إصلاح الجامعة الألمانية: درس من التّاريخ قد لا يكترث به أحدٌ.(عز العرب لحكيم بناني)
مقتطفات قصيرة من مقالة مطوّلة منشورة في ملف “مسألة الجامعة بين التفكير الفلسفي والرّهانات المؤسّساتيّة” بمجلة الأزمنة الحديثة، عدد مزدوج 20-19 ، سنة 2021.
لم يعرف النظام التعليمي الألماني مؤسسات أخرى للبحث العلمي غير الجامعة ومؤسسات البحث العلمي العمومية المتخصصة . على خلاف ألمانيا أنشأت فرنسا على عهد نابوليون بونابارت المدارس العليا من أجل تكوين الأطر والكفاءات المهنية التي تحتاج الدولة إليها. تحظى المدارسُ العليا الفرنسيّةُ بمكانةٍ خاصّةٍ، بحكم تكيفها المستمر مع سوق الشغل وقطاعات المال والأعمال وبحكم تغطية حاجة الدولة إلى الأطر العليا المتخصصة. أما الجامعة فقد ظلت ملاذ البحث العلمي المفتوح في جلِّ المجالات العلمية والفكرية التي تسعى إلى المعرفة من أجل المعرفة. أصبح مفهومُ العلم الألماني مرتبطاً بالمثالية الألمانية منذ بداية القرن 19 في ما يُدعى “بالعلم الجامعي” . ومن بين المفاهيم المؤسسة لهذا النظام التعليمي، مع هومبولد، مفهوم تكوين الإنسان Bildung، ويعني التربية بمعنى خاصٍّ يختلف عن مفهوم التكوين المهني Ausbildung الذي يعني الانفتاح على سوق الشغل، وإعداد البرامج الجامعية بما يتفق مع حاجة سوق الشغل. يستهدف هذا التكوين تنمية مهارات خاصة تختلف من ناشئ إلى ناشئ آخر. لذلك يرتبط التكوين المهني بتلقين حِرَفٍ أو مهنٍ مخصوصةٍ. أما تكوين الإنسان بفضل التربية، فهي عملية ثقافية عامة تستهدف تنمية شخصية الإنسان ككلٍّ، وذلك بتطوير المؤهلات التي تنعكس على هذه الشخصية بكاملها. تشمل هذه التربية جملة القيم التي يشترك فيها أفراد المجتمع، والتي تندرج ضمن التربية الجامعية وثقافة المواطنة في المجتمع البورجوازي ومن بين المفاهيم المؤسِّسة الجديدة، نجد مفهوم الجمع بين البحث والتدريس ؛ وتبدو أهمية هذا المفهوم في كونه قد تبلور على أنقاض تصور الجامعة في العصر الوسيط، التي كانت بمثابة تَجَمُّعٍ لمختصين في الحرف التقليدية مثل النجارة والحدادة و ينقلون أسرار الصناعة إلى المتعلمين الجدد. من بين أهم هذه المفاهيم الجديدة أيضاً، التي ابتكرها هومبولد، نجد مفهوم الحرية الأكاديمية. والواقع أنه لا نستطيع استيعاب الطفرة النوعية التي شكلتها جامعة هومبولد دون الاسترشاد بهذه المفاهيم.لقد رفض هومبولد واقع الجامعة كما عرفها العصر الوسيط، باعتبارها تجمعاً للحرفيين، واعترض على فكرة الجامعة التي نشأت بعد ذلك في عصر الأنوار، وما واجهته من تضييق وتدخل من طرف دول الاستبداد السياسي يذكر “شنيديلباخ” كيف أن جامعة هومبولد كانت تشكل منطقة وسطى واقعة بين تصورين متطرفين: بين النموذج الإنجليزي للجامعة والنموذج الفرنسي. لكن نموذج الجامعة الألمانية قد عرف تأثيراً مستمراً بفضل الفلسفة الهيغيلية التي جمعت بين العقل الفلسفي –العلمي والسلطة السياسية للدولة، في إطار “حلف” بينهما . بهذه الطريقة، وضعت هذه الفلسفة التربية والعقل في خدمة الدولة، دون أن يتحولا إلى أداة دعاية سياسية ودون أن يتخيل العلماء أنهم يحملون قناع الملوك- الفلاسفة، بما أنَّ امتلاك السلطة، كما يقول كانط، ” يفسد لا محالة القدرة على إصدار أحكام العقل” . وقد كان التأويل الذي قدمه هيغل للمسيحية كدين مطلق وللإصلاح الديني ولنهاية التاريخ، من خلال تحقق العقل داخل الدولة، مدخلا إلى وضع الجامعة في خدمة المصالحة بين العقل والتاريخ وبين قانون القوة وقوة القانون. كما أن التاريخ العالمي الفلسفي يتقدم، حسب هيغل، من خلال الوعي بأن التاريخ هو تاريخ تحقيق الحرية. لذلك كان مسارُ الجامعة يواكب الانفتاح على المستقبل الذي لا نكتفي بانتظاره بصورة سلبية، بل نعمل على تسريع وتيرته وتحويله إلى أفق للتفكير والبحث العلمي. وهذا ما سيظهر من خلال المجلات الثقافية التي ظهرت في ألمانيا من أجل دعم روح الإصلاح، وذلك بعد ان ساهمت هذه المجلات في تقييم مدى نجاح البرامج الفكرية والعلمية غي تغطية بعض جوانب إصلاح الجامعة. والواقع، لم يكن بالإمكان أن يفكر الألمان في إصلاح الجامعة لولا تحصيل الوعي بضرورة وجود فكر جديد من أجل المستقبل، ودون وجود مفكرين قادرين على إبراز معالم الطريق نحو المستقبل، ودون وجود قنوات نقل الفكر لتكوين الأجيال الصاعدة وخلق نخبة مثقفة وضمان الاستمراريّةِ. وقد استفاد الفكر الهيغلي من تطور الجامعة كما ساهم بدوره وتلامذته من بعده على امتداد القرن التاسع عشر في تطويرها. ومن بين الأهداف من ذلك نجد الرغبة في تطبيق الفكر الهيغلي على العلوم المتخصصة غير الفلسفية وتعميم المبادئ العقلانية على قطاعات أخرى من الواقع الاجتماعي.ويتعذر على الجامعة النهوض بهذه المهامِّ إذا لم تجد دعامة كافية من المناخ الثقافي وروافده المختلفة التي تصبُّ في الإصلاح الجامعي. وهي مهمة ليست مقتصرة على الجامعة وحدها، بل هي أيضاً من شأن الهيئات المنتخبة والمؤسسات العمومية ودورُ النشر والمجلات والجمعيات الثقافية وأكاديميات العلوم والنوادي الفكرية والنقابات التعليمية والجمعيات الطلابية. تخضع كلُّ هذه الرّوافد لنفس الضوابط الأكاديمية العقلانية وتتكامل فيما بينها من أجل تعزيز منظومة التعليم الجامعي. بناء على ذلك، دعا تلامذة هيغل إلى أن تُعَبِّدَ الجامعة الطريقَ أمام الحياة بما أنَّ العلم، في تصورهم، ليس متعارضاً مع الحياة، خلافاً لما يدّعيه فقهاءُ النّصوص وعلماء الصالونات. كان مشروعهم هو استثمار النتائج العلمية في الحياة الاجتماعية. وقد أبرز الباحث “نورمان زينك” Norman Senk ، اعتماداً على زخم هائل من الوثائق المرجعية، كيف أنَّ تلامذة هيغل بذلوا جهداً كبيراً من أجل تكريس الفعاليّةِ العمليّةِ للفلسفة العقلانية والعلم. لولا ظهور مدرسة هيغيلية داخل الجامعة، لما كان بإمكان هيغل أن يستمر في الوجود. لا يُختَزل رأسمال المجتمعات في شركات سيمنس وميرسيديس، بل يمتد إلى المفكرين والفلاسفة والأدباء الذين يغرسون الجذور داخل الجامعة وتمتدُّ أغصانهم داخل المجتمع.