المقالات

مراجعة كتاب “الإنسان والعمران: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية”(بلال البازي)-2-

لقد صوّر الدكتور إدريس مقبول المدينة العربية الحديثة بأحبار قاتمة، فهي آلة لإنتاج مشاعر الطمع والبؤس والوقاحة وسلسلة الأهواء السلبية، والتنمر على النازحين باعتبارهم، في نظر سكان المدينة، سبب المشاعر السوداوية، الأمر الذي يذكرهم دومًا بغربتهم؛ هؤلاء الذين قذفت بهم الأرياف إلى مستنقع المدن، بسبب التهميش والإقصاء اللذين تعيشهما الأرياف، إضافة إلى الظروف الطبيعية القاسية، وكذلك طبيعة العمل في المدينة، حيث يتميز من العمل في البادية بالتنوع وكثرة الفرص ومصادر الدخل، وبكونه سهلًا مقارنة بالعمل الزراعي الشاق، فالعمل من الأسباب الجاذبة للمدينة والطاردة من البادية[1]. لكن المدينة عجزت عن استيعاب أعداد القادمين المتزايدة من الأرياف، فتكونت أحياء الصفيح وأحياء التهميش، بفعل سياسة التفقير الممنهج، باعتباره من أبرز أمراض التمدن التي خلّفها التقسيم الاستعماري للمجال، كما خلق أبرز متناقضات المدينة العربية.

إنّ للهندسة دورًا أساسيًا وعدوانيًا في التدمير الناعم، حيث تحدد المجال الذي يجب الاهتمام به، وهو المجال النافع، والمجال المهمش، وهذا من فعل الاستعمار الذي صنّف المناطق إلى نافعة تخدم مصالحه، وغير نافعة، أي تلك التي لا تخدم مصالحه؛ ذلك أن “إعادة إنتاج نظام العلامات ذي البعد السوسيومجالي كانت فعلًا استعماريًا” (ص 78). فالاستعمار في تعامله الوحشي مع المجال يسعى إلى خدمة أغراضه الأنانية على حساب الحاجات الطبيعية للمستعمَر، فتقسيم المجال في المدينة العربية الحديثة هو جزء من استراتيجية اشتغال الثقافة الإمبريالية.

وبسبب تحميل المجال أكثر من طاقته في غياب للإمكانيات التي تحفظ كرامة الإنسان، يتحول هذا المجال من صون الإنسان إلى ممارسة شتى أنواع التعذيب عليه، ويصبح الازدحام والعشوائية من صفات المدينة. هذه العشوائيات والهامشيات التي شبهها سيرج لاتوش Serge Latouche بالثآليل على الوجه الأملس، تعيش عالة على الجسد السليم، وما جعل منها ثآليل هو منطق اللامبالاة (ص 82)؛ مجال خصب للعنف، وهو نتيجة طبيعية لشحّ التواصل بين الناس، وفي مجال كهذا تحمل الحياة استعدادات مضمرة للتعبيرات العنيفة من أجل قيم البناء فحسب، وهذا يحول المدينة إلى وضع مأساوي، الكل يجاهد لحفظ ذاته في ظل غياب أي بنية أو ظروف للنماء. إن العشوائيات تحمل جروحًا غائرة تمثلها مشاعر التهجير والعنف والألم.

