المقالات

ملاحظات على ثورة الذكاء الاصطناعي(عز العرب الحكيم بناني)

كيف يتكلم كائن غير بشري لغة بشرية باستقلال عن تدخل البشر؟
وما هي مخاطر الجمع بين الذكاء الاصطناعي والعلوم المعرفية؟

كنت أتابع نشرة الأخبار في بعض القنوات الدولية، وقد أثار الصحفي اهتمامي للوهلة الأولى حينما أعلن عن حوار صحفي سيجريه مع كائن غير بشري بلغة بشرية. وسوف يلقي على هذا العقل الإلكتروني أسئلة ويتلقى منه أجوبة استخرجها من ذاكرته الضخمة، دون تدخل البشر في ذلك.
كان جيني Jenny هو الاسم الذي أطلق على هذا العقل الإلكتروني الذي ظهر في صورة امرأة شقراء على شاشة التلفاز في نشرة الأخبار. كان الصحفي واعيًا بأنّ العالم الغربيَّ قد دخل ثورة جديدة تضاهي في أهميتها الثورة الصناعية التي عرفها القرن التاسع عشر. كانت جيني Jenny دمية بشريّة مزودة ببرنامج Chat GPT وقادرة على معالجة ملايين الآلاف من المعلومات المخزنة في ذاكرتها وتقديم الإجابة المناسبة فور طرح السؤال بسرعة البرق. وهكذا شرعت في الإجابة عن أسئلة الصحفي بصورة دقيقة ومؤدَّبة، مؤكّدة أنها عقل إلكتروني من اختراع البرامج المعلوماتية. وهي تختلف عن البشر من جهة أولى لأنها كائن لا يتوفر على وجدان ولا على عواطف؛ ولكنها تتجاوز قدرات البشر الطبيعية، لأنها قادرة على الإجابة عن كل الأسئلة في لمح البصر. كانت إجابتها مذهلة عن المشاكل الأخلاقية التي يطرحها استخدام العقل الإلكتروني في الحياة اليومية، لاسيَّما عند تعمُّد إزالة الفروق الظاهرة بين البشر والعقل الإلكتروني في مجال التواصل البشري. أظهرت جيني رجاحة عقل واضحة ووعيًا كبيرا، دون أن يتخذ العقل الإلكتروني لديها معنى العقل البشري ودون أن نتحدث عن الوعي لديها بالمعنى البشري، ولو أنها جعلت البشر مسؤولا عن تحديد وظيفة العقل الإلكتروني. وهنا كذلك استعملت جيني كلمة “مسؤولية” على النحو الذي يرد في ظروف الاستعمال العادية.
لا يتسع الحيز لمناقشة العواقب الأخلاقية التي تنجم عن تعويض البشر بالذكاء الاصطناعي. ولنا أن نتخيل تلك العواقب حينما نعلم أن جيني تستطيع أن تتقمص صوت إنسان بعينه، بملامحه وحركاته وطريقة التعبير عن عواطفه، بحيث أننا قد لا نميز بين الإنسان والآلة.
ظهر هذا الخطر بوضوح في كتاب يوفال نوح هاراري (Yuval Noah Harari : 21 Lessons for the 21th Century, 2018). صحيح أننا لا نستطيع حسبه برمجة “الوعي” داخل العقل الإلكتروني، بما أنّنا لا نزال لا نعرف طبيعة الوعي. تستطيع الروبوطات آنذاك محاكاة كلّ شيء ولو أنها لا تتوفر على وعي. كانت جيني قادرة على التفكير في طبيعة الفروق بين الإنسان والروبوط وأن تستحضر المشاكل الأخلاقية المتصلة باستعمال الذكاء الاصطناعي، دون أن تتوفر على وعي. والنتيجة هي أن الذكاء الاصطناعي يستطيع محاكاة العواطف البشرية والانفعالات، بناء على معرفة جيدة بالبنية البيولوجية والكيميائية والقيام بآلاف الحسابات الخوارزمية الدقيقة في ثانية واحدة، للتعبير عن شعور الخوف أو اللذة أو الحقد. لذلك قد يحاكي العقل الإلكتروني الشعور بالخوف دون أن يملك وعيا بالخوف. وهذا ما يوظف اليوم في بعض توجهات السلوكية المعرفيّة التي تهتمُّ أكثر بطرق ردود الفعل الخارجية المناسبة في أوضاع بعينها، دون أن تعير اهتمامًا لمدى وعي المرء بطبيعة ردود فعله.
