“للذكر مثل حظ الأنثيين” بين الحكمة الربانية والأهواء الإنسانية(خالد المطالسي)_1_
إن المتأمل في نصوص الوحي المنظمة لأحكام المواريث في الشريعة الإسلامية، يجد أن الله تعالى وحده تولى تحديد الورثة ونصيب كل وارث، بتفصيل دقيق لم يعهد مثله في الأحكام والقضايا الأخرى، كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة … حيث جاءت ألفاظ آيات الفرائض قطعية الدلالة، لا تحتمل التأويل والاختلاف في الأنصبة، وذلك راجع إلى تصور الإسلام للمال وخطورته وتأثيره من جهة، وإلى الأهواء والنزعات التي تعتري الورثة بعد موت الموروث من جهة ثانية.
لكن رغم الإحكام والتفصيل الدقيق الذي يتسم به نظام الفرائض، لم يسلم من سهام النقد وإثارة الشبهات، من أفراد وجهات تتاجر بقضية المرأة، وتتخذها مطية للطعن في فروع الدين وأصوله القطعية، متخذة قول الله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾[1] شعارا للميز والحيف والظلم والجور الذي يلاحق ويلازم المرأة أينما حلت وارتحلت.
إن مناقشة قضية التفاضل في الميراث بين الإناث والذكور تقتضي في نظري خمسة أمور:
الأمر الأول: شبهات رواد المساواة المزعومة.
الأمر الثاني: قواعد ممهدة مؤسسة.
الأمر الثالث: فلسفة نظام الإرث في الإسلام.
الأمر الرابع: نظام الإرث مزايا وحكم وأسرار.
الأمر الخامس: أخطاء وغفلة.
الأمر الأول: شبهات رواد المساواة المزعومة في الإرث
يردد أنصار المساواة المطلقة المزعومة بين الرجل والمرأة جملة من الشبهات “الفكرية” منها:
الشبهة الأولى: أن المرأة أصبحت مساوية لأخيها الرجل في المدرسة والجامعة والمستشفى والرياضة والتأليف والتعليم والمعاهد والشرطة، بل وفي المعامل والمصانع والحقول، فلماذا لا نسوي بينها وبين الرجل في الميراث؟
الشبهة الثانية: أن المرأة كانت في فترة نزول الوحي مهمشة مهضومة الحقوق، لا تخرج من البيت ولا تشارك الرجال في الكسب ولا تتنافس معهم على القيادة، بل كانت تدفن حية وتورث من جملة التركة، لا رأي لها ولا موقف، أما الآن فأصبحت لها مكانة اجتماعية وعلمية عالية جدا، بشواهدها الأكاديمية وكفاءتها العلمية التي مكنتها من قيادة الأحزاب السياسة والنقابات العمالية، والجمعيات الخيرية…فكيف ترث نصف حظ أخيها وهي مساوية له وربما تفوقت عليه في بعض المجالات؟
الشبهة الثالثة: أن نظام الإرث في الإسلام لم يستطع التخلص من الأعراف والعادات القبلية التي كانت تحكم العرب قبل البعثة، بل حاول فقط التقليل من قسوة هذه الأعراف على المرأة، أما الآن فالسلطة في المجتمع للقانون وحده لا للقبيلة ولا للعشيرة. ومن حقها أن تطالب بالإنصاف.
وهذه شبهة لا تنطلي إلا على السذج من الذين لا اطلاع لهم على مكانة المرأة في الشريعة الإسلامية[2]، ومقارنتها بأحوال المرأة العربية قبل البعثة، وبالأنظمة الاجتماعية للشعوب والأمم قبل الإسلام وبعده.
الشبهة الرابعة: أن نظام الإرث في الإسلام يقوم على عنصر الجنس والقوة مما جعل المرأة تحتل المرتبة الأخيرة في سلمه.
وبما أن المرأة وصلت إلى ما وصلت إليه في العصر الحديث فكيف يسوغ أن نعاملها بقاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين”؟
هذه بعض شبهاتهم حول الإرث في الإسلام فما فلسفة هذا النظام، ولماذا أعطى للابن ضعف نصيب أخته؟.
الأمر الثاني: الأمر الثاني: قواعد ممهدة مؤسسة.
بما أن الذين يوجهون سهام النقد والطعن لنظام الإرث، إما عن جهل وإما عن قصد وسوء طوية أغلبهم يعلنون انتماءهم للإسلام[3]، بعقيدته وشريعته ومنظومة أخلاقه وآدابه، فإننا نحتاج أولا إلى جملة من المقدمات قبل الحديث عن فلسفة الإرث في الإسلام:
المقدمة الأولى: لا اجتهاد في الأحكام الشرعية الثابتة بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة، فالأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر وأنصبة الورثة المقدرة في نصوص الوحي، لا مجال للاجتهاد فيها بالتطوير والتعديل، وهذا محل اتفاق بين العلماء، ومن القواعد المقررة في هذا الشأن “لا اجتهاد مع النص”، وقد عقد ابن القيم رحمه الله تعالى فصلا في إعلام الموقعين، للحديث عن تحريم الإفتاء والحكم في دين اللَّه بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر إجماع العلماء على ذلك[4].
المقدمة الثانية: قال تعالى:﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾[5]، ومعناه أنه يَسأل ولا يُسأل، غير أن المنهي عنه السؤال للاعتراض[6]، أو الإنكار أو الاستهزاء أو المحاسبة[7]، قال تعالى في شأن هؤلاء: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[8]، فالله تعالى لا يُسأل لأنه الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه[9]…. يقول الشيخ سعيد حوى: وهذا لا ينفي البحث عن الحكمة في تشريعه وأفعاله[10]، على سبيل الاستفادة والاستنباط والتعلم والفهم مع الإيمان الجازم بعدل الله وحكمته وعلمه المطلق بالحاضر والمستقبل…يقول ابن القيم: فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا[11]. فالله تعالى حكيم لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل[12]. وتفاوت عقول الناس في إدراك الحكمة والمصلحة، التي شرعت لأجلها بعض الأحكام الشرعية، وعدم إدراك بعضهم للحكمة، لا يدل على انعدامها بل يدل على قصور العقل وضعف الفهم، وهذا المعنى هو المعبر عنه بقاعدة: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود[13]، وعدم العلم بالشيء لا يدل على عدم الشيء[14].
وتأمل إن شئت خواتم آيات المواريث فقد ختم الله الآية الأولى بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[15]، والثانية بقوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[16]، والثالثة بقوله سبحانه:﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[17]. كل هذا التكرار[18] وهذا التأكيد والتذكير بحكمته تعالى وعلمه، ليعلم الجميع أن هذا التفاوت في الإرث وتفضيل البعض على البعض هو العدل لا ظلم فيه ولا حيف، وهو الحق الواضح البين لا خطأ فيه ولا غلط ولا ضلال، ولا باطل[19] . فالله تعالى عليم بما شرع حكيم فيما شرع.
فإنه لو رُدَّ تقدير الإرث إلى عقول الناس واختيارهم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن في كل زمان ومكان، فلا يدرون أي الأولاد أو الوالدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية[20]، قال تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[21].
المقدمة الثالثة: قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾[22]، فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول[23]… إلا السمع والطاعة والانقياد والإذعان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[24].
المقدمة الرابعة: المال مال الله تعالى والإنسان مستخلف فيه، وهذا يقتضي الالتزام والتقيد بالأحكام التي شرعها المالك الحقيقي للمال، كسبا وإنفاقا وقسمة وتوزيعا. قال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾[25] قال الإمام الزمخشري: مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعنى أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها، وخوّلكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة. وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنوّاب[26]، فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء، والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال، والله هو الذي يفرض، وهو الذي يقسم، وهو الذي يشرع، وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم، ولا أن يحكموا هواهم، كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم[27]، لأنهم لو كانوا يدركون مصلحتهم ما اعترضوا على حكم الله تعالى ولا وجهوا سهام نقدهم إليه وهو عين المصلحة وعين العدل.
فالتوزيع القرآني للإرث هو توزيع من المالك الحقيقي للتركة وهو الله الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، المال ماله يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، أو يؤثر البعض على البعض يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون…[28].
وقال عز وجل: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾[29] ، وقال سبحانه: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[30].
المقدمة الخامسة: الإنسان محب للمال بطبعه، خاصة من لم يتأدب بآداب الإسلام ولم يلتزم بأحكامه ولم ينزل المال منزلته الحقيقية في الحياة أنه مجرد وسيلة لا غاية، قال تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾[31] ، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَالِثٌ وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ”[32]، قَالَ الطِّيبِيُّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ بَنِي آدَمَ مَجْبُولُونَ عَلَى حُبِّ الْمَالِ وَالسَّعْيِ فِي طَلَبِهِ وَأَنْ لَا يَشْبَعَ مِنْهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ لِإِزَالَةِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فَوَضَعَ قَوْلَهُ “وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ” مَوْضِعَهُ إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذِهِ الْجِبِلَّةَ الْمَرْكُوزَةَ مَذْمُومَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الذَّنْبِ وَأَنَّ إِزَالَتَهَا مُمْكِنَةٌ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَتَسْدِيدِهِ [33]… ومن المعلوم أن تعلق الإنسان بالمال وشدة حبه له وحرصه عليه، قد يدفعه إلى ارتكاب جملة من المخالفات تحت تأثير الهوى والغضب في حق غيره خاصة الضعفاء والعاجزين الذين لا حيلة لهم ولا قوة يدفعون بها عن أنفسهم ويحفظون بها حقوقهم المالية…
ونظرا لسطوة المال على النفوس وسيطرته عليها تولى الله سبحانه وتعالى بنفسه قسمته على الورثة بما لا يبقى معه مجال للجور والمحاباة منعا للنزاع، كما حذر وتوعد بالنار والعذاب المهين في نهاية آيات المواريث كل من عصى وتمرد على أحكام الله وتجاوز حدوده، قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[34].
المقدمة السادسة: العدل هو التسوية بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات. والظلم هو التفريق بين المتماثلات، والتسوية بين المختلفات. وبناء على ذلك فعندما نقول الإسلام دين المساواة – بين الرجال والنساء- لا نقصد المساواة المطلقة كما يظن البعض، لأن التسوية المطلقة تقتضي التسوية بين المختلفات، وهو نوع من الجور تأباه الشريعة الإسلامية.
وإنما نقصد أن الإسلام سوى بين المرأة والرجل في الخلق والإنسانية والكرامة ومناط التكليف وملكاته والجزاء والحساب، مع التمييز بين الأنوثة والذكورة، حفظا لتميز وتكامل الفطرة التي فطر الله عليها النساء والرجال، ليكون التكامل الدعوة الدائمة لتحقيق سعادة النوع الإنساني[35].
إذن فميزان العدل الصحيح هو التسوية بين حقوق المرء وواجباته. فليس من العدل أن تسوي بين اثنين مختلفين في الحقوق والواجبات، ذلك هو الظلم بعينه، بل هو شر من الظلم، أيا كانت العاقبة التي يؤدي إليها…فمن اللجاجة الفارغة أن يقال: إن الرجل والمرأة سواء في جميع الحقوق والواجبات[36].
المقدمة السابعة: الإسلام منظومة ومنهج متكامل، مستوعب للحياة الإنسانية في جميع أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والنفسية… لا يمكن لأحد مناقشة جزئية من أحكامه بمعزل عن الأحكام الأخرى، وإلا قدم نظرة مجانبة للصواب، بعيدة عن الحقيقة، فكل من نظر إلى أحكام الإسلام بموضوعية وإنصاف بعيدا عن الآراء والمؤثرات، وجد منظومة الأحكام الشرعية غاية في الإحكام والتناسق والارتباط والوفاء بمصالح الفرد والجماعة، فقضية الإرث مثلا لا يمكن الحديث عنها بعيدا عن أركان الإيمان ومقتضياته وأحكام الأسرة المنظمة للزواج والقوامة والولادة والطلاق وتربية الأبناء والعلاقة مع الآباء، كما لا يمكن استبعاد الأحكام المرتبطة بكسب المال وإنفاقه، دون أن ننسى منظومة القيم التي تعطي للأحكام معنى خاصا، كالتضامن والتعاون والتكافل والإيثار والبذل…
لهذا يحاول البعض استعمال آلية الانتقاء والتجزيء والتبعيض[37]، سواء لدعم فكره المنحرف بنصوص الوحي مبتورة من سياقها معزولة عن النصوص الأخرى ، أو للطعن في بعض الأحكام الشرعية التي لا توافق هواه، ليبرهن للناس إما على قصور الإسلام وعدم مسايرته لتطور المجتمعات البشرية، أو أن فيه محاباة وميلا إلى فئة على حساب أخرى، وهو يعلم يقينا أنه لو ناقش الإسلام كمنهج شامل ينظم حياة الجماعة والفرد من ولادته إلى حين وفاته، من سرير نومه إلى ساحة جهاده، سيجد نفسه أمام منظومة تضمن لمن التزم بها- فردا أو جماعة أو أمة- سعادة الدنيا والآخرة.
إن الأحكام الشرعية كعقد الجواهر، كل جوهرة تأخذ قيمتها ويبرز جمالها عندما تأخذ مكانها في العقد، أما إذا تم فصلها عن العقد فإنها تفقد قيمتها ويتوارى جمالها.
المقدمة الثامنة: إذا عرفت الآمر، ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، بينما إذا عرفت الأمر، ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر[38]، لأن عند الجهل بالله لا يشعر الإنسان بلذة الطاعة والانقياد والامتثال، فالتمرد على أحكام الله تعالى والاعتراض عليها ناتج عن الجهل به سبحانه، فالذي يدعو إلى المساواة المطلقة بين المرأة والرجل في كل شيء يغيب عنه قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾[39]، ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾[40]، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾[41] وغيرها من الآيات.