الرّوح والثقافةُ داخل العقلِ(عز العرب لحكيم بناني)_2_
بناءً على نفس المعطى تمجِّدُ الجماعةُ اللغويّةُ اللغةَ الوطنيّةَ التي تقوم على الحسِّ اللغوي الرّوحي. ولذلك ظهر اهتمامٌ متزايدٌ باللغاتِ بالمقارنةِ مع اللهجاتِ. تنقرضُ اللهجاتُ “عن طيب خاطرٍ ودون إبداءِ مقاومةٍ، مثلما حدث مع لغات الجزيرة الأيبيرية ولغات بلاد الغال، والسّببُ الغالبُ في ذلك هو أنَّ انقراضَها يعني الارتقاءَ إلى جماعةٍ لغويّةٍ أسمى. والحالُ أنَّ الأمرَ ليس كذلكَ على الدَّوامِ. لا تزالُ اللغةُ الوطنيّةُ لبلادِ إيرلاندا على سبيل المثال تحاول قدرَ الإمكانِ أن تقاومَ هيمنةَ اللغةِ الإنجليزيّةِ بعد أن تراجعت الإيرلاندية إلى منزلةٍ متدنّيةٍ كمجرَّدِ لهجةٍ؛ كما أنَّ لغة الرّومانش في سويسرا تقاوم اللغةَ الألمانيّةَ؛ وقد اقترضت لغة الرّومانش سلاحَ الدفاع عن الذات من جارتها الجنوبيّةِ في صراعها ضدَّ الغُزاةِ القادمين من الشّمالِ، أي أنّها اقترضت سلاحها من اللغةِ الإيطاليّةِ وتأثَّرت نتيجةَ ذلك بالإيطاليّةِ.”[1] وقد كان فوسلر واعياً تمام الوعي بأنه من الواجب أن نناضل بكلِّ تصميمٍ من أجل اللغة الأمِّ “ما دمنا قد اكتسبنا شعوراً حيّاً ومتبصِّراً بأنَّ الأمرَ يتعلّقُ ببقاء السّلالةِ التي ننتمي إليها وببقاءِ الخصوصيّةِ القوميّةِ والانتماءِ الوطني.”[2] وقد أبرز هاينريش هاين Heinrich Heine عن حقٍّ كيف أنَّ مارتين لوثر Martin Luther قد ابتكرَ اللغةَ الألمانيّةَ بفضل ترجمةِ الكتاب المُقدَّسِ. ذلكَ أنّ لوثر كسا الرّوحَ الألمانيةً لحماً ورداءاً لغوياً. ذلكَ أنَّ الترجمات القديمةَ للأناجيل إلى اللغة الألمانية كانت مثقلةً بالمعجم اللاتيني الذي اتّخذَ سمةَ القداسةِ وحافظ عليه المترجمون كما هو في اللسان الألماني الركيك، ممّا حال دون أن يفهَمَه المُواطن الألماني البسيطُ الذي كان أمّياً ولا يعرف اللغة اللاتينية. ولذلك كان المتديّنُ البسيط ملزماً بالعودةِ إلى التفسير الذي يقدمه رجال الكنيسة الكاثوليك لمعاني المفردات الأجنبية في المبثوثة في الكتاب المقدس. وقد كان الفضلُ الكبيرُ الذي يَدين به الألمان إلى لوثر هو أنه حرّرَ فهم النصوص المقدسة من العودة إلى مؤسسة التأويل الكاثوليكية، كما تخلَّصَ لوثر في ترجمته من طابعِ القداسةِ الذي كانت الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ تخلعه على المعجم اللاتيني واليوناني وسمح للمتدين البسيط باستيعاب المعجم الديني مباشرةً ودون وساطةٍ . وبما أنَّ اللغة اللاتينيّةَ كانت لغة العلم، فإنَّ اللهجات المحلّية الألمانيّةَ كانت مُتأثرةً بمعجم اللغة العالمة. ولذلك فإن الثورة الكانطية لا تظهر فقط في إحداث ثورةٍ كوبرنيكيةٍ من خلال كتب النقد الثلاثة، بل كذلك في القيام بثورةٍ لغويةٍ والكتابة باللغة الألمانية، في وقتٍ كانت اللاتينية هي اللغة المعتمدة في الفلسفة. فقد كان اعتمادُ اللغةِ الألمانيّةِ في كتابة المقالةِ الفلسفيّةِ مع كانط ثورةً ثقافيّةً ضدَّ هيمنة الرّومانِ، ولو أنَّ المعجم الفلسفي الكانطي لم يتخلّص من الرواسبِ اللاتينية في صلب اللغة الألمانيَّةِ النّاشئةِ.
ومع ذلكَ كانت الكتابة الفلسفيّةُ باللغة الألمانيّةِ إيذاناً بابتكارِ هويّةٍ ثقافيةٍ جديدةٍ. ولم يكن ذلك ليتحقَّقَ لولا الوظيفة السياسيّةُ التي شغلتها اللغةُ الألمانية التي نشأت في ترجمة مارتين لوثر . ويذكرُ هاينريش هاين في بداية القرن التاسع عشر كيف أنَّ “هذه اللغةَ الكتابيّةَ لا تزالُ تهيمن اليومَ على ألمانيا ولا تزالُ تخلعُ وحدةً أدبيّةً على هذا البَلَدِ المتفكِّكِ دينيّاً وسياسيّاً.”[3] خلقت اللغة الألمانيّةُ الأمّةَ الألمانيّةَ بفضلِ التّرجمة. لم يكن الفصلُ بين اللغة واللهجات يوماً ما فصلا تستوجبه النظرية اللغويةُ، بل ظلَّ مشكلةً سياسيّةً على الدّوامِ ومتخفيّةً وراءَ المناهج المعتمدةِ في التّدوينِ والنمذجة التركيبية والجماعة اللغوية المحيطةِ.
لم نقم فقط بالمقابلة بين اللغة واللهجاتِ بناءً على مبرّراتٍ سياسيّةٍ فحسب. بل نضيفُ إلى ذلكَ انَّ السلطاتِ الأكاديميّةَ التّقريريّةَ هي التي تضع ضوابطَ البحث الأكاديمي، وهي سلطةٌ سياسيّةٌ في العمق. على سبيل المثال، كانت جمعية اللسانيات الباريسيةLa Société de Linguistique de Paris (1866) قد ضبطت بالتَّحديدِ ما هي المواضيعُ التي تستحقُّ البحثَ وتلك التي يجب أن تظلَّ على هامش البحث اللساني. وهكذا، أصدرت قراراً تعتبرُ فيه أنَّ “أصل اللغة” ليس موضوعاً جديراً بالمناقشة العلميّةِ، بالرّغم من أنه كان موضوعاً أثيراً لدى الألمان وكان حاضراً بقوّةٍ في اللسانيات التاريخية الألمانية في أعمال روسو RousseauوهامانHamann وهيرمان بول Hermann Paul. غير أنَّ الجمعيّة اللغويةَ الفرنسيّةَ اعتبرت لأسبابٍ سياسيّةٍ أن البحث اللغويَّ يجب أن يخضع لضوابطَ صارمةٍ من الزّاويةِ العلميّةِ تدرس اللغة دراسةً وصفيةً تجريبية بدل الدراسة التاريخية أو الميتافيزيقية أو التأملية في أصل اللغة.