في فلسفة التسويات التاريخية(إدريس مقبول)_1_
التسويات في مسارات الشعوب تأتي نتيجة الشجاعة والحكمة والنضج، وعلى قدر ما تحمل التسويات من تعبير ضروري عن تنازلات أطراف النزاع في المجتمع عن سقف أحلامهم وقناعاتهم الثابتة للاقتراب من بعضهم البعض، فإنها تعكس يقظة الوعي الجماعي لتفادي الوقوع في شقوق التاريخ الضيقة التي يؤدي الجميع ثمن الخروج منها بلا استثناء.
التسويات في جوهرها آية على قناعة جذرية بالتغيير الذي لا تستقيم الحياة إلا به، فضلا عن أنها آية على فضيلة التفكير التي تتعالى على طور استعراض العضلات والقوة أو التلويح بأدوات العنف الذي ليس سوى إقرار بتسلط الطبيعة المائعة وحجبها لعناصر الثقافة والتربية المتزنة، ذلك أن جميع المشاكل في العالم يمكن تسويتها بسلاسة إذا كان الناس على استعداد فقط للتفكير المبدع بدل تعلقهم بالقناعات الجامدة، فالمشكلة هي أن البشر في العموم غالبا ما يفرون إلى كهوف معتقداتهم من أجل عدم التفكير، فالقناعات والمعتقدات في الغالب جمل جاهزة ومتكلسة، والتفكير عمل مضن وشاق.
من جهة أخرى التسويات لا تسمى تاريخية بالفعل إلا إذا قادها الأحرار لا التجار، فالتجار في السياسة خريجو مدرسة الغش، ولا يُراهَن على تسويات يباشرها ويُشرف عليها غشاشون محتالون بلا ضمير يوثرون مصالحهم الشخصية على مصالح الجمهور.
إن التسويات التاريخية لا تكون كذلك إلا إذا كانت أخلاقية وتحققت فيها مصالح الجمهور بالدرجة الأولى، وحافظت أطراف التسوية فيها، بنكران للذات، على أولوية الاستقرار والتماسك فضلا عن تحمل كل القادرين فيها وتقاسمهم لعبء المرحلة ماديا ومعنويا.
ولاشك أن الابتزاز مُضر بالتسويات التاريخية، فالتسويات ليست لحظة تَشَفٍّ ولا مكان فيها لمشاعر الانتقام، ولا هي لُعبة لَيّ ذراع للعناصر الهشة أو الأقل حظا في النزاع، لأن من ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية يفقد بُعد النظر اللازم لاستشراف المستقبل، فمن كان ضعيفا اليوم لن يبقى ضعيفا إلى الأبد، ومن ذاق ألم الهزيمة في أزمنة التسوية فإنه يقع فريسة للمشاعر السوداء، وتعايشه لن يكون إلا تربصا مستمرا وتحيُّنا أعمى للانتقام.
في تاريخ الأمم التي تحررت وانطلقت للمستقبل، لابد أن نستحضر حقيقة أن التسويات الناقصة أو الماكرة أو الملتوية لا تعتبر إلا إطالة لعمر الأزمات ومزيدا من الحطب لألسنة النار التي تبدأ في الأطراف والسفوح ثم ما تلبث أن تزحف شيئا فشيئا إلى القمة.