يستعمل الكاتب صورة القوارض لتفسير العلاقة المتوترة بين المدينة والقرية، حيث تستضمر صورة القوارض مكرًا ونهمًا، فالمدينة تزحف على القرية وتلتهمها تدريجيًا. إننا هنا إزاء نظرية “المتصل الريفي الحضري” كما يسميها الأنثروبولوجي روبرت ريدفيلد Robert Redfield. ويرى الكاتب أن المدينة تتخذ التخطيط البصلي الذي مفاده أن المدينة القديمة تحتل المركز، باعتبارها نموذجًا للعتاقة واللسان المحلّي، تحيط بها المدينة الجديدة، مدينة الطبقات العليا والمتوسطة، وهي تمثل الحداثة واللسان الأجنبي، ثم الهامشيات التي تمثل هجنة اللهجة وتداخل الألسن بفعل الهجرة. هنا نستحضر مدينة فاس على سبيل المثال، وكيف ينعت الإنسان الفاسي المحلي باقي الوافدين بـ “الدخلاء”، ويتميز الفاسي بلهجته العتيقة، بينما من يسكن الهوامش تغلب الهجنة على لهجته ويطبعه العنف. إن هذا التقسيم “البصلي” أفلاطوني بامتياز، وهو سياسي بالدرجة الأولى كما يرى جيمس دونالد. ثم للخروج من مشاكل العمران، يقترح الكاتب ترجمة الإصلاح العمراني إلى إصلاح أخلاقي ومدني تُعطى فيه الأولوية للمعاني الإنسانية وما يسميه “النمو الداخلي”.

يروم هذا الإصلاح انتشال إنسان المدينة المعزول وسط الزحام، ورفع العزلة الاجتماعية Social Isolation عنه؛ ذلك أن العزلة هي أشد أنواع العقوبات في المدينة، وفي أسلوب الكاتب، الذي يقترب أحيانًا من الإنشائية، هي “انغماس في الفراغ الأبدي الأسود، انتحار الكينونة وسط ضجيج العالم، وقوع تحت شلال القلق والمعاناة والغربة والموت البطيء” (ص 93). ويمكن رصد هذه الوحدة الاجتماعية وهذا الاغتراب في المكان عبر مساءلة الحياة الفردية والجماعية، من خلال سيكولوجيا اللعب والاحتفال. فالألعاب الإلكترونية تسجن وجودنا داخلها وتُدخلنا في حالة من العزلة الاجتماعية، بخلاف اللعب الجماعي الذي ينمّي القدرات التواصلية مع الآخر. هناك كذلك تغيّر آخر يشمل الاحتفالات التي كانت تقام في البيوت، وكان المدعوون يشاركون أصحاب الحفل احتفالهم ومرحهم، حيث انتقل الاحتفال إلى قاعات مخصصة لذلك، ذات طابع تجاري، وأصبح أصحاب الحفل أنفسهم يدخلونها غرباء. إن هذا النمط من الاحتفال إنما هو للمفاخرة والاستعراض، وبلغة بورديو “استهلاك جديد لعلامات التمييز” (ص 95).

وتتخذ العزلة في المدينة أشكالًا متعددة، منها ما يعانيه الإنسان القروي من تمييز عنصري من السكان الأصليين؛ الأمر الذي جعل الأجيال الحضرية الجديدة تعاني الرفض الاجتماعي، وتعيش هذه العزلة بحذافيرها. إن العزلة الاجتماعية من أخطر المظاهر السوسيولوجية التي تضمر سلسلة من الأمراض النفسية، من صدام وخشونة ومشاعر كراهية. فالمدينة العربية تعجّ بالعنف الرمزي والعنصرية، وهذا يتمثل في الطرائف والنكت الساخرة المتداولة؛ ما من شأنه أن يحوّل “مجال التواصل من وجهة نظر سوسيولسانية مجالًا مشحونًا وعنيفًا باستمرار، ومهيِّئًا للانفجار والتوتر الدائم، ويساهم في نشوء ما يشبه الطائفة القبلية واللسانية” (ص 98).

