ملك مؤرخ(إبراهيم القادري بوتشيش)
ثمة صورة نمطية حول الملوك والحكام في التاريخ الإسلامي، تعكس اهتمامهم بالسياسة والحروب، أو بالثروة والنساء واللذات، وهي صورة تتجاوزها بعض النماذج المغايرة من قبيل الخليفة العباسي المامون، والملك الأندلسي الحكم المستنصر الذي حكم الأندلس ما بين سنتي 350 – 366 هـ/ 961- 976م) وهو الذي يهما في هذا المقال .
لقد كان هذا الملك الأندلسي رجل ثقافة من الطراز الرفيع، حاذقا مبرزا ، فطنا زميتا، مدمنا على القراءة والتأليف، موسوعيا عالي الكعب، حتى أن ابن حيان سماه بـ(( قيّوم المعرفة ))، وشهد له ابن حزم أنه (( ملأ الأندلس بجميع كتب العلوم )).
ولتبيان شغفه بالثقافة والمعرفة، يكفي التذكير بأنه سخّر موارد الدولة لتشجيع العلم والمثقفين، وأسّس أضخم مكتبة عرفها عالم العصور الوسطى، ضمّت رفوفها أربعمائة ألف مجلد، و44 فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة خصصت لتسجيل عناوين الدواوين،؛ ناهيك عن عيون المؤلفات المتنوعة المشارب التي شملت شتى مناحي العلوم القديمة والحديثة، جلبها من كل البقاع والأصقاع . فكانت هذه المكتبة من عوامل تكوينه المعرفي الموسوعي.
ويجمع المؤرخون على أن الملك الأندلسي الحكم المستنصر كان رجلا عصاميا، شغوفا بقراءة الكتب، غارقا في دهاليز البحث والتنقيب، ناسكا في عالم المطالعة والاجتهاد، بدليل ما ورد في المصنفات التي كانت تشملها مكتبته من تعقيبات وتعليقات وملاحظات، أو إضافات على ما كتبه مؤلفو تلك الكتب، بل وحتى نقد وتصحيح بعض الأغاليط والهنات التي وقع في شراكها المؤرخون. وكان يكتب ملاحظاته النقدية حولها بخط يده على صفحات الكتب التي قرأها بعمق وتبصّر. وفي هذا السياق يقول عنه ابن الأبار : (( وقلما نجد له كتابا ولا ديوانا من خزائنه إلا وله فيها قراءة ونظر من أي فن كان يقرأه ويكتب فيه بخطّ يده )) . بل كانت له مساهمات محترمة في تأليف بعض الكتب بدليل أن عددا من المؤلفين اعتمدوا عليها من أمثال ابن الفرضي وابن حزم وابن حيان والقاضي عياض الذي استند إلى نصوصه في توثيق مادته التاريخية الواردة في كتابه ” المدارك” . ولا تخلو المصادر التاريخية من استشهادات وإحالات على كتبه، كما تؤكد ذلك عبارات (( قرأت من خط المستنصر بالله))، أو عبارات رديفة تدل على أن المؤرخين استفادوا من إشراقات قلمه، ومن إفاداته التاريخية التي تنهض حجة على أن كتاباته غدت مصدرا أساسيا في الإسطوغرافيا الأندلسية.
ورغم أن كتب الحكم المستنصر قد طواها الزمن، ولم تصل إلينا اليوم بسبب القلاقل والاضطرابات التي ذرت بقرنها في عصر ملوك الطوائف بالأندلس، فثمة إشارات تدل على مجموعة كتب صنّفها هذا الملك المؤرخ نذكر منها ” أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب ” حسب ما يذكره المقري في كتاب نفح الطيب، وغيره من المصنفات الأخرى التي كان فيها حجة في التاريخ.
في رحاب التاريخ:
تعكس إحالات المؤرخين على كتب الملك الأندلسي الحكم المستنصر إسهاماته في الكتابة التاريخية، وقيمتها النوعية والكيفية، وخصوصا في فن التراجم وعلم الأنساب، وما اتسمت به كتاباته من صرامة علمية، وتوثيق دقيق، وبحث معمق، واطلاع واسع، وهو ما يستشف من خلال شهادات متعددة نقتصر على اثنين منها:
1-شهادة القاضي عياض الذي قال في حقه: ((وكان الحكم ممن طالع الكتب ونقّر عن أخبار الرجال تنقيرا لم يبلغ فيه شأوه كثير من أهل العلم))
2-شهادة ابن الخطيب الذي وصفه بأنه كان ((إماما في معرفة الأنساب ، حافظا للتاريخ)).
ومثل هذه الشهادات الصادرة من أقلام مؤرخين يعتبران من خيرة المثقفين الذين أنجبهم الغرب الإسلامي، تقوم قرينة على المكانة المتميّزة التي تبوأها الحكم المستنصر، وأنه رجل مخض عباب التاريخ، وبرع في التجديف لاكتشاف خباياه، فوضع بذلك قدمه مع كبار المؤرخين.
ولعلّ ما يدل على ولع هذا الملك الأندلسي بالتاريخ، ويؤكد مكانته كمؤرخ قدير، تشجيعه المنقطع النظير للمؤرخين الأندلسيين، وحثهم على الكتابة في تاريخ الأندلس، مؤسسا بذلك مفهوم الوعي التاريخي في تشكيل الهوية الأندلسية، ومؤكدا أن التاريخ منطقة من مناطق المعرفة الضرورية لقراءة التحولات السياسية فراءة واعية، رغم ما يمتلكه من جمالية خاصة، ولغة مبدعة، فكان الحكم المستنصر بهذا التوجه وراء نشأة مدرسة تاريخية أندلسية – مغربية متميزة، يأتي في طليعتها ابن حزم، والرازي، وابن حيان وابن بشكوال وابن الخطيب وغيرهم من الكتّاب وفرسان التاريخ.