المقالات

الرحمة القلبية والحكمة العقلية: (خالد العسري)

“يرد لفظ “الحكمة” في القرآن تاليا للفظ “الكتاب”، والمقصود بها تطبيق ما في الكتاب، كما يأتي مقترنا بلفظ “التزكية” في سياقات قرآنية عامة تبين مكارم الأخلاق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”    طه عبد الرحمن*

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن نفسه فيقول: “يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة”[1]، يصدق بذلك قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين الأنبياء: ١٠٧، فورثته يرثون عنه رحمته بالناس، ويكونون من أسباب هدايتهم لا سوط عذاب عليهم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحيما بالناس وهو يدعوهم من شرك؛ فكيف بالدعاة لا يكونون رحماء بالناس وهم يدعونهم من فتنة!

إن أول ما ينبغي أن يتعلمه الوارد على الصف الإسلامي الرحمة بالناس، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”[2]؟ ويدفع في أحاديث أخر كل دعوة تيئيسية أو قانطة من كسب الناس إلى صف الدعوة، حتى “إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم. قال أبو إسحاق: لا أدرى أهلكهم بالنصب أو أهلكهم بالرفع”[3]، وسواء بالنصب أو الرفع فكلا الحركتين الإعرابيتين تؤديان معنى صحيحا.

إن الرحمة محبة في قلب المؤمن؛ نبعها الصافي حب الله عز وجل الآمر بالرفق بخلقه، ومحبة الله شرط في الناصرين لدعوته، قال الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ المائدة: ٥٤، محبة الله لا توصل في الآية إلى دروشة وانعزال عن عالم الناس؛ بل هي مقدمة للجهاد في سبيله، جهاد من صد عن سبيل الله بكل وسيلة شرعية متاحة، أما مع عامة الناس فالبر والرفق بهم خلق إيماني ولو خالفونا في المعتقد.

إن الجهاد لا يكتمل إلا بكمال المحبة لله عز وجل؛ وحصول محبته سبحانه للمجاهدين في سبيله، وقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم أن محبته تكتب للمحسنين وللتوابين وللمتطهرين وللمتقين وللصابرين وللمتوكلين وللمقسطين. فأيما تنظيم إسلامي لا يتنافس أبناؤه في تحصيل هذه المفردات في قلوبهم إنما تكون شعاراته ذرا للرماد في العيون؛ ووبالا عليه وعلى الدعوة وعلى الناس، ويكون عمله السياسي الميداني مقدما عنده على التحصيل التربوي الإيماني، فيكون بذلك قد قدم ما ينبغي أن يؤخر؛ وأخر ما ينبغي أن يقدم.

إن محبة الله عز وجل تورث محبة الجهاد في سبيله كما تشير الآية السابقة، كما أن الجهاد في سبيل الله مع المؤمنين ترزق صاحبها محبة الله سبحانه إياه. قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوص” الصف: ٤، فالجهاد لا يكون إلا بالصف المرصوص، بالجماعة المنظمة.

إن الجماعة المنظمة لا تتحرك في فراغ، بل تتحرك في واقع متغايرة ابتلاءاته، متعددة تحدياته، متنوعة عقباته. فيشترط في التنظيم حسن الدراية بكيفية التحرك وسط الناس، وما يستوجب ذلك من قدرة على نقد واقعه؛ وعرض بدائله بما لا ينافي الشرع ولا يتصادم مع إمكاناته. فلا مناص له عندها من تنظيم طاقات أبنائه الذين يردون عليه من شرائح اجتماعية متنوعة؛ وتخصصات علمية شتى، فيؤسس مكاتبه التي تدرس الواقع بالأرقام الدقيقة والملاحظات العميقة، وبها يستعين على بناء استراتيجياته وكيفية حركته وإمكانات تحالفاته، وتظل أعين قيادته وعلمائه مفتوحة على تحركاته حتى لا تتعارض اجتهادات مؤسساته مع الأحكام الشرعية ولا ثوابت تصوراته النظرية.

