كتاب “الجماليات المتعالية”: رحلة عشق في أنساق المعنى والجمال(سمير زردة)
من منطلق اهتمام بلغة الوحي وإعادة قراءتها على ضوء ما تمنحه الدراسات “اللسانية” من مقاربات وأدوات سعى الأستاذ إدريس مقبول في كتابه الأخير ” الجماليات المتعالية” الذي يقدمه للباحثين في الدراسات الإسلامية والدراسات اللسانية على حد سواء، إلى إيجاد علاقة مؤانسة بين جديد اللسانيات المعاصرة ولغة القرآن الكريم مراهنا على البحث عن دلالات ومساحات يمكن أن يفرزها تلاقح المقاربات اللغوية الحديثة في مجال فهم “عملي” وإدراك “جمالي” للقرآن الكريم، فهم ينتقل من دهشة الإعجاز إلى مشاريع الإنجاز.
هذا الكتاب يرقى ليكون أطروحة تعالج موضوع جماليات اللغة القرآنية من زاوية المناهج اللسانية وذلك باستثمار أدوات التحليل الحديثة في مقاربة مسألة الإعجاز القرآني، وهو دراسة تمتد على مساحة الدرس اللساني صوتيا وصرفيا وتركيبيا ودلاليا وتداوليا، وقد تمكَّن المؤلفُ، بحكم تمرسه في تحليل الخطاب، من وضع إطار فلسفي مناسب لرؤيته كما استطاع أن يدمج تصورات حديثة في إطار الدراسات الإسلامية الحديثة الغربية ويشتبك معها (نيل روبنسون_توماس هوفمان_نويد كرماني_شتيفان فيلد_ ميشيل كويبريس..) في سياق تناول جديد لمسألة القيم في ظل الحاجة الملحة اليوم لعودة المعنى للحياة الإنسانية، وهو بذلك يفتل في حبل متين بين اللسانيات والقيم، تساهم فيه اللسانيات بدور نهضوي وتنويري من خلال “تثوير القرآن” بإعادة بناء عالمه الدلالي ليحيط بتفاصيل عصرنا الذي بات متعدد المراكز والخرائط.
في هذا الكتاب نجد محاولة عابرة للتخصصات، وهو مسار بحثي يعتبر الأستاذ مقبول من المدافعين عنه والمجسدين له من خلال دراساته السابقة، هذه المحاولة الجديدة تقدم نموذجا لبلاغة جديدة تفتح باب العودة لقراءة لحظة نزول القرآن الكريم في البيئة الثقافية العربية الذي كان أشبه ما يكون بالانفجار الثوري المباغت الذي قلب موازين الفكر والذوق العربيين بما حمله معه من مقاييس جمالية متعالية تجاوزت الخصائص العامة للغة الجاهلية التي سيطويها القرآن الكريم بعبقريته الخاصة تعبيرا عن مضمون كوني.
يبدو أن هَمَّ إنتاج خطاب إسلامي تجديدي منفتح كان وراء مغامرة الأستاذ إدريس مقبول بالعودة للقرآن ولغته، وبأسلوب منفتح على ما أنتجه العقل البشري من تجارب، وما حققه من إنجازات. لاعتقاده الراسخ بأنه المدخل الرئيسي لإعادة إنجاز اللقاء التاريخي والنموذجي بين المثال والواقع، بين المطلق والنسبي، لاستئناف دورة حضارية جديدة لإمامة العالم.
يراهن الأستاذ إدريس مقبول في كتابه الجديد على أن العناية بلغة القرآن الكريم تساهم بشكل مباشر في تعزيز الانتماء، لأن العربية جوهر حياة هذه الأمة، فشكلها وجمالها الخارجي لا يمكن عزله عن مضمون الرسالة الداخلي. ولغتنا العربية هي الرحم والوعاء، وهي الجسم، جمالها ليس هو القيمة الوحيدة، لكن القيمة العظمى ما حمله إلى قلبنا وعقلنا ذلك الجمال، وبيانها ليس المنى والغاية لكن ما أظهره وأبانه من دلالات ومعان.
كتاب “الجماليات المتعالية” الصادر عن مطبعة افريقيا الشرق، يتألف من 264 ص، مقسمة على ثلاثة فصول، تظافرت كلها لترسم لوحة فنية مبدعة، تصل ما انفصل، وتجمع ما افترق، تجمع البعد الجمالي للغة القرآن، بالبعد القيمي والاخلاقي الذي يؤسس لوعي متوثب للعمل والتغيير في كل العصور. يلخص لنا الكاتب لوحته المبدعة هذه في عبارات مسكوكة ومركزة، انفجرت حروفا وكلمات وجملا على طول الكتاب وعرضه، تبحث عن المعنى وتقلب النظر في العديد من الإشكالات التي يتعرض لها البحث، يقول: ” لقد رأينا أن البحث فيما سميناه (الجماليات المتعالية) ونقصد بها كما سيأتي جماليات لغة القرآن الكريم، في واقع الحال، تتجاوز مسألة اللغة، لتلقي بضلالها وأطيافها على ما وراء اللغة من رؤية للعالم ومضامين وقيم سلوكية وأخلاقية هي أساس الوعي. نحن في مسيس الحاجة إليها اليوم في زمن فشا فيه القبح، وعلى فيه صوت العنف، وكشرت الأنانية عن أنيابها، وتنادت البشرية لإفناء بعضها البعض، ودخلت الإنسانية طورا غير مسبوق من أطوار التفكك والتحلل مع انقلاب رهيب في قيم الجمال ومعانيه وتنكر لقيم التعايش والأخوة بين بني الإنسان”.
لقد وفق الكاتب إلى حد بعيد بما معه من جزالة اللفظ وسلاسة العبارة، وبما يمتلكه أصالة من حس مرهف وذوق رفيع، من أن يغوص بنا في جماليات القرآن بمنهج يجمع بين المنظور التراثي ومنظور اللسانية الحديثة، ويقدم لنا عرضا يستحق أن يوصف بالتجديدي لعلوم القرآن. كما استطاع الإبحار إلى ما وراء جمالية اللغة من قيم غرضها حمل الإنسان على العمل والهداية من أجل عمارة الأرض بالخير والصلاح.
هذا وأترك للقارئ فرصة استكشاف تفاصيل ما أجملناه في هذه الأسطر، تحفيزا لقراءة الكتاب الذي يعد بحق تذكرة حجز بها ادريس مقبول لنفسه مقعدا بين كبار المبدعين.