في نقد أوهام النبالة(عبد السلام ديرار)
كما أن بيير بورديو – و من خلال تحليله العميق للبنيات الاجتماعية للمجتمع الفرنسي، و خصوصا عبر تحليله للمنطق الداخلي لاشتغال المنظمة المدرسية – انتهى إلى أنه بفرنسا (كما باليابان)، هناك نبالة مدرسية وراثية (noblesse scolaire héréditaire) من مديري الصناعات و كبار الأطباء و كبار الموظفين، و حتى من القادة السياسيين، وهذه النبالة المدرسية تضم قسطا مهما من ورثة النبالة القديمة للدم، التي حوّلت ألقابها النبيلة إلى ألقاب مدرسية ([1]). كما خلص إلى أن ” الدولة”، هذا الجهاز الذي ما فتئ النموذج الاجتماعي الجديد بالغرب، يفاخر به، باعتباره حديثا و حداثيا!، إنما هو مخترق من طرف القديم، ف ” نبالة الدولة ( noblesse d’Etat )، هي وريثة نبالة اللباس (noblesse de robe)، و التي تتميز عن نبالة السيف، و تتوحد معهما في غالب الأحيان عبر زوجات، بكونها يدين وضعها للرأسمال الثقافي، من النمط القانوني أساسا ([2]). و تمكين المجال البيروقراطي و مضاعفة المواقع المستقلة للنفوذ الزمني و الروحي، ترافقت مع تطور بورجوازية و نبالة لباس، مصالحهما في مجال إعادة الإنتاج، شديدة الارتباط بالمدرسة” ([3]). إنها الاستمرارية التاريخية والسوسيولوجية بين نبالة اللباس في النظام القديم، و النخب “الاستحقاقية” (méritocratiques) المعاصرة ([4]).
و يمضي بيير بورديو في تحليله الكاشف، أبعد من كل ذلك، إلى القول أن نبالة الدولة التي تتوفر على غطاء واق (une panoplie ) غير مسبوق ، من أشكال النفوذ الاقتصادي، و البيروقراطي، و حتى الفكري، و ألقاب خاصة لتبرير تميّزها: ألقاب مدارس، عقود ملكية، ألقاب نبالة، هي (نبالة الدولة) الوريثة الهيكلية، و أحيانا الجينيالوجية – لنبالة اللباس، و التي لكي تبني نفسها كذلك، كان عليها بناء الدولة الحديثة، و كل الأساطير الجمهورية: الاستحقاقية، المدرسة المحرّرة، الخدمة العمومية…([5]).
و قارئ الأعمال الأدبية و الفكرية للروائية البريطانية الساخرة منذ عقود Nancy Mitfood، و التي عاشت معظم حياتها بباريس، يقف أمام “تصريح” القديم بفرنسا (كما ببريطانيا) نفسه بعودته، ب”عفوية”! و “تلقائية”! و “براءة”!، حرصا منه على “قدمه”! و فخاره بتمَيُّزه بانتمائه ل “الماضي”، ففي أحد كتبها، تهزأ من النبلاء الفرنسيين الأكثر ارتباطا بوضعهم، من نظائرهم الانجليز رغم كونهم يحيون ضمن ملكية، و لم يفقدوا كل امتيازاتهم. و تشرح كيف أنه عليك إن أنت استضعفت دوقا (Duc) بسفارة، أن تعرف إن كان نبيلا من النظام القديم، أو من مرحلة ترميم الملكية أو مرحلة الامبراطورية أو مرحلة البابوية ([6]). إنها إشارة – بلغة الأدب الرفيعة – إلى أن الماضي لم يعد فقط، بل على مراحل متعددة و بأشكال مختلفة، و أنه يكفي امتلاك ما به نمسك ب “الوظائف” (أدوات العلم)، أو “مطرقة” رفيعة (زاد الفلاسفة)، أو قوة الإحساس الفادحة (ما يجعل الأديب أو الفنان أديبا أو فنانا)، كما هو حاصل عند هذه ال Nancy Mitford، ل “نرى” “العربات المذهّبة” بشوارع باريس! و “نسمع” تغنّج “نؤوم الضحى” إلى جانب دوق أو بارون عليها!!.
و أما الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتقمص اليوم زعامة النموذج الاجتماعي المنبثق بالغرب الأوربي، و تفرض نفسها باعتبارها حاملة مشعل الديمقراطية و الليبرالية و الحرية…!!، فإن حالتها في غاية الخصوصية، فهي لم تشهد النموذج الاجتماعي القديم (الفيودالي)، نتيجة تاريخها (أو بالأحرى نتيجة كونها بلا “تاريخ”)، و قد فصّل Tocqueville العوامل الفاعلة التي حددت بنية المجتمع الأمريكي و “مناخه” المختلفين عن المجتمع الأوربي، و قدّم تحليلا عميقا لها، بالرغم من كونه أصبح اليوم متجاوزا في بعض جوانبه، إلا أنه يبقى صالحا لتفسير العقلية التي تشكلت بالولايات المتحدة الأمريكية خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر ([7])، فما يميز الولايات المتحدة الأمريكية أولا هو غياب الماضي الفيودالي، أي غياب مواقع (اجتماعية) مكتسبة لحظة انطلاق أسس النظام الرأسمالي بلغة الاقتصاد، و النموذج الاجتماعي الجديد (بالغرب) بلغة السوسيولوجيا. لا تراتبية اجتماعية إذن، و “كل الأمريكيين متساوون أمام الصحراء و الغابة البكر” كما يتردد في كل كتب التاريخ الخاصة بهذه المرحلة، و هو الوضع الذي سينقلب مباشرة غداة الحرب الأهلية (1861- 1865)، بالتصنيع. و يبدو أن وثيرة الحركة نفسها سرّعت الحركية الاجتماعية، فانسحب المثال النموذجي “المساواة في الثروات” لصالح “المساواة في الحظوظ عند الانطلاق”، و قد اشتهر Horatio Alger في الاحتفاء ب”الرجل الذي يصنع نفسه ” (Self. made man) في خمسين رواية ([8]). و بالرغم من تتبيث بعض الثروات الكبيرة، فإن السكان ظلوا يعتبرون أنفسهم ينتمون للطبقات المتوسطة، و ساهم في تكريس هذا الاعتقاد توحيد “التقاليد”، و مستوى العيش المرتفع باستمرار ([9]).
هكذا، ستظهر ما يسميه C.Wright Mills “نخبة الأقوياء” (the power elite) التي تتشكل من اندماج نخب اقتصادية (هي في الغالب تلك التي تمّ تتبيث ملكياتها الواسعة غداة الحرب الأهلية)، و سياسية (هي الممسكة بزمام السلطة)، و عسكرية([10])، و لينطلق عهد المليارديرات الأمريكي!، و الذي عُرف Wright Mills باقتفاء جذوره و رصد مسار تطوره عبر خمسة عقود (من 1900 إلى 1950)، و كشفه عن الأصول الاجتماعية، لهؤلاء المليارديرات، و كيف أنه كان من بينهم في العقد الأول نسبة معينة من القادمين من الطبقة السفلى من المجتمع الأمريكي (39%)، لتتهاوى هذه النسبة إلى 9% عام 1950 ([11]). و في مواجهته لتحليل هذه المعطيات يكشف Mills كون معظم المليارديرات آنذاك كانوا ينحدرون من الأسر البروتستانتية الميسورة للمدن الكبرى، و الذين تسمح لهم مواقعهم الاجتماعية المرور إلى الثروة عبر التلاعبات المالية، والاستفادة من العلاقات المتشابكة مع ” المؤسسات ” (corporations) للحفاظ على مواقعهم ([12]).
و في تحليله للنخبة السياسية الأمريكية، اعتمد Mills نفس المنهج، حيث انتقل إلى التحليل الدقيق للسير الذاتية لأولئك الذين شغلوا المناصب – المفاتيح في الحكومة الفيدرالية: رئيس، نائب الرئيس، الناطق باسم الحكومة، الناطق باسم مجلس النواب، قاضي بالمحكمة العليا، ليضع لائحة تضم 513 رجلا للمرحلة بين 1789 و 1953. ثم ينتقل لكشف كون 60% من هذه النخبة السياسية قادمة من الأسر التي هي من بين ال5 أو 6% الأكثر غنى، بل إن نسبة الذين خضعوا لتعلّم تشريعات “الدولة” تهاوت من 81% بالنسبة لجيل 1789 – 1801 إلى 14% في نهاية العقد الخامس من القرن العشرين. و بلغت هذه الردّة (المبكرة بأمريكا) أوجها مع إدارة إيزنهاور، إذ من بين 85 شخصية تشغل المناصب الأكثر أهمية داخل السلطة التنفيذية (بما فيها الرئيس و نائبه)، لم يكن بينهم سوى 8 قادمين من عالم السياسة بمعناه الصحيح. و بالمقابل، 68 منهم كانت لهم ارتباطات وثيقة ب”المؤسسات” (corporations) ([13]).