العدالة الدولية في رسائل النور(إبراهيم القادري بوتشيش)_1_
يشكل الخطاب النوري- نسبة إلى المفكر التركي سعيد النورسي – درسا متميزا في بناء علاقات دولية متوازنة ، قائمة على العدل والمساواة بين الشعوب . ولا غرو فإن المتصفح لرسائل النور، يستشف أن موضوع العدالة يغطي مساحة واسعة ضمن متون النصوص والمقولات النورية ، إذ لم يخل مجلد من المجلدات التي تحويها تلك الرسائل من طرح جاد لهذا الموضوع ، وتحليل عميق لأبعاده . بيد أن الذي يعنينا في هذه الورقة يتمثل أساسا في تحليل نظرية العدالة عند بديع الزمان النورسي كنظرية مؤهلة لبناء نظام عدالة دولية ، تحقق المساواة بين الشعوب والأديان ، وتنتفي بها مقولة الدول الكبرى التي تفرض قوانينها الجائرة على الشعوب المستضعفة. ومما يزكي اختيارنا لعالمية مفهوم العدالة والسلم في رسائل النور، أن النورسي نفسه أسس خطابه حول العدالة انطلاقا من المرجعية القرآنية التي تناولتها كمسألة ذات بعد كوني وعالمي، ولم تعالجها كموضوع مستقل كما فعلت الفلسفات الوضعية ، بل تناولتها كفرع ضمن الأصل المتمثل في النظام الشمولي للإسلام الذي نظم العلاقات الإنسانية في أدق تفاصيلها وصولا إلى علاقات الشعوب فيما بينها ، هذه العلاقات التي آمن النورسي أنها لا تبني على أسس سليمة إلا بالعدالة . وبالمثل ، فإن التحولات التي يشهدها العالم المعاصر في ظل هيمنة العولمة وما خلفته من أثر سلبي على العدالة العالمية والعلاقات الدولية المشوبة بالتوتر، يحيلنا على نظرية النورسي في العدالة ومدى قدرتها على تجاوز ما أصبح يعرفه العالم اليوم من قلق وصراع دائمين بسبب انعدام نظام دولي عادل .
وللوصول إلى قناعة بجدوى تلك النظرية ، سعينا إلى تجميع كل النصوص والمقولات الواردة حول العدالة في رسائل النور، وصنفناها بعد التحليل والمعاينة في محورين متكاملين : يقوم الأول على قراءة في الخطاب النقدي الذي وجهه المفكر التركي سعيد النورسي للعدالة المزعومة التي يتبناها الغرب ، والتي يسعى لتمريرها عالميا من خلال مؤسسات دولية يتحكم في أجهزتها وإدارتها . أما الثاني فيقدم قراءة في النظرية النورية التي تأسست من خلال نقد الأطروحة الغربية في العدالة وتجاوز عيوبها ، وتقديم أطروحة بديلة تستهدف إقامة نظام عالمي عادل يساهم في بناء علاقات دولية متكافئة ومتوازنة ، وهو ما ينبغي استثماره اليوم في هذا العالم الذي يجتاحه إعصار العولمة المتوحشة ويهيمن عليه قانون الغاب ، ويضرب فيه بعرض الحائط كل قيم العدالة والقانون .
قبل الخوض في هذين المحورين ، ثمة ملاحظة تستوقف كل متفحص دقيق لكتابات النورسي حول العدالة ، وهي أن ما كتبه حول هذا الموضوع ، تمّ في ظرفية متأزمة اتسمت بالظلم والجور ، بل كتب معظمها وهو في السجن. كما وقع هو نفسه ضحية الظلم والجبروت الذي أفضى به إلى السجون والمنفى. ومع ذلك لم يخنع أو يستسلم ، بل ناهض بمعية طلبة النور كل أساليب الاستبداد بشجاعة نادرة وإيمان لا ينضب ، وواجه أثناء محنته المسؤولين عن وزارة العدل في تركيا ، فحاورهم حول مفهوم العدالة الحقيقية. كما عارك الفكر الغربي ووقف على مساوئ عدالته، فتضافرت كل هذه العوامل لتجعل من إشراقاته الفكرية حول مفهوم العدالة تنطلق من موقع المجرب والمحنك الخبير . وزادت معرفته العميقة بعدالة الإسلام من خلال منبع القرآن الكريم ، من ترسيخ قناعته بها ، وطرحها في شكل نظرية كفيلة بتنظيم علاقات دولية متوازنة تقوم على العدل والسلام ، وهو ما سنحاول إثباته في هذا البحث .
