.
وطبقا لما أورده الماوردي؛ فإنه كان من أهم مسؤوليات متوليها فيما يتعلق بعلاقتهم بالمجتمع والدولة: “أن يكفَّهم (= أبناء البيت الهاشمي) عن ارتكاب المآثم، ويمنعهم من انتهاك المحارم”، وأن “يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم”، وأن “ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامة”، وأن “يقوِّم (= يعاقب) ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود”، كما عليه “مراعاة وُقوفهم (= أوقافهم المالية) بحفظ أصولها وتنمية فروعها”.
ومن الواضح أننا نجد في هذه الصلاحيات تشابها واضحا مع كثير مما استقرت عليه لاحقا تقاليد النقابات المهنية من رعاية أخلاق المنتسبين، ومعاقبة الخارجين على أعراف المهنة والمخلين بما يحفظ سمعة منتسبيها، وكذا حماية مصالحهم المادية، وتمثيلهم أمام السلطات الرسمية.
ومنذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي؛ بدأت التنظيمات النقابية تتجاوز إطارها الاجتماعي السياسي لتصل إلى دوائر الحِرف والصناعات، التي حفزتها تطورات المجالات الاقتصادية والعمرانية على تنظيم نفسها، واعتماد أشكال من التكتل الفئوي تحفظ للصناعة أعرافها المهنية ولممارسيها حقوقهم الاقتصادية، وتؤمِّن للسلطة مستوى من الرقابة والضبط لتلك المهن والصناعات باعتبارها مرافق خدمية يؤثر أداؤها في مصالح المجتمع.
وقد كانت الصلة بين السلطة وأرباب الصنائع (القطاع الخاص) تدور بين جهازين رسميين: مؤسسة القضاء وهيئة الحسبة، مع العلم بأن الدوري يرى -في الأول من مقاليْه المذكوريْن سابقا- أن “أول إشارة لوظيفة المحتسب تعود لخلافة المعتضد (العباسي ت 289هـ/902م)” الذي حكم خلال 279-289هـ/892-902م.
ويذهب شوقي ضيف -في ‘تاريخ الأدب العربي‘- إلى أن التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها النصف الأول من هذا القرن كان من نتائجها أنْ “نشأت طبقات كثيرة حينئذ من الحِرَفيين أو المهنيين..، فكان لكل حرفة أصحابها الخاصُّون.. [إلى درجة تبلغ] الاختصاص الدقيق، ولا ريب في أن ذلك هو الذي أدى إلى أن تنشأ في العالم العربي من قديم فكرة النقابات للحرفيين والصناع، وإن كانت حينئذ لا تعدو دَوْرَ النشأة البسيطة”.
وهذا التحول الواضح -الذي شهده هذا العصر- هو ما جعل المستشرق ماسينيون “يعطي.. رأيا أقرب للقبول -في بحثه في ‘دائرة معارف العلوم الاجتماعية‘- فيبين أن النقابات [الحِرَفية] نشأت في البلاد الإسلامية في القرن التاسع الميلادي (= القرن الثالث الهجري)”؛ طبقا لما ينقله عنه الدوري.
وقد أيد ماسينيون في ذلك التحديد لبداية نشأة النقابات الحرفية زميلُه برنارد لويس -في مقالاته السابقة الذكر- عندما رصد في هذا القرن “تطورا ظاهرا فيما يسمي بالأصناف الإسلامية، وحينئذ نجدها من نوع لا يصح تعليله بالتأثير أو التراث البيزنطي”، وذلك لأن “هذه النقابات كانت من نوع يختلف تماما عن النقابات الموجودة قبل الفتح الإسلامي”!!
على أن الخلل الذي أصاب التحليل التاريخي لهذين الباحثين هو أنهما جعلا نشأة النقابات حادثة في نهايات هذا القرن، وذلك لكي تستقيم لهما دعوى الدور الإسماعيلي/القرمطي فيها، بينما الواضح أن التأريخ لها ببدايات القرن هو الصحيح لانسجامه مع حركة الأحداث، واتساقه مع تطور النماذج النقابية من بُعدها القَبَلي البحت إلى وضعها المؤسسي الفني الخالص.