كل هذه المعاني تجمعها مفردة الحكمة التي وردت في القرآن الكريم عشرين مرة والتي ذهب البعض إلى تأويلها بالسنة، وذهب الإمام مالك إلى أنها “المعرفة بالدين والفقه في الدين والاتباع له”، و”قرأ ابن زيد [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا] قال: لم ينتفع بالآيات حيث لم تكن معها حكمة. قال: والحكمة شيء يجعله الله في القلب ينور له به”[4].

الحكمة نور من الله في القلب، كما أن الفقه مستقره القلب، ولا فصل بين الحكمة العقلية والرحمة القلبية في آيات الكتاب.

نعم يشترك الناس في فهم آيات الله الكونية بالعقل المعاشي المشترك، ولكنه ليس العقل المشار إليه في القرآن الكريم، وإلا لعدت حجة الكافرين يوم القيامة مقبولة حين يقولون “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير” الملك: ١٠، وقد كانت لهم أسماع وعقول، ولكنهم عقلوا بها أمور الدنيا أما الآخرة فكانوا عنها عمين.

لقد ذكرت مادة “عقل” تسعا وأربعين مرة في القرآن الكريم، حيث دلت في موضعين فقط على العقل المعاشي الذي يفهم ويستوعب ما يسمع دون أن يستقر ما يعي في قلبه؛ فيأتي عكس المطلوب منه، وهو ما سماه الحارث المحاسبي بعقل البيان، ولهذا فإن الله عز وجل “سمى بعض الكفار من أهل الكتاب عاقلا للبيان الذي لزمتهم به الحجة، فقال تعالى: “أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون” البقرة: ٧٥، فأخبر أنهم لا يعقلون. يعني: عنه؛ وعن عظيم قدره المبين عنه. ثم قال: “يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ” يعني عقل البيان”[5].

وذكرت المفردة سبعا وأربعين مرة للدلالة على العقل الذي يعقل عن الله عز وجل علما يورث صاحبه علم الخشية، وفقه الشرع. وإنما الخشية مستقرها القلب، فلا يعد العالم عالما حتى تحصل لديه هذه الخشية، أما إن تحصل لديه فقه النصوص دون فقه القلب فقد انتفى دخوله في زمرتهم، قال تعالى: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ” فاطر: ٢٨.

“قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالِم.

وقال مجاهد: إنما العالِم من خشي الله عز وجل.

وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علماً وبالاغترار جهلاً.

وقيل لسعد بن إبراهيم: مَن أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل.

وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل.

وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حقَّ الفقيه من لم يُقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمّنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها”[6].

كما تدل الآيات في الذكر الحكيم على أن القلب هو مستقر العقل عن الله، قال تعالى: “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا” الحج: ٤٦.

والتدبر يكون بالقلب: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد: ٢٤.

والفقه يكون بالقلب: “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا” الأعراف: ١٧٩.

ورباطة الجأش والشجاعة والسكينة مستقرها القلب: “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” الفتح: ٤.

والفزع الشديد والرعب مربطهما القلب: “سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِين” آل عمران: ١٥١.

والتقوى مستقرها القلب: “ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب” الحج: ٣٢ .


* طه عبد الرحمن”الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري” المركز الثقافي العربي. ط 1/ 2005. ص:191

[1] مستدرك الحاكم. كتاب الإيمان. وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما، فقد احتجا جميعا بمالك بن سعيد، والتفرد من الثقات مقبول

[2] سنن الترمذي. كتاب البر والصلة. باب ما جاء في رحمة المسلمين. وقال الترمذي عنه: حسن صحيح

[3] صحيح مسلم. كتاب البر والصلة والآداب. باب النهي من قول هلك الناس.

[4]  كل هذه النصوص منقولة من تفسير الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن. 3/87

[5] الحارث المحاسبي. شرف العقل وماهيته. ص: 26-27

[6] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن. 14/343ـ344

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق