“للذكر مثل حظ الأنثيين” بين الحكمة الربانية والأهواء الإنسانية(خالد المطالسي)_2_
الأمر الثالث: فلسفة نظام الإرث في الإسلام
إذا قمنا باستقراء حالات الورثة وأنصبتهم جميعا نجد أن نظام الإرث في الإسلام لا يقوم على معيار الأنوثة والذكورة في تحديد أنصبة الورثة، فالله تعالى لم يقل يوصيكم في الورثة للذكر مثل حظ الأنثيين، وإنما قال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾[1]، ويقول عز وجل أيضا:﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾[2] إذا فقاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” خاصة بأولاد الميت وإخوته الأشقاء ولأب، ولا تشمل باقي الورثة، بمعنى أنها قاعدة غير مطردة في جميع الورثة، بل هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها الرجل، وأخرى ترث فيها أكثر مما يرثه الرجل، أو ترث نصيبا مساويا له، وهذا من الأمور المعلومة لمن له إطلاع يسير بعلم الفرائض، لكن الجهل يفعل بصاحبه ما لا يفعله العدو بعدوه.
وفي دراسة إحصائية لحالات الميراث في الفقه الإسلامي، خلص العالم السوداني الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري، إلى أن الأنثى ترث نصف الذكر في حالات تمثل 13,33% من حالات الميراث، بينما ترث الأنثى مثل الذكر أو أكثر منه في حالات تبلغ 86,67% من حالات الميراث أي أن المرأة متميزة عن الرجل فيما يقرب من 90% من حالات الميراث، وباستقراء هذه الحالات يظهر أن هناك أربع حالات فقط ترث المرأة نصف الرجل[3].
وتوصل الأستاذ صلاح الدين سلطان بعد دراسته الاستقرائية لحالات ميراث المرأة ومقارنتها بنظيرها الرجل، إلى أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه، أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابل أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل لأسباب تتوافق مع الروافد الأخرى من الأحكام الشرعية التي تتكامل أجزاؤها في توازن دقيق لا يند عنه شيء، ولا يظلم طرفا لحساب آخر لأنها شريعة الله تعالى الحكيم العليم الخبير العدل[4].
يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون: “وتعد مبادئ المواريث التي نَص عليها القرآن بالغة العدل والإنصاف، ويمكن القارئ أن يدرك هذا من الآيات التي أنقلها منه، ولم يُبْصَر في القرآن جميع الأحوال التي عالجها المفسرون فيما بعد وإن أشير فيه بدرجة الكفاية إلى روحها العامة، ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنكليزية أن الشريعة الإسلامية مَنَحَت الزوجات، اللائي يُزعَم أن المسلمين لا يعاشرونهن بالمعروف، حقوقاً في المواريث لا تَجِدُ مثلَها في قوانيننا”[5].
لكن سماسرة هذا الانتقاد، يفهمون من قوله تعالى: “للذكر مثل حظ الأنثيين” قانونا عاما ساريا في أحكام الميراث. بل إن كلمة “للذكر مثل حظ الأنثيين” غدت في وَهْم المروجين لهذا الانتقاد وكثير من دهماء الناس، بمثابة دستور اجتماعي مطلق يفرضه الدين في كل مسألة وفي سائر الأحوال وبالنسبة إلى سائر القضايا والمشكلات…في حين إنما الآية رسمت هذا الحكم في ميراث الأولاد دون غيرهم[6]، وقد بينا خطورة منهج التجزيء والتبعيض الذي يعتمده البعض أثناء دراسة الأحكام الشرعية، والغاية منه في المقدمة السابعة.
أمثلة توضيحية:
1-أم وأب وابن، فإن نصيب الأم يكون مساويا لنصيب الأب وهو السدس لكل منهما والباقي للابن تعصيبا. وفي سر تسوية الأب والأم في الميراث يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: إن الأبوين يتعرضان بدرجة واحدة لتلقي النفقة من ابنهما عندما كان حيا وذلك عندما يكون الولد موسرا وتتقاصر حال الأب عن الاكتساب، وهذا هو الغالب، ومن ثم فإن العدالة في توزيع ميراث الولد هنا، تقتضي أن يستوي الأب والأم في حقهما من ماله إذا مات[7].
2-الإخوة لأم، فالأخ لأم والأخت يرثان الثلث ويقتسمانه بالتساوي بينهما، وإن انفرد يرث السدس وكذلك الحال إذا انفردت الأخت لأم، ذلك لأن أيا منهما لا يتعرض لتحمل مسؤولية الإنفاق على أخيهما المتوفى عندما كان حيا. فهما مستويان في علاقتهما به من حيث الغرم والغنم. إذن فاقتضت عدالة التوزيع أن يكون نصيبهما متكافئين[8].
3-أب وبنت وزوج ففي هذه الحالة يرث الزوج الربع لوجود البنت، وترث البنت النصف أي ضعف ما يرثه أبوها، ويأخذ أب الميت السدس فرضا والباقي تعصيبا.
4-أم وأخت شقيقة وزوج وأخ لأب، فللأم السدس، وللأخت الشقيقة النصف وللزوج النصف والباقي للأخ لأب تعصيبا، وفي هذه الحالة لن يفضل له شيء لاستغراق الفروض للتركة.
5-أم وأب وزوج وبنت وابن ابن، فللأم السدس وللأب السدس وللزوج الربع وللبنت النصف والباقي لابن الابن تعصيبا وفي هذه الحالة لن يفضل له شيء لاستغراق الفروض للتركة.
من خلال هذه الأمثلة وغيرها كثير ندرك يقينا أن الذكورة والأنوثة من حيث ذاتهما لا مدخل لهما في فلسفة الإرث في الشريعة الإسلامية كما أن تطور وضع المرأة ومشاركتها في الحياة العامة لا دخل له في تحديد الأنصبة كما يدعي أنصار مظلومية المرأة والمتاجرين بقضيتها.
بل يمكن القول إن فلسفة الإرث في تحديد الأنصبة تقوم على ثلاثة أسس:
موقع الجيل الوارث، درجة القرابة بين الوارث والموروث، العبء المالي الواقع على الوارث[9].
الأساس الأول: موقع الجيل الوارث: فالأجيال التي تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة وتتخفف من أعبائها، بل تصبح أعباؤها ــــ عادة ـــ مفروضة على غيرها وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات، فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه ــــ وكلتاهما أنثى ــــ وترث بنت المتوفى أكثر من أبيه ذلك في حالة وجود أخ لها[10]، ويرث الابن وابن الابن أكثر من الأب والجد نظرا لموقعهما.
الأساس الثاني: درجة القرابة بين الوارث والموروث: ذكرا كان أو أنثى، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين فترى البنت الواحدة ترث نصف تركة أمها (وهي أنثى) بينما يرث أبوها ربع التركة (وهو ذكر) وذلك لأن الابنة أقرب من الزوج فزاد الميراث لهذا السبب[11]، وهناك نكتة أخرى في هذه المسألة ˗والله أعلم˗ وهي أن هذه البنت قد تكون من رجل آخر غير الزوج، فترث في أمها نصيبا أكبر يضمن لها الحياة الكريمة إن أهمل زوج أمها رعايتها والنفقة عليها، خاصة عندما ينعدم الوفاء ويضعف الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والتربوية نحو الربائب[12].
و البنت أقرب من بنت الابن، لهذا ترث بنت الابن مع البنت السدس فقط تكملة الثلثين بدل مشاركتها في فرضها، وكذلك حال ابن الابن مع البنت فإنه لا يعصبها، بل ترث هي بالفرض النصف ويرث هو بالتعصيب ما يفضل عن أصحاب الفروض فإن لم يفضل له شيء فلا شيء له.
الأساس الثالث: العبء المالي: وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى، لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح.
ففي حالة إذا اتفق الورثة وتساوى الوارثون في العاملين الأولين)درجة القرابة ، وموقع الجيل(˗مثل أولاد المتوفى ، ذكورا وإناثا˗ يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في التفاوت في أنصبة الميراث، ولذلك لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى في عموم الوارثين، وإنما حصره في هذه الحالة بالذات، والحكمة من هذا التفاوت، في هذه الحالة بالذات، هي أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى -هي زوجه- مع أولادهما، بينما الأنثى الوارثة -أخت الذكر – إعالتها مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها[13].
وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس، إنما الأمر أمر توازن وعدل، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي…وكل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها الحياة[14].
فالذكر كما نرى مطالب شرعا بجملة من التكاليف المالية الثقيلة المستمرة والمتجددة الثابتة والطارئة قبل الزواج وبعده منها الصداق ونفقة الزوجة من إطعام وكسوة وسكنى وبالمتعة بعد الطلاق… ونفقة الأولاد وعلاجهم ويستمر إنفاق الأب على ابنته إلى أن تتزوج فإذا تزوجت صارت نفقتها واجبة على زوجها، وكذلك نفقة الوالدين في حال فقرهما وعجزهما عن التكسب فهي واجبة على الأولاد، وتجب نفقة الوالدين على الولد ولو مع اختلاف الدين، بأن كان الولد مسلما والوالدان كافرين، أو العكس[15]، بالإضافة إلى النفقات الطارئة، فهو مخاطب بالأضحية والعقيقة وإكرام الضيف والجهاد بالنفس والمال والمساهمة في دية الخطأ التي تجب على العاقلة وغيرها من الالتزامات المالية.
ولم يكتف الإسلام بإعفاء المرأة من تلك التكاليف المالية وإلقائها على الرجل، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين اعتبر بعض تلك التكاليف من الواجبات الدينية غير القابلة للتنازل والإسقاط، فإذا تزوج رجل امرأة بشرط أن لا صداق لها أو لا نفقة أو لا سكنى لها ولا كسوة، أو شرط عليها الإنفاق على الزوج أو أبنائه، فسخ النكاح قبل الدخول وجوبا…وإذا دخل بها وفات فإن الشرط يبطل وتعطى صداق أمثالها، وتستحق كل حقوقها التي تنازلت عنها عند زواجها بمحض إرادتها[16]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ”[17].
والحكمة من إعفاء المرأة من هذه التكاليف الحرص على صحة المرأة وراحتها، وصونا لها عن الابتذال في طلب المال، وإشفاقا عليها من مشاكل تكسبه، والمرأة أعلم من غيرها بالثمن المطلوب منها كلما طرقت بابا من أبواب الشغل، أو وجدت نفسها في ورش من أوراش العمل، أو في مكتب من المكاتب تحت سلطة مشغل أو رئيس عديم الضمير والأخلاق[18]. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: أعتقد أنه ليس من تكريم المرأة تكليفها بالارتزاق في أحوال مقلقة، ولا من تكريمها أن تجمع بين وظيفة ربة بيت، ووظيفة أخرى ترهق أعصابها وتستغرق انتباهها[19].
وبهذا يكون الإسلام قد وضع المرأة والرجل في موضعهما المناسب لفطرتهما وخلقتهما، واللائق بمهمة كل واحد منهما في الحياة، فهل هناك تكريم للمرأة أعظم وأوضح من تكريم الإسلام لها، وهل في هذا التفاوت-المحدود المضبوط- حط من كرامة المرأة وانتقاص من إنسانيتها؟
الأمر الرابع: نظام الإرث في الإسلام مزايا وحكم وأسرار.
ننتقل بعد هذا العرض الوجيز إلى بيان جانب من حكم وأسرار نظام الإرث في الإسلام، تعين على فهمه وإدراك أبعاده:
1-نظام الإرث في الإسلام نظام رباني، فالله سبحانه وتعالى هو الذي تولى تحديد الورثة ونصيب كل واحد وفق ميزان دقيق يراعي درجة القرابة وموقع الجيل الوارث والعبء المالي للوارث، فقدم الأب على الجد، وورث الزوج في زوجه لتوثيق الروابط بينهما.
2-نظام الإرث في الإسلام نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة، وفطرة الإنسان بصفة خاصة، فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة. لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ النوع. فهو أولى بالرعاية-من وجهة نظر الفطرة الحية- ومع هذا لم يحرم الأصول، ولم يحرم باقي القرابات، بل جعل لكل نصيبه مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل[20]. يقول الشيخ عبد الكريم زيدان:” وإقراره نظام الإرث؛ لأن الإنسان مفطور على حُبِّه لأبنائه، وقلقه عليهم إذا تركهم بدون مال، ومن ثَمَّ أقرَّ الإسلام نظام الإرث؛ لأنه ينسجم ويتفق مع هذه الفطرة. وقد أشار القرآن الكريم إلى نوازع فطرة الإنسان نحو أبنائه، وشفقته عليهم، واهتمامه بهم، وخوفه عليهم بعد موته”[21].
3-من مقاصد تفصيل أنصبة الورثة رفع النزاع المفضي إلى قطع الأرحام وإثارة الفتنة بين الأقارب الذين عاشوا في كنف واحد. قال عثمان بن المكي التوزري الزبيدي: وحكمة مشروعيتها – أي الفرائض-رفع التشاجر واتصال كل ذي حق بحقه الذي قدره الشارع له فلا يبقى في نفسه شيء يوجب النزاع[22].
3-أن الحق سبحانه وتعالى يعلم ما جبلت عليه طبيعة البشر، من الأثرة وحب المال، والخضوع لمؤثرات الهوى والغضب لم يدع أمر توزيع التركة إلى البشر، بل تولى تحديد المستحقين للميراث ونصيب كل منهم بما لا يبقى معه مجال للظلم وحظوظ النفس[23]. فقد يدفع الخصام أو الغضب أو الميل بالحب إلى أحد أفراد العائلة الموروث إلى التفكير في حرمان الوارث من الميراث أو تفضيل غيره عليه وكفى بذلك فتنة وقطيعة للرحم، لهذا يسأل كثير من الناس عن حكم حرمان الولد العاق من الإرث عقابا له على عقوقه، فيأتي جواب العلماء بعدم الجواز لأن موانع الإرث لا مدخل فيها للأهواء ولأن الله تعالى وهو الذي تولى قسمة المواريث بنفسه[24].
4-أن الإسلام سعيا منه إلى تعميق روح المحبة، وتوثيق أواصر القربى بين أفراد الأسرة، جعل الميراث لأحب الناس إلى الميت، وأمسهم به صلة، لذا كان الميراث محصورا في نطاق الأسرة من خلال القرابة والزوجية[25]، فلو خص فريقا معينا بالميراث دون غيره لتنافرت القلوب وتفككت الأسرة[26]. فنظام الإرث في الإسلام لا يمكن فصله عن منظومة القيم التربوية التي تنظم العلاقات بين أفراد الأسرة وتضمن استقرار الأسرة واستمرارها على وجه سليم، وخير مثال على ذلك إرث المطلقة طلاقا بائنا في مرض الموت، معاملة له بنقيض قصده، وهو الإضرار بالزوجة وحرمانها من حقها في الميراث، وهذا منافي لحسن العشرة الزوجية المبني على المودة الصادقة وسعي كل طرف لإسعاد الآخر وحسن صحبته. وهو ما أشرنا إليه في المقدمة السابعة. يقول محمد الحجوي الثعالبي: فمسألة الميراث من أهم المسائل عند سائر الملل، وبها تتكون العائلات وتتقرّب القرابة، وتتقرر الأرحام، وتعرف مراتب الأقارب ليكون بها الدفع والجلب والتعاون العائلي[27].
5-أن نظام النفقة إلى جانب نظام الميراث بين الأقارب يحقق قاعدة العدل والتوازن القائلة بأن “الغرم بالغنم”[28]، ففي حين يلزم القريب بالإنفاق على قريبه إذا كان معسرا، فإنه يستحق الميراث منه إذا كان موسرا[29].
6-كلما زاد العبء المالي للوارث زاد نصيبه من الميراث والعكس صحيح عملا بقاعدة الغرم بالغنم. فلا يميز جنسا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي[30]. ولكن هذا التمييز المالي -في الحالات الأربع- لا يعكس انتقاصا من حرية الأنثى وحقوقها. بل لا نغالي إذا قلنا إنه هنا يزيدها تكريما وامتيازا وتحريرا…فهو قد قرر لها الشخصية والذمة المالية المستقلة، فسبق بذلك حضارات الدنيا بأسرها، ثم تبنى حكم الفطرة عند ما ألزم كشرط من شروط القوامة بالتبعات المالية اللازمة للأسرة، ذكورا وإناثا، فكأنه ما زاد في نصيبه من الميراث إنما رصد لينفقه على الأنثى التي ألزمه الشرع بكل نفقاتها، أما نصيبها فإنه قد تقرر لها دون إلزام بالإنفاق منه في شركة الزوجية[31].
7-العلاقة بين حق المرأة في الميراث وحق النفقة علاقة موزونة، والميزان بينهما ميزان رباني دقيق، يقل نصيبها عن نصيب الرجل من الميراث إذا توافرت لها كفالة قوية، وترث مثله أو أكثر منه إذا قلت أوجه الكفالة[32].
8-وأما الحكمة في حياة الجماعة: فقد اتقى الإسلام بالتوريث ونظامه خطرين اجتماعيين عظيمين[33]:
أ-تكدس الأموال في يد واحدة، وهو من عناصر الطغيان المالي الذي يثير في الجماعة حرب الطبقات، فنظام الإرث في الإسلام يسعى إلى تفتيت الثروة وتوزيعها ومنع تكدسها على رأس كل جيل.
ب-حرمان جميع أفراد الأسرة من جهود الآباء والأبناء والأزواج والأقارب، الذين يرتبط بعضهم ببعض بصلات الدم والقرابة والتعاون، وبذلك تصرف التركة إلى هؤلاء المرتبطين المتعاونين، فلا تصرف إلى شخص معين، فيكون الطغيان المالي، ولا تصرف إلى الدولة، فيكون حرمان الجميع من جهود الآباء والأبناء والأزواج والأقارب، وهو معنى لا يقل أثره السيء في الجماعة إن لم يزد عن أثر الطغيان المالي فكلاهما شر في الجماعة، وكلاهما طغيان وحرمان، والحياة لا تصلح مع واحد منهما.
فهو-نظام الإرث- أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة، ورده إلى الاعتدال، دون تدخل مباشر من السلطات…هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح[34].