مراجعة كتاب “الإنسان والعمران: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية”(بلال البازي)-1-
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الإنسان والعمران: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية، للكاتب المغربي إدريس مقبول، وهو يقدم قراءة جديدة للمدينة العربية، محدّدًا العلاقة القائمة بين العمراني واللساني والاجتماعي. ويبحث الكتاب عدة ظواهر اعتبرها مؤشرًا دالًّا على مرض المدينة العربية وحياتنا المدنية، وهو الأمر الناتج بالضرورة من الإقبال غير المخطط له على المدينة.
يحلّل الكتاب أمراض المدينة العربية، معتبرًا أنها تمرّ بوضع غير صحي وتحتاج إلى تنظيم، ومؤكدًا أن قدرتنا على تنظيم كينونتنا المعنوية والرمزية مرتبطة بتنظيم وجهها المادي والعمراني.
يقوم هذا الكتاب على سبعة فصول موزعة على قسمين، إضافة إلى قائمة الجداول والأشكال والصور. ويتناول أعراض مرض التمدن من خلال العلاقة المرآوية بين الإنسان والعمران واللسان، معتقدًا أن هذه الأعراض الناتجة من غياب الانسجام والتوافق “تظهر على مستوى الهوية الإنسانية عنفًا واستبعادًا وميزًا حضريًا، وعلى مستوى الهوية العمرانية تلوثًا بصريًا وتشوهات مجالية، وعلى مستوى الهوية اللسانية اغترابًا وتفككًا لغويًا واضطرابًا تواصليًا” (ص 14).
تتناول هذه الدراسة التشريحية والتشخيصية للمدينة العربية، والعابرة للتخصصات، كيفية اتصال العمراني بالإنساني في المدينة، محاوِلة إعادة تنظيم حياتنا المدنية والتطلع إلى المستقبل. إنه حديث عن إمكانية استيعاب المدينة العربية الحديثة لتناقضات الإنسان في الزمان والمكان، والحفاظ على هوية ساكنيها. ربما تكون هذه فرصة لتقييم التغييرات التي حدثت في المدينة التي نعتقد أننا نعرفها جيدًا، لكنها تفاجئنا في الروتين اليومي الذي يسود أحياءنا. هذه التغييرات تتناقض مع الصور التي تُبثّ على شاشة التلفاز، والتي نراها في الأفلام[1].
يبحث المؤلف في القسم الأول من الكتاب “من سيميولوجيا التدفق إلى سوسيولوجيا العزلة”، العمارة باعتبارها كائنًا تاريخيًا متطورًا رافق الإنسان عبر الزمن، وهي، علاوة على ذلك، نسيج من العلامات، وفضاء من التدفقات. فالعلامة، كما يشير إلى ذلك الكاتب، هي قعر الثقافة وسطحها ووعاؤها، إنها المنتج الثقافي الأكثر وجودًا في المحيط الإنساني.
يربط الكتاب بين البنى التي هي الموضوع الرئيس فيه؛ بنية الإنسان باعتبارها تجسيدًا للإرادة المتعالية في التاريخ، وبنية العمران باعتبارها تجسّد الامتداد الجمالي في الفراغ، وبنية اللسان وهي تجسد الرؤية الرمزية للوجود. إنّ فساد بنية من هذه البنى يستتبعها بالضرورة فساد سائرها، وهذا الترابط يتجلى في أن العمران واللسان ينعكسان على ثقافة الإنسان، والعمران تجسيد لإرادته.
ومن خلال العودة إلى فكرة الامتداد الجمالي والفني في الفراغ، فإن الفراغ “محور موضوعي في الواقع، يتولد منه محور إبداعي في ذلك، بفعل التجربة الحسية التي تحيل قانونية المادة الجامدة غير المخيّلة إلى صور ناطقة، وقيم منقولة عن الحياة” (ص 28). أما من خلال العودة إلى بنية اللغة، فإنّ الإنسان يتحدد وجوده عبر بنى رمزية، وهو يطمح في تجربته إلى بناء نظام رمزي يتجاوز به عالمه المادي المحدود، ويؤسس عبره بُعدًا جديدًا في الواقع، واللغة بنية رمزية نعي عبرها العالم وتتوسط علاقاتنا بالآخر وتكشف وجودنا للعالم بوصفها كينونة رمزية ووجودًا لغويًّا.
إنّ العمران هو مأوى الإنسان، ففي فضاءاته يسجل حضورًا مرئيًا ومقروءًا عبر التقابلات، كما يخبر بذلك كلود ليفي شتراوس، في مداريات حزينة (ص 29)، وبه يضمن حاجاته المادية والجمالية، كما يأوي إلى اللغة لضمان حاجاته التواصلية والرمزية، حيث عبّر – عبر التاريخ – عن أفكاره باللسان والفن المعماري.
يعبّر العمران، بما هو مأوى للإنسان يحقق عبره حاجاته، عن نفسه في شكل المدينة بكل مكوناتها، هو مصدر لباثولوجيات التمدن؛ إذ يتحدث الكاتب عن إمكانية “جعل المدن الحديثة فضاءات قابلة للعيش في ظل أمراض المدينة التي يفرزها بشكل تلقائي تأزم الأوضاع داخلها” (ص 37). ويشبّه الكاتب المدينة بفطر غالارنيا سوليس السام، حيث يركب بعضه على بعض، بسبب هجرات وتدفقات بشرية، جعلت من المدن نقطًا يتكدس فيها البشر. الحديث هنا، إذًا، عن مرض أصاب المدينة، أو بعبارة أدق أمراض التمدن، أمراض الإنسان المقهور في المدينة الحديثة الدائم التعرض للاستغلال والاستثمار الرأسمالي، بحسب توماس ديلورينزو Thomas Dilorenzo. هذه الأمراض هي “سلسلة من الأعراض التي تنتج من الأيديولوجيا الحضرية للنخبة التكنوقراطية التي تخطط المدينة في حدود التقني الهندسي، مقطوعًا على الإنساني والتاريخي والروحي” (ص 39)، فالمقاربة التكنوقراطية، كما وصفها الكاتب، مغرورة ووثوقية، ومن طبيعتها تجاهل المعطيات الثقافية المرتبطة بنسيج الأعراف والتقاليد، وتجاهل خصوصيات الإنسان.
المدينة فضاء من التدفقات كما عرّفها مانويل كاستلز Manuel Castells، والتدفق يأخذ أشكالًا متعددة، فالمدينة الإسلامية هي فضاء من التدفق الروحي والتدفق التجاري بفعل تنظيمها الذي يقضي بمركزية المسجد والسوق فيها. إننا أمام تدفقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية ورقمية.
إنّ التنظيم العمراني ينعكس على التنظيم السلوكي؛ أي إن العمران ينعكس على سلوك المجتمع والفرد الذي يعيش في كنفه، ومن ثم فإنّ العمران يحتاج إلى ثقافة وتخطيط مستقبلي. فقد تراجعت المدينة العربية بعدما كانت في العصر الوسيط ذات طابع عمراني وهوية عمرانية يعكسان فلسفة الوجود ورؤيتها المنسجمة لقيم الجمال والأخلاق والآخر. لقد تقهقر الفكر والذوق وكذلك السياسة العربية؛ ما أدى إلى تقهقر التخطيط العمراني الذي لم يعد مؤشرًا دالًّا على هوية محددة. إن الهوية الجديدة للمدينة العربية أثّرت تأثيرًا عميقًا في العلاقات الاجتماعية، وفي تصورنا وتعاملنا مع الظواهر، فهي قد دفعت الفرد نحو الوعي بذاته، وجعلته أبعد عن الآخر، “معلنة الفقر الإنساني وعلامات التصحر اللساني[2]، وهما من أعراض مرض التمدن” (ص 52).
ومن أبرز أشكال التراجع التي شهدتها المدينة العربية، انتقالها من ضيقها الخارجي واتساعها الداخلي الذي كان يضم نافورة وحديقة، إلى الضيق الداخلي والاتساع الخارجي. وما يلاحظ هو تقلص المساحات الخضراء في المدينة الحديثة، بخلاف المدينة القديمة ذات الخشونة الخارجية والمسالك الوعرة التي تفضي بك إلى بيت “كثمرة الرمان” (ص 60). تتميز هذه المدينة بحدائقها وبساتينها، فالحديقة علامة على إنسانية العمران ورومانسيته، إنه الجمال الداخلي، على عكس المدن الحديثة ذات البيوت الضيقة.
إن المدن العربية الحديثة تشترك في نشأتها على هامش المدينة القديمة، ومع الاستعمار الإمبريالي كان الأعيان يسكنون المدن الجديدة، بينما السكان الأصليون والنازحون من الأرياف يتكدسون في المدينة القديمة، وهذه سياسة استعمارية للتحكم في المجال وتسهيل مراقبته، كما أنه تمييز استعماري بين طبقات المجتمع، وبهذا يكون لدينا مجال: الثقافة الغالبة – الثقافة المقاومة. العلامات السوسيومجالية تكشف فداحة العزلة السوداوية والتهميش، كما تكشف عن المشاعر الممزقة والمتنافرة بين من يشعرون بالغبن وبين من يشعرون بالحظ المبتسم. وهكذا فإن المدينة تعيش واقعًا من الترييف وإعادة إنتاج نظام العلامات.
لقد أضحت المدينة العربية تعيش مشاعر ممزقة، بل تحوّلت إلى آلة لإنتاج المشاعر السوداء، ويتطرق الكاتب إلى هذه المشاعر وكيفية انبجاسها، إذ يولَد من “الكينونة المضغوطة في المجال الحضري وضع استثنائي مليء بالإثارات والإحباطات، ويولد معه وضع دائري تتلاشى فيه نقطة البداية ونقطة النهاية لتصنع شكلًا حلزونيًا من متلازمة الألم الداخلي المنتج للحقد الخارجي […] والحقد الداخلي المنتج للألم الخارجي” (ص 71).
المدينة تعيش الويلات من مشاعر الألم؛ هذا الألم الذي يأخذ منه النازحون من الأرياف الحصة الكبرى، فالطبقة التي هاجرت من الريف إلى المدينة لم يكن مسموحًا لها بالدخول إلى الفضاء الجديد إلّا كقوة للعمل الشاق أو النشاط الرخيص في صفوف النساء، بحيث لا يُنظر إلى القروية إلا كمومس تُستغل جنسيًا في المدينة السوق، فالمدينة تتخذ شكل الماخور، وتصبّ عليها سيولًا من “الحقد النقي” بعبارة جوليا كرستيفا Julia Kristeva. وعلى الرغم مما قاله الكاتب، فقد سجل بعض الباحثين أن “الغالبية العظمى من المهاجرين يبدون رضاهم عن هجرتهم، ويعتبرون أنهم بحراكهم قد تمكّنوا من إنقاذ أنفسهم وعائلتهم”[3].
[1] Sharon Zukin, Naked City: The Death and Life of Authentic Urban Places (Oxford: Oxford University Press, 2010), Preface, p. ix.
[2] يقصد بالتصحر اللساني قلة الكلام وضعف التواصل بين الناس.
[3] عبد الرحمان المالكي، الثقافة والمجال: دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب (فاس: مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية – جامعة سيدي محمد بن عبد الله، 2015)، ص 184.