ليس الذكاء الاصطناعي مشكلة بحدّ ذاته، بل تظهر المشكلة عند اندماج الذكاء الاصطناعي بالعلوم المعرفية.
أبرز هاراري أن الخطر يكمن في الاندماج الذي وقع بين الذكاء الاصطناعي وتكنولوجية علوم الحياة، بحيث أن العلوم المعرفية تستطيع معرفة كيف يتحكم الدماغ عبر رسائله البيوكيميائية في صناعة قرارات الوعي وكيف يستطيع العقل الإلكتروني أن يحاكي وظائف الدماغ بطريقة خوارزمية مذهلة، كي يتحكم في سلوك البشر. بناءً على نتائج العلوم المعرفية وكيفية اشتغال الدماغ يستطيع الذكاء الاصطناعي خلق “الإنسان الأعلى” سواءً كان بشرًا أو آلة، في مقابل الإنسان الأدنى غير المبرمج آليا، قصد القيام بعمليات ذهنية عليا في لمح البصر، فيما نعيش نحن وغيره من البشر في عالم ما قبل الذاكرة العملاقة وما قبل التاريخ.
ظهرت خطورة الذكاء الاصطناعي في الحروب “الذكية” التي لم تعد تستخدم البشر في عمليات الدّمار الذكية، بل تستخدم الطائرات المسيرة. أصبحت إجادة استعمال الحواسيب أكثر أهمية من استعمال المدفع الرشاش.
والأخطر هو أن نعتبر أنَّ استعمال الذكاء الاصطناعي في الحروب عملية جراحية نظيفة لا تصيب إلا العضو المريض. ومن يراهن على الذكاء الاصطناعي يعتبر أنَّ هجومه على الأهداف المرصودة يتمُّ بدقة متناهية لأنّه لا يمتلك عواطف ولا مشاعر تدفع البشر إلى ارتكاب أخطاء فادحة في حق المدنيين. غير أنه بقدر ما أنَّ العقل الإلكتروني لا يملك عواطف، بقدر ما أنه لا يملك رحمة ولا شفقة كذلك، ولا يملك إمكان التراجع عن ضرب الأهداف العسكرية المقررة سلفًا، حتّى ولو تراجع الإنسان في آخر لحظة.
أظهرت الكتابات الفلسفية في الذكاء الاصطناعي خطورة الاندماج بين الذكاء الاصطناعي من جهة ومعرفة كيفية اشتغال الدماغ البشري في توجيه السلوك البشري، بناءً على بنيته البيوكيميائية. إذا ما تمكن الذكاء الاصطناعي من محاكاة طريقة انتقال رسائل الدماغ عبر الموصلات الكهربائية يستطيع محاكاة طريقة اشتغال الدماغ والقيام بالحسابات الخوارزمية لتقديم أفضل احتمالات ردود الفعل الممكنة، وهي ردود فعل نعتبر أنها كانت نتيجة الوعي واستقلالية الذات في اتخاذ قرارها الحر، بينما لا تعدو أن تصبح نتيجة حسابات خوارزمية يقوم بها الدماغ.
بعدما اندمجت العلوم المعرفية بالذكاء الاصطناعي، وهذا ما قد تستفيد منه اليوم الدول الديكتاتورية أكثر من الدول الديمقراطية، يصبح الخطر محدقًا بقيم الحداثة والمساواة والحرية واستقلال الإنسان في وعيه وقراراته. يطغى التشاؤم اليوم على الفلاسفة، لأن علماء الذكاء الاصطناعي يتعاملون مع هذا الاندماج بنفس السطحية التي تعامل بها علماء الحياة مع الخلايا الجذعية والاستنساخ وتخصيب البويضة للإنجاب، حتى ولو بعد تجاوز فترة الإنجاب بعقود.
لا يوجد اليوم أمل كبير في التعاون الدولي بين الأمم من أجل مواجهة انهيار قيم الحداثة نتيجة استبدال العقل الإلكتروني بالبشر ومحاكاة وظائفه المعرفية والتحكم في سلوكه. يوجد تمزّق عميق بين الأمم والشُّعوب نتيجة تفشي الحروب والاختلافات الثقافية والدينية والعرقية، وهذا ما لا يسمح لدول الجنوب بالاستفادة من منجزات الذكاء الاصطناعي، كما لا يسمح لدول الشمال بمعرفة خطر الاندماج بين العلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي على إنسانية الإنسان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق