اللغة عالم روحي وسيط(عز العرب لحكيم بناني)_1_
كان ليو فايسغيربر عالماً لغويّاً ألمانياً ولدَ في مدينةِ ميس. تنتمي هذه المدينة إلى ولاية الألزاس واالورين التي كانت ولايةٌ كانت تابعةً للرايخ الألماني إلى حدود 1918. وبعد أن استردَّ الفرنسيون هذه الولاية من الألمان، لم يسمح المناخ الثقافي باندماج فايسغيربر في الحياة الجامعية الفرنسية، فانتقل في تدريس العلوم اللغوية طيلة في الجامعات الألمانيّةِ. وقد كانت ظروف الحرب العالمية الثانية مواتية سمحت له بأن يقضي مرحلةً قصيرةً في المنطقة البريتانية التي كانت مسقط رأسه، واستغل هذه الفترة للأنشطة الثقافية في محطة الراديو وللبحث في اللغة البريتانية؛ ولكنه اعتُبِرَ من لدن خصومه مسؤولا عن الاستثمار السياسي للغة.
لا شك في أن فايسغيربر قد قدَّم دعما كبيرا للدراسات اللغوية المحلّيةِ، ولإعادة الاعتبارِ إلى الثقافةِ المحلية، ولكنه وجد نفسَهُ متورطاً في استثمارٍ سياسيٍّ يعتبرُ العلماء أوَّلَ ضحاياه. وإذا لم يكن أحد يبارك الاستثمار السياسي للعلم، كما كان عليه الأمرُ فيما نطلق عليه “العلم الكولونيالي” Science coloniale في المغرب إبّان الحماية، فإنَّ ذلك لا ينفي الصلة الوثيقةَ الموجودةَ بين اللغةِ والثقافة والفكر. وعليه، فإنَّ النسبيّةَ اللغوية التي دافع عنها فايسغيربر تحمل في ذاتها نسبيّةً ثقافيةً تجعل العالمَ الذي نرجع إليه مُحمّلاً بأبعادٍ ثقافيّةٍ تحجبُهُ عنّا على الدَّوامِ. بهذا المعنى لم يدافع فايسغيربر عن الانفصال السياسي بقدر ما دافع عن التعدّديّة الثقافيةِ التي تعيد توزيع العلاقة بين الأمم على أسسٍ أخرى غيرِ الأسسِ السّياسيّةِ. من هذه الوّاوية نفهم الاصطلاحات الخاصة التي ابتكرها فايسغيربر، وهي التي اعتبرت أنَّ الشَّكلَ لا ينفصلُ عن المضمون inhaltbezogenen Grammatik. [1] وقد انتقد فايسغيربر الرأي الساذجَ الذي يعتبر أنَّ اللغة تخدُمُ وظائفَ الإنشاءِ والتبليغ والتواصُلِ. لا يحقُّ لنا أن نختزلَ اللغة في تلك الوظائفِ كما لا نختزلُ الماء في وظيفتي الاغتسال والشُّربِ.[2]ذلك أنَّ الحكمة من وجود الأشياء لا ينبغي أن تُختزَلَ في الظواهرِ العينيّةِ. فالوجود هو الوجودُ الذي يوضع أمام الوعي „Bewusstes Sein“[3]. وعليه، فإنَّ اللغةَ من جانبها طاقةٌ تكوينيّةٌ تبتكرُ العالمَ المعيشَ على نحوٍ جديدٍ. كما أنَّ اللغاتِ الجزئيّةَ تساهم في صيرورة الابتكارِ من خلال التشكيلِ اللغويِّ للعالمِ.[4]وبما أنَّ اللغةَ تبتكرُ العالمَ على نحوٍ غيرِ مسبوقٍ، في صورةِ الوجودِ الواعي داخل الوعي، تنبثقُ العلاماتُ اللغويّةُ ذاتُها من النّشاطِ الرّوحي ومن تحويل العالمِ الفيزيائي إلى “عالمٍ رُوحيٍّ وسيطٍ” „geistige Zwischenwelt“. من منظور نحوِ المضمون inhaltbezogenen Grammatik. وقد اعتبر فايسغيربر بحكم ذلك أنَّ من يتصورُ أنَّ العلاقاتِ الدلاليةَ قائمة على الثّنائيةِ اللسانيّةِ (المفردة / الشيء) يعتنق تصوُّراً ساذجاً بالمقارنة مع من يعتبرُ أنَّ المفرداتِ تُحيلُ على الأشياءِ بناءً على مضمونها الرّوحي. يتوسَّطُ المضمونُ العلاقةَ بين المفردةِ والشيءِ ويُحوِّلُ الموجوداتِ المادّية إلى كائناتٍ روحانيّةٍ.
[1] Leo Weisgerber: Von den Kräften der deutschen Sprache. Band 1, Grundzüge der inhaltbezogenen Grammatik: Düsseldorf, 1971.
[2] Weisgerber, a. a. O. S. 10.
[3] Weisgerber, a. a. O. S. 38.
[4] Weisgerber, a. a. O. S. 23.