أولا : ” العدالة ” الغربية في محك الخطاب النقدي النوري :
سمحت تأملات النورسي في حضارة الغرب وواقع العلاقات الدولية وتكالب الاستعمار على الشعوب المستضعفة أن يستشف بأن الداء الخطير الذي يعاني منه العالم يتمثل في مرض الاستبداد الذي وصفه بمرض العصر ، واستخلص أن العالم منقسم إلى فئتين : دول قوية تصوغ قوانين جائرة ، وأخرى ضعيفة تخضع لتلك القوانين بقوة الإكراه والقسر . وبحكم أن الأستاذ النورسي عاش في فضاء مصاقب للحضارة الغربية ، وعايش كل تجلياتها الثقافية بما فيها القانونية، فإن نقده للعدالة الغربية وتفكيك رموزها سيكون من موقع التجربة والمعايشة ، إلا أنه من باب الإنصاف التأكيد على أن خطابه النقدي لم يكن موجها للغرب برمته ، لأنه خطاب عقلاني يميّز بين أوروبا النافعة للبشرية التي نهلت قيمها من النصرانية الحقة ، فأبدعت – قبل أن تطالها يد التحريف – ما يخدم قضية العدالة ، وأوروبا الثانية التي تعفنت بظلمات الفلسفة الطبيعية فقادت الإنسانية نحو طريق الظلم والاغتصاب والنهب ، فانتقاداته اللاذعة تصب في خانة هذه الأخيرة. لذلك وبعد تفحص عميق في دساتير العالم الغربي وقوانينه ، ومن خلال التجربة والمعاينة، انتقد “العدالة ” الغربية ، وبيّن مواطن قصورها ، وفضح عوراتها ، وأفصح عمّا يشوبها من نواقص وعيوب تظهر من عدة وجوه :
1- سوء استعمال القانون الدولي :
تقوم نظرية النورسي على نقد الطريقة السيئة التي يتم اتباعها في المنظومة الدولية لتبني قوانين ملزمة لجميع الأمم ، إذ يقول بهذا الخصوص : (( فجميع الجرائم البشعة التي ارتكبت في البشرية إلى الآن ، إنما ترتكب بالاستعمال السيئ لهذه القاعدة ، ولهذا القانون الأساس ، فهذا القانون البشري الأساس ليس له حد ولا ضوابط مخصصة ، لذا فقد مهّد السبيل للتلاعب باستعماله ))، وواضح من هذه المقولة أن القانون الدولي الذي ينظم العلاقات الدولية في المنظور النوري لا يخضع لضوابط و محددات ، مما يجعله حرا طليقا في عملية تأويل نصوصه أو حذف بعضها وإضافة البعض الآخر، والكيل بمكيالين ، لذلك يدعو النورسي إلى وضع ضوابط حقيقية حتى يكتب للعلاقات الدولية أن تبنى على أسس عادلة .
بل ذهب هذا المفكر بعيدا في تحليله لنتائج سوء استعمال القانون الدولي حين أدرك أن السبب الجوهري لقيام الحربين العالميتين يعزى أساسا إلى سوء استعمال القانون الدولي . لذلك نعته بالقانون الجاهلي الذي يعود بالبشرية إلى عصورها المظلمة الغارقة في دياجير البداوة والجهل ، قانون يقضي قضاء مبرما على سعادة البشرية وعدالتها وسلامتها ، وهو ما يفسّر نحته لمجموعة من الصيغ التعبيرية لوصف اعوجاجه فيسميه (( بالقانون الوحشي )) ، و (( قانون سطوة المدنية الغربية المستبدة )).
ولم تسلم حتى الحكومة التركية التي حذت حذو الغرب من انتقاداته ، إذ وصف دستورها بالدستور الجائر الذي يمنع حرية التدين ، ويخرج عن تعاليم الدستور نفسه ، وينعدم فيه تطبيق القانون . وإذا ما طبق فإنه يطبق بازدواجية في المعايير ، لذلك طالب الحكومة التركية بعدم مغازلة الغرب ، ورأى أن حلّها الوحيد يكمن في العودة إلى (( الدساتير المقدسة )).