ماذا تبقى من فلسطين؟(حمدي علي حسين)_3_
ثالثًا: التوقعات حول مسار الدولتين
تتحكم إسرائيل كليًّا بمعظم أراضي الضفة الغربية وتسيطر عسكريًّا عليها، وتتوسع استيطانيًا في المناطق المصنفة (ج) والمقام عليها المستعمرات، فيما تسيطر السلطة الفلسطينية جزئيًا على مراكز المدن دون سيادة أمنية تامة، وحل الدولتين المقصود في خطابات النخبة السياسية للسلطة الفلسطينية لم يعد موجودًا على الأرض في ظل ما فرضته إسرائيل من وقائع بعد تقسيم الضفة وما خلَّفه من تقطيع أوصال وصعوبة للتواصل الجغرافي لهذه المناطق المعزولة عن بعضها، والتي لم تعد تهدد فقط “حل الدولتين” كما ورد في أوسلو؛ بل تحول دون إمكانية إقامة دولة فلسطينية -كما جاء في صفقة القرن- في المناطق المصنفة (أ) و(ب) التي باتت مجزأة ومقسمة بطرق وقواعد عسكرية تصنفها إسرائيل مناطق (ج). بالمحصلة، تشكَّلت فجوة كبيرة بين الوضع الذي كانت عليه الضفة وقت توقيع الاتفاق والوقت الحالي. وأضف إلى ما سبق من موانع وعراقيل من سياسات قضم الأراضي من قبل الاحتلال وتفتيتها، وما يُعمل عليه في القدس الشرقية -التي تطالب بها السلطة عاصمة للدولة الفلسطينية- من تغيرات متسارعة في إطار العمل على مشروع القدس الكبرى الهادف لتوحيد شقي القدس وضم أحياء القدس الاستيطانية وربطها بالمدينة والاستيلاء على آلاف الدونمات من الأراضي الواقعة شرق القدس بين التجمعات الفلسطينية.
في ظل هذا الواقع الجغرافي الذي فرضته إسرائيل -ولا تزال- فإن مبادرات السلام تصبح محصورة بشكل أكبر في إطار السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: يفتح هذا الواقع الجيوسياسي المجال أمام طرح مبادرات خارجية قريبة منه أشبه بصفقة القرن وغيرها في ظل جنوح المجتمع الإسرائيلي المستمر نحو اليمين المتطرف الذي يرفض حلول التسوية المكلفة لإسرائيل، ويستمر في إقامة المشاريع الاستيطانية، ويوسع من مستوطناته ليلحقها بالمدن، مع بقاء القيادة الفلسطينية الحالية على نهجها الحالي في المفاوضات أو في إدارة السلطة، ووفق الظروف العربية والدولية الراهنة التي لا تعطي الشأن الفلسطيني الأولوية على أجنداتها.
يفتح هذا السيناريو المجال لطرح حلول محصورة بدولة صغيرة للفلسطينيين أشبه بالتي وردت في مخططات صفقة القرن، وهي دولة منزوعة السيادة ولا سلطة على معظم الأراضي فيها ولا على المعابر الحدودية، وينعدم فيها التواصل الجغرافي، وتتسم بضعف الموارد في ظل الهيمنة والتحكم من قبل إسرائيل، وتمتاز ببنية إنتاجية ضعيفة تابعة وفاقدة للقدرة على بناء وتطوير نفسها بفعل التبعية والاعتماد على إسرائيل. وتقابل هذه الطروحات بالرفض من قبل السلطة الفلسطينية.
السيناريو الثاني: بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه دون أي مفاوضات أو طروح للتسوية، وتبقى فرصة الوصول إلى حل سياسي بالطرق السلمية بعيدة كون السلطة الفلسطينية تجد في استمرار بقائها مكسبًا سياسيًّا، ويشير رفض السلطة الفلسطينية إقامة دولة في ظل الواقع الراهن دون ضغط حقيقي تجاه تحقيق مشروعها، مقابل مواصلة إسرائيل توسعها على الأرض واستفرادها في المناطق المصنفة (ج) إلى بقاء الوضع على ما هو عليه، ويباعد من القدرة على تحقيق حل الدولتين على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967، بل يعني التسليم بالأمر الواقع وقبول فكرة سلطة الحكم الذاتي الخدماتية دون أي برنامج سياسي يدمج بين المقاومة والمفاوضات.
بناء على ما تبقى من مساحة الضفة الغربية، في ظل استمرار الاستيطان ومشروع التقسيم وبالتزامن مع عودة نتنياهو لرئاسة الوزراء، تبقى فرصة الحلول المتاحة أمام السلطة الفلسطينية، بالنظر إلى مشروعها الحالي وأدائها، محصورًا بسيناريوهات حل أشبه بصفقة القرن، كون بنيامين نتنياهو العائد إلى رئاسة الوزراء بقوة أيَّد الصفقة سابقًا ودعا السلطة للتفاوض على أساسها، في حين يؤيد الرئيس الأميركي، جو بايدن، عودة المفاوضات على أساس حل الدولتين، باعتباره أنسب قرار، حسب تعبيره، لكنه لم يوضح ماهية الدولة الفلسطينية ولم يطرح مبادرة تتعلق بذلك، وعلى الأرجح لن يفعل ما دامت إدارته لا تعطي أية أولوية للملف الفلسطيني-الإسرائيلي، كما من المرجح أيضًا أن تستمر التبعية الأميركية لمواقف حكومة نتنياهو دون تدخل واضح لصالح الفلسطينيين، في حين أن أي رفض من قبل السلطة الفلسطينية لهذه الحلول، سيقابل بتهديد إسرائيلي بتنفيذ مخطط ضم الضفة الغربية.
خاتمة
ما تبقى من الأرض لا يكفي لصناعة دولة فلسطينية خاصة إذا ما استمر المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا، في تجاهل مطالب الفلسطينيين. وإذا ما استمرت الظروف المحلية والإقليمية ومنها العربية التي تكرس ضعف الفلسطينيين، فإن الفترة القادمة ستكون الأكثر ميولًا لتكثيف النشاطات الاستيطانية في الضفة الغربية والاستمرار في تنفيذ مشروع القدس الكبرى، ليزداد الضغط على الشارع الفلسطيني في ظل استمرار مشاريع إسرائيل الاستيطانية، وسياسة التقسيم والضبط الاستعماري بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، الأمر الذي يدفع الفلسطينيين نحو تصعيد المواجهة مع إسرائيل خارج إرادة السلطة الفلسطينية.