إنّ ظاهرة الهجرة إلى المدينة تتحوّل إلى مشكلة اجتماعية حقيقية عندما يُحاول حلّها عبر الإدماج الحضري القسري، وعملية الانصهار كما أطلق عليها روبرت إزرا بارك Robert Ezra Park، فثقافة المهاجر القروي تأتي في تقابل مع ثقافة المدينة التي تتسم بسيادة الفردانية، حيث تتميز ثقافته بخضوعها للتقاليد والعادات ومنطق العشيرة. هذا يعني، من جهة أخرى، أنّ المدينة أصبحت امتدادًا للأرياف؛ ذلك أن المهاجر نقل معه أدواته الثقافية وأنساقه التواصلية وخبراته، فأضحت المدينة غنية بمظاهر الترييف، وهذا يولّد المزيد من الألم للفئة المهاجرة، فهي ترزح تحت وطأة نظام من العلامات الاجتماعية والمدنية، وتعاني الويلات في المدن الصفيحية.

إن التمييز بين سكان المدينة يمكن أن يتم بطرق أخرى، فمن العلامات الدالة والمحددة لأنواع الناس، التي يمكن التعرف بها إلى الإنسان في المدينة، النفايات التي يخلّفها؛ فهو آلة لصنع الفضلات في فضاء استحالت فيه الجوانب الإنسانية، وأصبح البعد المادي هوية هذا الفضاء. هذا يجعل سكان المدينة “أقرب إلى التجمع منهم إلى الجماعة أو المجتمع” (ص 106)، فالمدينة العربية منزوعة الهوية، وسكانها “لا خصال لهم” في لغة روبرت موزيل Robert Musil، فهم لا يشعرون بالانتماء، خصوصًا بعد أن عبثت وتيرة التغير المتسارع وإكراهات اقتصاد السوق بذاكرتهم.

ويفتتح الكاتب القسم الثاني من كتابه الموسوم بـ من علم نفس العمران إلى الاقتصاد السياسي للسان،بالحديث عن “انسدادات وتحولات”، ومن هذه الانسدادات انسداد الخاص، وهي فكرة تجد جذورها في علم السلوك الحيواني، حيث تعمل الكائنات على خصخصة مناطق نفوذها وتحددها عبر مجموعة من الآليات، وهذه الخصخصة تمتد إلى عالم البشر لتشمل كل شيء، فهي “أكثر الديناميات إيقاعًا في حياتنا اليومية بفعل تنامي النزعات الفردية، والأنانية” (ص 114).

إن كتابة كلمة “خاص” على لوحات فضاء المدينة هو استفزاز من وجهة نظر سيميولوجية، واستبعاد اجتماعي في المدينة العربية من وجهة نظر سوسيولسانية، ذلك أن التمايز بين الفضاء الخاص والعام يخلق موجة من الحقد والكراهية؛ فالخاص هو عنف رمزي لأنه يتحوّل إلى أدوات تواصلية تُمارس الإقصاء والتمييز وترسم سلسلة من علاقات السيطرة. ومن شأن ذلك أن يكرّس العزلة الاجتماعية، ومعها أشكال الإقصاء كلها، أو بلغة آكسيل هونيثAxel Honneth : “اللامرئية الاجتماعية”.

إن أبرز نتائج الفضاء الخاص تحرير قيمة الأمن وإدخالها إلى مجال السوق؛ ما يهدد قيم التضامن المجتمعي، ويُفقد الدولة أكبر مقوم لوجودها باعتبارها ضامنة الأمن والسلام. ويمكن اعتبار التحول العمراني في جوهره تحولًا نفسيًا، وشكلًا من أشكال التبعية الرمزية. فقد امتد تأثير الفضاء الجديد ليشمل علاقات إنسانية كانت سائدة في المدينة القديمة، مثل علاقة الجوار والصداقة التي يُعدّ التعاضد والاهتمام أهم ركائزها. كما فقدت المدينة طبيعتها المتسامحة التي كانت تتمثل في التعايش المشترك بين مختلف الطوائف والأديان، فقد انتقلت علاقات الجوار باعتبارها علاقة اجتماعية كانت تسود المجتمعات العربية، من الجوار المعنوي والروحي إلى التقارب الفيزيائي، بسبب المجتمع الصناعي الذي نقل المدينة العربية من مدينة القيم والتضامن إلى مدينة التناقض والنفور والبرود الاجتماعي وتزايد حدة الفردانية.

تعدّ مدينة التناقض والنفور هي فعلًا مدينة الاستعراض والضوضاء؛ فبين ظهرانيها ننتقل من “ثنائية الوجود والتملك إلى ثنائية الوجود والمظهر” (ص 127)، وأصبح كل شيء في المدينة العربية الحديثة استعراضيًا، ويصبّ جل اهتمامه على المظهر. إننا إزاء علاقات اجتماعية باردة، في مجتمع خَمول، مجتمع السهر واللهو. ولتخليص الإنسان من هذه الاستعراضية، ينبغي علاجه داخليًا بفعل التربية، مع الأخذ في الاعتبار مصادر الرموز التي تنير طريقه وتحدد موقعه في الحياة.

تحوّلت المدينة العربية الحديثة إلى سوق، والسوق تحولت إلى مدينة بسبب موجة العولمة الاقتصادية، حيث تعرض الماركات العالمية وما تتيحه هذه الأسواق العملاقة من خدمات ترفيهية؛ هذه الأسواق تبتلع بقّال الحي الذي عادة ما كانت تربطه بالزبون علاقة تجارية عاطفية، مشحونة بروح التعاون، فيقع الناس في هذه الأسواق فريسة للإشهار الرأسمالي الممنهج، وتتحول المدينة إلى آلة لاستهلاك السلع والماركات والمظاهر؛ ما يؤدي في نهاية المطاف إلى مجتمع مبذر، وحضارة “أزبال” بلغة جان بودريار Jean Baudrillard.

يتطرق الكاتب إلى “أطر السيطرة الرمزية وهوامش المقاومة الصاعدة”، متحدثًا عن تكسير نظام المدينة العربية الأكسيولساني، باعتبارها سلسلة من العلامات المعبّرة يتداخل في بنائها اللساني مع القيمي الذي يمنح المجال واللغة مضمونًا أخلاقيًا اعتباريًا. ويركز النظام الأكسيولساني الحضري سيميائيًا على السلوكين المادي والرمزي لإنسان المدينة، “في محاولة لاقتناص خصائص هذا النظام وتحولاته على المستويين السانكروني الثابت والدياكروني المنظور” (ص 136). ويحدد وظيفة هذا التكسير في إيجاد سلطان شكلي من العلاقات الدالّة عموديًا وأفقيًا لتوفير نفوذ داخل السوق اللسانية الحضرية لذوي الامتياز ولوارثيهم؛ أي توفير نوع من السيطرة لصالح فئة معيّنة.

إنّ أغرب ما تعيشه المدينة العربية اغترابها عن نفسها وعن ساكنيها، فالمدينة تتكلم إلى ساكنيها والناس يتكلمون مدنهم، إذ إنّ البعد التلفظي من مقومات وجود المدينة، بما يعنيه من خروج الذات واستعمالها الفعلي الخارجي للغة، فالذات تنكشف وتتجلى عبر التواصل، ذلك أنّ المدينة، بحسب بارك، بمنزلة مختبر اجتماعي (ص 137)، بحيث يمكّننا من مراقبة هذا الخروج عبر حركية الأفكار والظواهر. إنّ المكان يتكلم وله ذاكرة ولسان، كما ذهب إلى ذلك الأنثروبولوجي إدوارد هول Edward Hall. وهذا يعني أن في إمكاننا معرفة المدينة من خلال حاسة السمع، أي يمكننا سماع لغة ساكنيها. لكن المدن العربية – وهذا من المفارقة – لا تتحدث لغتها، إذ نصادف فيها اغترابًا لسانيًا خطِرًا، كما يرى الكاتب.

إننا نفقد السيطرة على واقعنا بفقداننا العلامات التي يمكن أن نتحكم بها في الأشياء. إننا أمام تراجع لغوي عربي لصالح تقدم اللغات الأجنبية وسيطرتها في مدننا، باعتبارها تُمثل قيم التقدم والتطور، إنها لغات تغزو الفضاء العربي وتمارس شتى أنواع العنف الرمزي.

يرى المؤلف أنّ التحول اللساني هو أيضًا عرض من أعراض مرض التمدن، إذ أصبح سمة ملازمة للمدينة العربية الحديثة، ويفسر الكاتب هذا التحول اللساني بتبنّي بعض الأنظمة التعليمية والتربوية تعدّد اللغات. وهكذا، تقترض بعض اللغات من بعضها الآخر؛ ما يؤدي إلى نشأة لغات مكسورة. أما التفسير الثاني، فهو أن الأشخاص يخلقون أنظمتهم اللغوية لتشبه أنظمة المجموعات التي يتمثلونها. وهذا التحول اللساني يعكس النفسية الحائرة والتنظيم الاجتماعي المضطرب والتنميط الثقافي.

لم يكتفِ التغيّر في المدينة العربية بالمسّ بالعمران، بل امتد ليضع يده على الفنون الأخرى من سينما، ومسرح، وغيرها من الفنون التي كانت تجري في الفضاءات الخاصة بها، لتخرج إلى الفضاء العمومي وتتحول إلى “فنون الشارع”. فقد انتقلنا من الفن بمعناه المعياري والأكاديمي إلى الفن بمعناه الواسع الحر. هذا الفن الذي نهج الكاتب تجاهه نوعًا من الرفض، قد يكون أقدر على التعبير عن مأساة الشباب العربي وتحرير طاقاتهم الإبداعية في ظل غياب التأطير، والتعبير عن معاناتهم في مدينة تتآكل. فالحي كان أشبه بمنصة انطلاق لثقافة “البانك” وفن الشارع ونوادي الموسيقى، كما تقول شارون زوكين أثناء حديثها عن “ساحة الاتحاد [Union Square] ومفارقة الفضاء العام”[2]، كما كان الحي المحمدي مهد الظاهرة الغيوانية.

تبقى المدينة العربية الحديثة متصلة ظاهريًا بالحداثة وقيمها ودينامية التحديث، ومتصلة ضمنيًا بجذورها الممتدة إلى القرية، وهذا ما توضحه ظاهرة الترييف. لكن المدينة، من جهة أخرى، استقلت عن القرية التي كانت تغذيها، وألغت الصورة التعاونية بينهما، فأصبحت المدينة بتعبير نيكولاس كراوز  Nicolas Krausz “المدينة التي تأكل” بلا توقف.

بدأت المدينة العربية الحديثة تبتعد عن الطبيعة في نظامها الغذائي لتعانق كل ما هو صناعي ومعلّب وجاهز، وهو ما يفتك بالتوازن الصحي في الحواضر، ويجعل المدينة في خانة الاستهلاك. في محاولة لعلاج هذا المرض من أمراض التمدن، يقترح الكاتب إعادة بناء الوعي، خاصة الوعي البيئي، وتبني المسؤولية البيئية والاجتماعية.

إنّ تشوّهات المدينة العربية هي تلوث بصري، يرجعه الكاتب إلى أسباب معرفية بالدرجة الأولى، فالتلوث المعماري المنتشر هو عنوان انحطاط ثقافة العمران في المجتمع، وتراجع معرفة القائمين على التخطيط. هذا التلوث هو نتاج لفساد بصري يزيد من حدته تنافر الألوان وغياب التناسق في الفضاء العام.

ومن مظاهر هذا التلوث البصري حاويات القمامة في الرُّصُف، واحتلال المحلات التجارية والمقاهي للرصيف، ولوحات الإشهار الموجودة في كل مكان على نحو عشوائي، وتشوهات في البناء من دون حس فني أو معماري، بخلاف المدينة القديمة التي تفيض بالإبداع وتعبّر عن عمق ثقافة البنّاء والمهندس وخبرتهما على حد سواء.

في ختام عمله، يتشبث الكاتب إدريس مقبول بالأمل في إعادة تنظيم مدننا العربية وفق معايير واضحة، وينبّه إلى ضرورة تجنب الاستسلام لإغراءات التقليد. ولإحداث تغيير دائم، يجب أن تكون الحلول المقدمة نابعة من مجتمعنا وأن تنمو من داخله.

إنّ اعتبار المدينة العربية الحديثة بكل مكوناتها تلوثًا بصريًا، وتَعديًا على التراث والمعمار المحليين، وتَعديًا على الهوية المحلية، يتضمن نوعًا من المغالاة والرفض للمدينة الحديثة وقيمها وتعدديتها، وهو ما قد يجعل هذا العمل يندرج في إطار الرومانسيات القومية والشعبوية التي نادت، في أكثر من سياق غربي، بالعودة إلى القيم الريفية، ورفضت المدينة باعتبارها تعبيرًا عن انحطاط حضاري. كما أن الدفاع غير المشروط عن المدينة التقليدية، أو ما يمكن أن نسميه “مدينة الهوية” باعتبارها النموذج الأمثل للاجتماع البشري، قد يتناسى أن تلك البيوت التي تشبه “حبة الرمان” لم تكن متاحة للكل، بل كانت حصرًا على عليّة القوم فحسب.

ركزّ الكاتب في محاولته تشخيص “باثولوجيات” التمدن على ربطها بـ “الهوية” وانهياراتها أكثر مما ركز على ربطها بـ “المجتمع” وأمراضه، لكن باثولوجيات التمدن تظل في رأيي باثولوجيات اجتماعية بالدرجة الأولى. لقد كان في إمكان الكاتب أن يناقش تفشي البيروقراطية التي تعيق العملية التنموية المحلية في المدن العربية؛ ما يؤدي إلى عدم تطابق المشاريع التنموية مع حاجات السكان وبُعدها عن مشاكلهم ومصالحهم[3]. بتعبير آخر، في إمكانه أن يناقش الباثولوجيات التي تضرب مختلف المؤسسات القائمة في المدينة العصرية، وانحرافاتها النيوليبرالية، بدلًا من أن يحاكم المدينة العربية الحديثة من منطلقات الهوية ومتخيلاتها، مفضلًا عليها المدينة العربية التقليدية، متغنيًا بجمالها وصفاء العيش في رحابها في نوع من العماء التاريخي. إننا أمام دراسة تخرج من اعتبارها التعدد الثقافي والمدني الذي تعرفه المدينة العربية، فكيف نتحدث عن الاغتراب اللغوي في مدينة مغربية أو جزائرية، على سبيل المثال، في مجتمع لا يعرف العربية “الفصحى” أصلًا، أو في مجتمع مركب من ثقافات وألسن متعددة ومتباينة؟

المراجعReferences                                                                                        

العربية

ظاهر، الناجم. “من الحكم المركزي إلى الحوكمة المحلية: لامركزية التنمية بين الواقع والطموح في تونس”. مجلة التخطيط العمراني والمجالي. مج 1، العدد 1 (أيلول/ سبتمبر 2019).

المالكي، عبد الرحمان. الثقافة والمجال: دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب. فاس: مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية – جامعة سيدي محمد بن عبد الله، 2015.

الأجنبية

Zukin, Sharon. Naked City: The Death and Life of Authentic Urban Places. Oxford: Oxford University Press, 2010.


[1] المرجع نفسه، ص 207.

[2] Zukin, p. 135.

[3] الناجم ظاهر، “من الحكم المركزي إلى الحوكمة المحلية: لامركزية التنمية بين الواقع والطموح في تونس”، مجلة التخطيط العمراني والمجالي، مج 1، العدد 1 (أيلول/ سبتمبر 2019)، ص 5.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق